بورخيس و«صنعة الشعر»

21-03-2007

بورخيس و«صنعة الشعر»

عندما وصل بورخيس إلى جامعة هارفرد في خريف 1967 كمحاضر زائر ليلقي سلسلة محاضرات عن الشعر كان ينظر اليه منذ زمن طويل على أنه رأسمال ثمين, وبنبرته المميزة في التقليل من قيمة نفسه كان يؤكد أنه رجل مغمور نوع من الرجل غيرالمرئي في بلاده, أما معاصروه الأميركيون فكانوا واثقين من أنه أحد الاسماء المكرسة للبقاء طويلا على مر السنين لم يكونوا مخطئين في نظرتهم, فقد صمد بورخيس لتآكل الزمن المعهود وسحر هذه المحاضرات وقوتها.. خلال أكثر من ثلاثين سنة ظلت هذه المحاضرات الست منسية دون أن تجد طريقها للنشر, بينما كان الغبار يتراكم على أشرطة التسجيل الممغنطة التي حفظت عليها المحاضرات في القبو الصامت لإحدى المكتبات وبعد أن راكمت ما يكفي من الغبار جاء اكتشافها وتنشرها مطبوعات جامعة هارفرد في عام ,1970 لتظل هذه المحاضرات محافظة على رونقها.‏

في محاضرته الأولى ( لغز الشعر) يستند إلى مقولة امرسون: ( إن أي مكتبة هي نوع من المغارة السحرية الممتلئة بالموتى ويمكن لهؤلاء الموتى أن ينبعثوا أحياء يمكن لهم أن يعودوا إلى الحياة عندما نفتح صفحاتهم).‏

وببراعة يمرر لنا عملية تذوق الشعر بقوله:( إن طعم التفاحة ليس في التفاحة نفسها- فالتفاحة بذاتها لا طعم لها- وليس في فم من يأكلها وإنما هو في التواصل بين الاثنين والشيء نفسه يحدث مع كتاب أو مجموعة من الكتب فالكتاب شيء ميت في عالم أشياء مادية إنه مجموعة رموز ميتة وعندما يأتي القارئ المناسب تظهر الكلمات إلى الحياة أو بعبارة أدق يظهر الشعر الذي تخبئه الكلمات لأن الكلمات وحدها ما هي إلا رموز محضة- ونشهد عندئذ انبعاثا للعالم)..‏

يسوق بورخيس تعريفات مثيرة للتساؤل فيه حالة تقص بالغة العمق للجماليات المستترة بين ثنايا الكلمات بعيدا عن التعاريف التي تصادفها في المعاجم أو المتعارف عليها في أكاديميات الأدب حيث يؤكد إن هنالك شيئاً أكثر أهمية بكثير .. شيء لا يشجعنا فقط على مواصلة تجريب الشعر, وإنما الاستمتاع به كذلك الاحساس بأننا نعرف كل شيء عنه...بحيث إننا نغدو نعرف ما هو الشعر ولا نستطيع معه تعريفه بكلمات أخرى مثلما نحن عاجزون عن تعريف مذاق القهوة واللون الأحمر أو الأصفر أو معنى الغضب أو الغروب مثل هذه الأشياء متجذرة فينا بحيث لا يمكن التعبير عنها إلا بهذه الرموز المشتركة التي نتداولها - الكلمات..‏

وفي محاضرته( فن حكاية القصص) يقدم رؤيته بصيغة تجعلها واضحة ومشجعة على القبول كما لو أنها نبوءة: ( الناس يتلهفون بطريقة ما إلى الملحمة أظن أن الملحمة هي من الأشياء التي يحتاج البشر اليها وبين كل الأمكنة كانت هوليود هي التي أمدت العالم بأكبر قدر من الملحمية فعندما يرى الناس في كافة أنحاء الكوكب فيلم ويسترن عند رؤيتهم ميثولوجيا الفارس والصحراء والعدالة والشريف واطلاق الرصاص وكل هذه الأشياء أظن أنهم يلتقطون الانفعال الملحمي سواء أعرفوا ذلك أم لم يعرفوه).‏

لا يلجأ بورخيس إلى أي مواربة في آرائه يقولها بصراحة رغم أن بعضها ينطوي مجازفة حقيقة في إعلان رؤية خاصة وتعميمها على الملأ كواقع قادم لعل رأيه في الرواية أوضح مثال على ذلك:( أظن أن الرواية آخذة بالإخفاق أظن أن كل هذه التجارب في الرواية وهي شديدة الجرأة والأهمية فكرة تبدلات الزمن مثلا وفكرة أن تكون الرواية محكية من قبل شخصيات مختلفة كلها تتوجه نحو اللحظة التي نشعر فيها بأن الرواية لم تعد ترافقنا).‏

مع كل كلمة وطرح جديد يحاول بورخيس إشراكنا به نلمس قوة حدسه ورؤيته الاستشرافية (ربما كنت رجلا عتيقا من القرن التاسع عشر لكنني متفائل ولدي أمل: وبما أن المستقبل يتضمن أشياء كثيرة - ربما ينطوي المستقبل على كل الأشياء- فإنني أفكر في أن الملحمة ستعود الينا وأظن أن الشاعر سيعود ليكون خالقا من جديد أعني أنه سيروي قصة وسيغنيها ايضا).‏

وفي محاضرته ( معتقد الشاعر) ينبهنا بتواضع إلى أنه يعتبر نفسه قارئا في الأساس وقد تجرأ على الكتابة ..‏

ويتابع بتواضعه الجميل مؤكدا : ( ولكنني أظن أن ما قرأته أهم بكثير مما كتبته.. فالمرء يقرأ ما يرغب فيه لكنه لا يكتب ما يرغب فيه وإنما ما يستطيعه ) وفي معرض شرحة لمعتقد الشاعر يسوق لنا آراءه في الحياة والوجود لنجد أنفسنا في حضرة فيلسوف يقول الحقيقة مختارا منها مرارتها:( نحن فنانون لأننا نتذكر زمنا لم توجد فيه ونستشف زمنا سنكون ميتين فيه) على الرغم من أن حياة إنسان تتألف من آلاف وآلاف اللحظات والأيام إلا أن هذه اللحظات الكثيرة وهذه الأيام الكثيرة يمكن لها أن تختزل في لحظة واحدة:‏

اللحظة التي يتقصى فيها الإنسان من يكون عندما يرى نفسه وجها لوجه مع نفسه..).‏

بورخيس يعلي راية الكلمة عاليا ويؤكد أن الكلمات هي أجمل ما يمكن أن يحدث لنا حيث يطلعنا على أنه قد حدثت له أشياء كثيرة كما يحدث لجميع البشر وجد متعة في أشياء كثيرة : السباحة, الكتابة, تأمل فجر أو غروب, الوقوع في الحب ولكن ( الحدث المركزي في حياتي كان وجود الكلمات ولأن متعة القارئ أكبر من متعة الكاتب فالقارئ غير مضطر إلى الإحساس بالقلق أو الغم: إنه يتطلع إلى السعادة وحسب.. لهذا يسرد لنا بورخيس قائمة بالكتب المهمة بالنسبة اليه والتي تتصدرها ( ألف ليلة وليلة) ورواية الحياة على (المسيسيبي ) و (الدون كيخوته) وشارلوك هولمز والدكتور واطسون ويتحدث عن مؤلفين أدهشوه مثل إدغار آلن ابو وأوسكار وايلد..‏

في صنعة الشعر يتحاور بورخيس مع مؤلفين ونصوص لم يفقد قط متعة العودة للاستشهاد بهم والتعليق عليهم عظمة. بورخيس تستند في جانب منها إلى العبقرية والأناقة اللتين تميزان حياته وأعماله على السواء وحيث سئل إذ ما كان الجنرال خوان دومينغوبيرون قد زاره يوما في أحلامه أجاب بورخيس: (لأحلامي أسلوبها من المستحيل أن أحلم ببيرون).‏

الكتاب ترجمة صالح علماني صادر مؤخراً عن دار المدى‏

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...