حنا مينة: النار بين أصابع امرأة 2

16-04-2007

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة 2

السيدة مارغو تتقلى, كما السمك في المقلاة, رغم أن ابنتها غبريلا كلمتها, وقالت لها: (إنني بخير.. واتركي الاسئلة إلى ما بعد) باللغة المجرية التي لا يفهمها أيهم, أو هكذا حسبت, ورغم أن فكرة الاستعانة بالأمن لم تعد واردة, لأن ما يجري فوق, في الطابق الذي يسكنه المستأجر غريب الأطوار, لا تصدر عنه أي حركة تبعث على القلق.

ولأن السيدة مارغو شغوفة جدا بعلم الاحتمالات, فان علمها هذا, لم يكن له قاعدة يستند إليها, بسبب اضطرابها, خوفها, تشوش افكارها, ولكي تخرج السمكة من المقلاة, بمعجزة النبيذ الابيض المبرد, لا بمعجزة الملكة هيلانة في القسطنطينية, وبنبوءتها بضياع ملكها, فإن السيدة مارغو قررت, أن تتذوق نبيذها البحري الفاخر, من ماركة (توكاي) بجرعات صغيرة, وهي تحرك لسانها, وتلحس شفتيها, بلذة لا يشوبها إلا التنفيص الذي أحدثه فشلها, في أن تجد قاعدة ثابتة, تنطلق منها في علم احتمالاتها, ولأنها في عِندها المأثور, لا تتقبل الفشل في أي أمر, ولا تركن إلى الهدوء, أو تستسلم للهزيمة, فقد هداها ذكاؤها الى اكتشاف العلة, التي أفقدت علم احتمالاتها ركيزته, فنهضت بهمة امرأة نصف, إلى خزانة المشروبات الروحية, وتناولت زجاجة نبيذ (ريزلنك) ذي الشهرة العالمية, وقالت في نفسها: (نبيذ التوكاي الفاخر, الأغلى ثمناً, يؤخذ قبل النوم, بعد وجبة عشاء ماتعة, وعندما يكون الزوجان, والأفضل العاشقان, قد باشرا بخلع ثيابهما, للالتفاف, كما الافعى والافعوان, بعضهما على بعض, في انجدال قوي, بعنف, مع كل تقلب محموم, أكثر فأكثر, إلى أن ينتهي بارتخاء الأوصال, وانتشاء فقرات الجسم الطويل, واسترخائها, في تكور داخل دغلي, أو في جحر, خلال اشتداد الحر في نهاية سعد الخبايا.. ان الريزلنك, وليس التوكاي, هو الانفع, الأجدى, الأفعل, في تأثيره القوي, على تصدع قشرة الدماغ, والتجلي, وتداعي الأفكار, بيسر شديد, وهذا ما يحتاجه علم الاحتمالات, الذي لا بد له من ركيزة ينطلق منها.‏

ابنة السيد مارغو, ندهتها من بسطة الدرج, لتقول لها انها بخير, والاحتمال الأول, الذي استقام علمه مع الريزلنك, ان غبريلا لم تستعمل السكين التي حملتها معها, والاحتمال الثاني أن يكون ايهم اكتشف السكين واستولى عليها, وبذلك جردها منها, والاحتمال الثالث أن يكون, حتى في العتمة, وخصوصا في العتمة, قد استولى عليه التفكير فيها, وفي اقتناصها, هي الانثى الفاتنة, وهو الذكر الوسيم, ويسند هذا الاحتمال أن ابنتها, عندما ندهتها من بسطة الدرج, كانت على ما يرام, وتفسير هذا أنها مسرورة, وبماذا تسر المرأة إلا بالتفاحة, التي أكلتها, أو هي على وشك أن تأكلها؟ غبريلا غير محرومة, فلديها زوجها, وفي غيابه لديها عشيقها غابورمولينار, إلا أن الفتاة, في سنها, ترغب في التبديل, وهذا الرجل الجديد, الوافد, هو البديل, ولم تستطع الأم, حتى مع الانصات, أن تتلقى أية اشارة من السرير الذي شهد الوقيعة, مع أن ابنتها تصرخ عادة, وصراخها فيه متعة كبرى, لطالما نعمت بها هي نفسها, دون أن تدع أحدا يعرف ذلك فيفسده, أما الاحتمال الرابع أن يكون هذا الغريب الأطوار, قد أغرى البنت, واستدرجها الى السرير, وعليه خنقها, وهذا الاحتمال له ثبت من يقين, لأن غريبي الاطوار, يخنقون المرأة بعد مضاجعتها, وقد قرأت ذلك في الصحف, وفي الدراسات النفسية, وسمعته من بعض النساء اللواتي يثرثرن حول هذه المواضيع, التي تهم المجتمع كله.‏

والاحتمال الخامس ان تكون المفاوضات بينهما لم تنته بعد, مع ان أمورا كهذه لا تحتاج الى مفاوضات, بل تفتلها المفاوضات وهذا ثابت ونابع من تجربتها الشخصية والاحتمال السادس, أن يكون الساكن الكريم, لا يزال جالسا على خازوق حقيبته, وابنتها تحاول إقناعه بالنزول عنه, والاحتمال السابع أن يكون قد انزاح عن الحقيبة, وحاول ترتيب محتوياتها فساعدته في ذلك, كبادرة تنجم عن حسن النية, المتبادلة بين الطرفين, والاحتمال الثامن أن يكون موسيقيا, أو شغوفا بتذوق الموسيقا, فدخل مع صغيرتها في حديث مشوق عنها, والاحتمال التاسع أن يكون قد قرر ترك البيت, وهي تحاول اقناعه بالبقاء فيه, وتشرح له مزايا السكن في بودا, وفي شارع شاشادي بالذات, ومتعة الاطلال منه على مناظر خلابة, لا يجدها في بيت آخر, وشارع آخر, والاحتمال العاشر والأخير, أن تكون غبريلا قد اكلت البيضة وقشرتها, ولم تترك لامها شيئا!.‏

مارغو لا تزال على بقية من شباب, وبقية من جمال, وهي انثى بعد كل شيء, وإذا لم تتزوج اكراما لابنتها, وتفرغا للسهر على رعايتها منذ مات والدها, وتأمينا لدراستها في مختلف مراحلها, وتزويجها, هي خريجة قسم الموسيقا, من موسيقي شهير, يدرس الموسيقا في ألمانيا, مصدر الموسيقا الكلاسيكية والحديثة, فان لها الحق, في أن تلحس اصابعها, مع هذا أو ذاك من الرجال الذين يسكنون بيتها, في غياب ابنتها, عند زوجها في ألمانيا, خصوصا, وعندما تسنح لها الفرص عموما, حتى في وجود ابنتها معها, وغض النظر متبادل بين الأم والبنت.‏

طالب بقاء غابريلا عند أيهم, وطال انتظار مارغو عودة ابنتها إليها, وكانت زجاجة نبيذ ريزلنك تتناقص, جرعة بعد أخرى, وتفعل فعلها مع كل جرعة مضاعفة, حتى انتفى, من ذهن الأم, أن ابنتها في خطر, وقام, كبديل عنه, ظن مشبوه, راح يتأكد رويدا رويدا, مع نفاد الصبر, ومع تصور ابنتها عارية بين ذراعي الساكن الجديد, رغم ان الاعتراض على أن تلذ ابنتها, كان غير وارد في الشعور, لكنه, في اللا شعور, كان خبثا لا شعوريا, تمتزج فيه الغيرة, مع حنان الأمومة, الغيرة الانوثية, لدى أمرأة لم تبلغ سن اليأس بعد, وحنان الأمومة لدى امرأة لم تنجب إلا هذه البنت الوحيدة, وتحت ستار من فكر العقل, أولت الأم مابها تأويلاً خاطئا وفرضياً في آن, ملقية اللوم على ابنتها لأنها تسرعت, لا لأنها اخطأت, وباعتبار هذه الام انثى مجربة, فقد كان على البنت , الانثى الساذجة بالنسبة إليها, أن تدعها تسبر غور هذا الشاب, قبل ان تذهب معه الى السرير بطيش, دافعه أكل التفاحة قبل أن تنضج بعد.‏

الأنكى من ذلك, ان هذا الساكن الجديد مجنون بدليل تصرفاته اللا معقولة, والمجانين, في رأي السيدة مارغو, اشد فحولة, وادعى إلى الامعان في طلب اللذة, والنهل منها بسعار غريب, هو سعار الكلب, الذي يهاجم, ينقض, يعض, ينهش, بدافع من سعاره, ومن هنا خطورته, ومن هنا السماح بقتله لأن شفاءه ميئوس منه, والمجنون لا يقتل كما الكلب المسعور, إلا انه يفرط في شيئين: التدخين والجنس, وقد جربت السيدة مارغو ذلك بنفسها, فاكتسبت خبرة في ترويض المجنون, مهما تكن صفة جنونه, وابنتها لا خبرة لها مع المجانين, لذلك كان عليها أن تدع امها تسبقها, فتروض هذا المجنون, في يوم, في اسبوع, في شهر, وبعد ذلك تترك لها حرية أن تذهب معه الى السرير وهي مطمئنة.‏

زجاجة نبيذ الريزلنك تتناقص, واهتياج السيدة مارغو يتزايد, يكاد أن يصبح سعارا جنسيا, فالخمرة التي تشربها, اقامت لها, نصب عينيها, شاشة بانورامية, ترى عليها, بسبب زوغان النظر المخمور, اشكالا من غرف النوم, أنواعا من الأسرة العريضة, مفاتن من الاجسام العارية, صرخات صغيرة من حناجر حادة تارة, متشنجة طورا, فيها بحة, فيها توسل, فيها أنين, فيها طلب كف عن المعركة, فيها رجوة استزادة في المعركة, وفيها انضفار جسدين افعاويين, وفيها انياب تقطر سماً, إلا انها لا تلدغ, كونها لم تصل الى التقلب, الذي فيه وحده العطب!.‏

وعندما لم تعد السيدة مارغو قادرة على الاحتمال, حاولت النهوض, لتصعد الدرج الخشبي بقدمي خفيفتي الوطء, إلا أنها كانت عاجزة عن التماسك, عن الوقوف على رجليها الرخوتين, عن الخطو إلى أمام, عن السير وصعود الدرج, لترى ماذا يجري هناك, في الطابق الأعلى, بعينيها اللتين تدوران في وقبيهما, ومع دورانهما يدور السقف, واللوحات, والصور, وايقونة العذراء, والشمعة التي تشتعل أمامها, والهالة التي تؤطر هامتها المباركة, وعند الباب, من الداخل, سقطت السيدة مارغو, وقبل أن تستسلم للنوم, لفظت كلمة واحدة: قحبة!.‏

من كانت تقصد السيدة مارغو بهذه الكلمة؟ وهل هي كلمة جاءت مع الريح ومعها ذهبت؟ واي ثأر لها مع المرأة التي اطلقت عليها هذا الوصف؟ ولماذا النعت القبيح هذا, قد دار في ذهنها, حين هذا الذهن يدور بسرعة البرق, مع كل الاشياء التي في الغرفة, إن أول ما يرد في الخاطر, في دقة التحليل, وفي بساطته معا, أن المقصود بهذه الشتيمة ابنتها التي في الطابق الأعلى, بين ذراعي المستأجر الغامض, تنهل اللذة في شبق عارم, يتشهى لهبا في العيون الغاربة مع تدفاق العسيلة, مرة ومرة ومرة, وإن الام التي, في العادة تفرح لغبطة ابنتها, في ممارسة الهوى جسديا, لا يمكن ان تكون المقصودة بهذه البذاءة, وان مرد الكلمة البذيئة ناتج عن يقظة هجوع, كان في القاع فطفا على السطح فجأة, لكن المرء لا يستريح الى مثل هذا التفسير, اذا ما أخذنا في حسابنا ان النفس البشرية, في تعدد, وتنوع, قد تتشاكل فيها المشاعر الحسية, فتسر لان ابنتها, عارية, في سرير رجل, وتغار, في الوقت نفسه, لأن ابنتها, وليست هي في سرير هذا الرجل, وعندئذ تدخل في عقدة تناقض نفسي رهيبة.‏

او كيلا يكون التفسير احادي الجانب, فان تفسير يقظة الهاجع, قد يعود الى الماضي, ويكون الراهن سببا في هذا الايقاظ, وحال السيدة مارغو له حظ من الحالين, فتصور ابنتها عارية مع رجل, يحيل إلى تصور نفسها مع رجل مماثل, قبل أن تولد هذه البنت, وربما كانت البنت ثمرته, دون ان يدري الأب, الذي هو آخر من يعلم, لأنه, من جهته, قد تكون له مثل هذه الثمرة, وزوجته آخر من يعلم, وحتى مع علم الطرفين, قد يكون هناك اتفاق مستتر, على أن الأمر كذلك, وليس غير ذلك, وعندما يسكر المرء, وتتصدع القشرة الدماغية, تنتفي الرقابة الواعية, على العقل المرن, فتنثال الذكريات الغاربة, العكس صحيح أيضا, ما دام ثمة من يصحو في السكر, ومن يستيقظ وعيه حين يسكر, وتلقى لفظة (قحبة) التي انطلقت من فم السيدة مارغو, قبل أن تذهب في سبات عميق, مفتوحة على كل الاحتمالات.‏

ان رعشة الجسم الأولى, في اليدين المتصافحتين, الحارتين, عرفتها السيدة مارغو, وزوجها انداش بكاتش, في الجامعة, عندما كانا طالبين, هو في قسم طب الاسنان, وهي في قسم الطب البشري.. كانا يلتقيان, اكثر الأيام, ولم يكن تعارفهما مصادفة, ففي الدخول الى الجامعة, والخروج منها, كان الطلاب يرى بعضهم بعضا, فيبتسم هذا الطالب لتلك الطالبة, أو تبتسم هذه الطالبة لذلك الطالب, ويوما بعد يوم يجري التعارف, سواء في كافيتريا الجامعة, أو في حديقتها, ومنذ رأى انداش مارغريت, استشعرا استلطاف احدهما للاخر, وبعد تبادل النظرات , وما فيها من ود, تجرأ انداش فدعا مارغريت إلى فنجان من القهوة, وخلال ترشفها تبادلا كلمات التعارف, والاطراء, والاعجاب, المتبادل, وانتقل اللقاء بينهما من الكافيتيريا الى مقاعد الحديقة, ثم إلى هذا أو ذاك من المقاهي أو المطاعم في بودابست, وصار كل منهما ينادي الآخر بالاسم الصغير: مارغريت, انداش, دون رسميات ودون القاب, وقامت العينان بنقل رسائل الهوى بينهما, دون كلام ودون تحفظ, إلى أن كانت الرعشة الأولى, حين وضع انداش يده على يد مارغريت, فلم تمانع, ولم تسحب يدها, في نوع من التشجيع اللا ارادي, على ضغط اليد, وبعد ذلك تقبيلها, والاستسلام الى الذراع في لذة الاسترخاء, وهي تطوق الخصر بشكل متبادل.‏

كانت تلك اسعد ايام مارغريت في الجامعة وربما اسعد ايام انداش أيضا, وصار احدهما ينادي الآخر, باسم التحبب, وسمعت مارغريت, لأول مرة في حياتها, عبارة: (حبيبتي مارغو!) وسمع هو بغبطة عبارة (حبيبي داش) وانتقل الهوى الى حب, والحب الى عشق والعشق الى تصاعد الاشواق فكان العناق, وتبادل القبل التي في حرارة الجحيم, والتصاق الجسدين في نشوة هي الشبق, وهي السكرة في النيران, وهي الطريق المفضي إلى الاتحاد في الزواج, والزواج يقتل الحب, يغتال هناءة العزوبية, ومع ذلك تتعجله مارغو, ويحذرها انداش قائلاً:‏

- دعينا نستمتع بحياتنا أكثر, ما دامت المتعة, قبل الزواج, أفضل منها بعده.‏

وترد مارغريت:‏

- كيف تكون المتعة قبل الزواج, أشد لذاذة منها بعده؟‏

يقول انداش:‏

- شرح هذا يطول يا حبيبتي.‏

- وإذا كانت حبيبتك تتوق إلى هذا الشرح مهما يطل؟‏

- ستخسر حبيبتي في هذه الحال.‏

- تخسر ماذا؟‏

- تخسر أشياء كثيرة, من حلاوة النظرة إلى ارتعاشة اليد.‏

- لن نخسر شيئاً, النظرة الحلوة ستبقى على حلاوتها, وكذلك ارتعاشة الكف في اليد الأخرى.‏

- أنت ساذجة بعد يا مارغريت!‏

- وأنت تريد أن تتسلى يا انداش!‏

- أنا لا أنكر لذة هذه التسلية التي ستقتلها طمأنينة الزواج.‏

- إذا أخذنا بهذه المقولة فلن يتزوج أحد!‏

- لا! ليس الأمر كذلك, أكثر الناس سيتزوجون, ولكن بعد الارتواء من مرحلة ما قبل الزواج.‏

- وما مدة هذا الارتواء, وما هي فلسفته؟ أنت تتهرب يا انداش, كن صريحاً وقل لا أريد الزواج, وعندئذ يذهب كل منا في طريق!‏

- كيف السبيل إلى افهام مارغريت أن الحب هو الحب, إلا أن الحب مع القلق يعيش, ومع الطمأنينة يموت؟ ولماذا لا تريد أن تفهم أن الارتواء, في فترة ما قبل الزواج , هو الارتواء الحقيقي؟ وبأي كلمات يقنعها أن الخطوبة, اخترعت في الأصل كي يتعرف الخاطبان بعضهما إلى بعض, وأن التعارف هذا صار متجاوزاً, وأصبحت الخطوبة, في حقيقتها, هي الارتواء الذي يعنيه هو؟‏

قال انداش في محاولة لشرح نفسه:‏

- افهميني, يا مارغريت, بغير خطأ..‏

احتجت مارغريت:‏

- اتهامك مرفوض يا انداش..إنني افهمك بشكل صح ودون خطأ.. لماذا تفترض أنك ذكي, وأنني غبية؟‏

- أنا لا اتهمك بالغباء أبداً, ولست أذكى منك, لكن تجارب الشاب أكبر من تجارب الفتاة.‏

- هل لانه عرف نساء كثيرات؟‏

- لهذا ولغيره أيضاً.. المرأة, يا مارغو, تحررت مع العصر الصناعي, أي منذ قرنين ونيف, ومع تحررها نالت حقوقاً كثيرة, لكنها لم تتحرر من الرجل الذي يلف شعرها بأًصابعه الخشنة ويخضعها في البيت وخارحه لما يريد هو, لا لما تريد هي, ويتمادى أكثر فيضربها, نعم! يضربها, وفي أميركا خصوصاً.. ألا تقرئين الصحف؟!‏

التعميم, هنا, لا يشمل كل النساء, فلكل قاعدة استثناء, والمرأة في أوروبا, تعامل بشكل أفضل من أميركا, ومع ذلك تبقى راغبة في الزواج, وبناء أسرة, إلا أن الطلاق أصبح شائعاً متفشياً كبقعة البترول في البحر مع الزواج المدني, وأنا لن اتزوج زواجاً مدنياً, بل زواجاً كنسياً, ضماناً للاستقرار.‏

قالت مارغو:‏

- اتعبت نفسك, يا انداش, في شرح مالا يحتاج إلى شرح, إنك تفضل الزواج الكنسي, لماذا؟ لأنه زواج كاثوليكي, لا طلاق معه, وهكذا تضع القيد في يدي, لأنه ليس أمامي سوى الهجر, تهجرني تدعني للعذاب, وتلعب على هواك..‏

وقد تضربني, ما دام الطلاق غير وارد, وتالياً الزواج, من غيرك, غير وارد أيضاً, وأنت, في هذه الحال, ولأنك رجل, في وسعك أن تكون لك عشيقة, بينما أنا, وحتى مع تحرر المرأة‏

مع العصر الصناعي, ليس في وسعي أن يكون لي عشيق في العلن, هل ادركت, الآن, الفارق بين الرجل والمرأة, يا عزيزي المغرم بالتاريخ, وغير المستنكر لضرب المرأة؟‏

غادرا مقعدهما في حديقة الجامعة راحا يتخطران في مشي رويد,كل منهما يفكر بما سمع من الآخر, في نقاش ليس عقيماً,أو تافهاً,أو فيه تشاطر مرده الى الرغبة في التفوق,إنما ينطوي على تناقض بين الذكور والأنوثة,وسخرية مبطنة وقول صريح لا يشكل جداراً بينهما أو يكامن من حبهما,أو يخفف من الاشتهاء المتبادل .‏

غير أن التفاهم يكاد يكون مفقوداً فمارغو ترغب في الزواج,ليكون كل شيء وفق العرف السائد تماماً وانداش يحب مارغو حباً حقيقياً وسيتزوجها زواجاً مدنياً كما تريد,لأنه هو نفسه الكاثوليكي المؤمن, يضيق بالزواج الكاثوليكي,الذي ليس نكتة سائدة,أو مقولة متداولة كعلامة على ارتباط زوجي لا انفكاك منه وإنما لأن الزمن تجاوزه,فصار قيداً بدل أن يكون وسيلة لسعادة مقبلة,وصار مألوفاً وانداش عنيد في رفضه المألوف, ومصر على اختراق هذا المألوف,لمجرد أنه مألوف, على من يتقبله أن يستسلم للسائد,ويخضع له,كقدر محتوم,فالفارق الصغير في بعض الحالات,خطير في معطياته رغم صغره وبسبب من صغره في الاندياحات التي تترتب عليه والنتائج التي هي أكبر مما يظن للوهلة الأولى والتي يفرزها السياق الاجتماعي والتاريخي,السياق الذي دأبه الحركة عمدوه السكون وتبقى المسألة الشائكة في كيفية تفهيم الآخر كل هذه المخاطر.‏

قال انداش لمارغو:‏

- قلت سأتزوجك يعني سأتزوجك, فالكلمة عندي قسم,وسيكون زواجنا مدنياً لا كاثوليكياً,أي أنك حرة,تفسخين عقد الزواج متى تريدين إنما هناك الفهم المتبادل للحياة,وهنا نقطة الخلاف بيننا,ففهمنا للحياة متفارق رغم أن كل منا يدرس الطب..‏

قاطعته مارغو:‏

- أنا سأترك دراسة الطب,سواء تزوجنا أم لم نتزوج!‏

- وماذا تدرسين غيره؟‏

- لاأدري حالياً,لكنني,بعد ترك دراسة الطب سأختار ومن المرجح أقول من المرجح لا المؤكد,أنني سأدرس الموسيقا.‏

- الموسيقا!؟‏

- ولماذا الاستغراب؟‏

- لأنك تقفزين,بذلك من طرف الى آخر .. الطب يا مارغو له علاقة بالجسم, والموسيقا لها علاقة بالروح,وإذا لم أكن مخطئاً في استشرافي فإنك لن تدرسي الموسيقا إذا تركت الطب ,وهذا مؤسف!‏

- بلى ! سأدرس الموسيقا!‏

- هرباً من التشريح!‏

- أصبت .. لا أستطيع رؤية الانسان جثة والمشارط تتناهشها.‏

- قد يكون هذا صحيحاً .. أنا أيضاً أكره التشريح,لذلك اخترت طب الأسنان إنما دراسة الموسيقا لها شرطان: الأول هو الولع بها,والثاني أن تكون لمن يدرس الموسيقا أذن موسيقية والشرطان غير متوفرين فيك.‏

- وما أدراك أنت؟‏

- حسن الاستشراف,والمعاشرة,ورغبتك عن حضور الأمسيات الموسيقية ..أنصحك,يا مارغو إذا تركت دراسة الطب أن تدرسي التدبير المنزلي!‏

- أنت أبله,تنقصك الفطنة إذا كنت جاداً فيما تقول!‏

- وصفي بالبله,ونقصان الفطنة,قد يكونان صحيحين .. لكنني جاد فيما أقول التدبير المنزلي أحد فروع التخصص ومادته تدرس في مختلف المراحل الدراسية.‏

- ألا تلاحظ أنك تتعمد إهانتي؟‏

- الاهانة لاتكون مع الصدق.. سقراط قال:»صديقك ممن صدقك لا من صدقك) وأنا أصدقك القول .. هذا كل ما في الأمر.‏

- وأنا, بدوري أصدقك القول.. أنت,ياداش,تصلح لخلع الأسنان أكثر مما تصلح للفلسفة!‏

-خلع الأسنان مهنة,والتدبير المنزلي مهنة,وليبتعد كلانا عن الهراء الذي لا طائل تحته متى تريدين أن نتزوج .‏

- أنا لن أتزوج خالع أسنان!‏

-بلى! ستتزوجينه!‏

-يتبع‏

حنا مينة

المصدر: الثورة 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...