رحيـل الروائـي الإسـباني ميغيـل ديليبيـس

19-03-2010

رحيـل الروائـي الإسـباني ميغيـل ديليبيـس

غيب الموت نهار الجمعة الماضي، الكاتب الإسباني ميغيل ديليبيس عن عمر 89 عاما، بعد معاناة مع المرض منذ سنوات، وفق ما أوردته وسائل الإعلام الإسبانية، التي اعتبرته واحدا من «معلمي الآداب باللغة الإسبانية في القرن العشريميغيـل ديليبيـسن» و»أحد عارفي الروح القشتالية».
حاز ديليبيس العديد من الجوائز، أبرزها جائزة ثربانتس العام 1993، التي تعتبر أرفع الجوائز الأدبية في العالم الناطق بالاسبانية، والجائزة الوطنية للآداب الاسبانية العام 1991. حولت العديد من رواياته إلى السينما، مثلما ترجمت إلى العديد من اللغات بما فيها العربية. هنا مقالة تعريفية.

بدون شك، شكل ميغيل ديليبيس واحدا من أشهر وأكبر روائيي اسبانيا في العصر الحديث، على الرغم من أن كاميلو خوسيه ثيلا، حاز بدلا منه جائزة نوبل للآداب العام 1989. إذ ينتمي الكاتبان إلى الجيل الأدبي نفسه، بيد أن إنتاج ديليبيس أغزر وأوفر وأمتن. ولو صدقنا مقولة المعيار السياسي لنوبل، لقلنا إن ثيلا كان واحدا من الفرنكويين وأحد الرقباء على الأدب في فترة «الفاشية»، ما بعد الحرب الأهلية، بينما كان ديليبيس احد «المعارضين» (بشكل غير مباشر، وبعيدا عن الخطاب المباشر) لذلك النظام حتى انه أعفي من عمله، كمدير تحرير صحيفة يومية، نظرا لما يتمتع به من بعض شجاعة.
في أي حال، ثمة أجزاء من التاريخ قد كتبت الآن، إلا أن ذلك لا يمنع من اكتشاف قامة وارفة في الرواية الاسبانية الحديثة. يقال عنه انه كان، دائما، يلف سيجارته بنفسه كما وصف ذلك في إحدى رواياته. كان يلفها «آليا وباحتفالية، إذ يضع الورقة على سبابة يده اليسرى، تحت رحمة نفحته، بينما أصابعه الأخرى تمسك العلبة الحديدية المفتوحة (علبة التبغ) لتغرف يده اليمنى منها، «التبغ الأسود». ولو أكملنا قراءة هذه الرواية، لفهمنا انه في نهاية الخمسينيات والستينيات، كانت دفاتر أوراق السجائر في اسبانيا، تحمل، قبل عدة أوراق من النهاية، ورقة حمراء تشير، للمدخن، بأن «النهاية» أصبحت قريبة، أي أن على الشخص الذي يستعمله، شراء دفتر آخر. من هنا، نشر ميغيل ديليبيس، في العام 1958، رواية بعنوان «الورقة الحمراء»، حيث أشارت هذه الورقة الرواية، رمزيا، إلى تقاعد بطله. بينما كان الكاتب لا يزال في الثامنة والثلاثين من عمره.
بعد تلك الفترة، بزمن طويل أي في العام 1991 وجد ميغيل ديليبيس، ورقة حمراء، أخرى، في دفتر حياته الكبير، إذ نشر كتاب «سيدة ترتدي اللون الأحمر على خلفية رمادية». قبل صدور كتابه هذا، بزمن طويل، كان أعلن انه لا يريد الاستمرار في الكتابة، على الأقل، لن يكتب الروايات. قبل رواية «سيدة...» لم تكن هناك سوى أوراق السواد والحداد، إذ عاش موت زوجته، التي أنجبت له 7 أطفال. غرق في انهيار معتم، صمت سنوات طويلة، بيد أن الألم والتعب اللذين عاشهما، دفعاه لأن يستل القلم مجددا، ليسحب نفسه من هذا الألم الذي استمر 15 سنة. الحصيلة: كتاب محموم، ثاقب، نافذ، عبر قصة تعتمد على تفاصيل السيرة الذاتية، ليروي فيها قصة فنان رسام يمر بأزمة إبداع، يتحدث إلى ابنته، التي عرفت السجن زمن فرنكو، عن احتضار زوجته المحبوبة. عبر هذه المرأة «التي ترتدي الأحمر على خلفية رمادية»، يتخلص من الحزن، عبر البوح بإخلاص حاد، عبر انفتاحه مجددا على العالم. جاءت الرواية لتبدو كأنها المدماك الأخير لحياة أدبية طويلة ورائعة، لدرجة أن الجميع ظنوا أن الكاتب أدار هذه المرة ورقته الحمراء، وأعلن تقاعده الفعلي بعد أن خلف وراءه أكثر من خمسين كتابا، من بينها 17 رواية.. وبالرغم من هذا العدد، وصف ديليبيس نفسه دائما، بأنه ليس كاتبا، بل «صياد يكتب» كما انه «ليس متشائما، بل بالأحرى متواضع مطلع».
بعد روايته، انسحب الكاتب، في الواقع، من الحياة، إذ لم يعد يشاهد في المدينة، مدينته «بلد الوليد»، كما لم يعد يتردد إلى حقول «سيدانو»، تلك المنطقة الريفية حيث كان يصطاد السمك والعصافير: «كتبت يوما أن الصياد رجل يحرر نفسه، لأنه، حين يطلق النار، يضع كل كآبته وحزنه وألمه في الطلقة التي يوجهها إلى مؤخرة الأرنب».
وعود مغدورة
بيد أن وعوده في التوقف عن الكتابة لم تنجح، إذ ثمة آلام، يوقفها رصاص المطبعة أكثر مما يوقفها رصاص الصيد. لذلك، عاد في العام 1998 ليصدر روايته «الملحد» (أو «الهرطوقي») التي تقع في 500 صفحة، وهي رواية تاريخية عن مدينة «بلد الوليد»، في القرن الخامس عشر، لحظة دخول الإصلاح البروتستانتي اسبانيا، واستئصاله عبر محاكم التفتيش والتعذيب وحتى الإعدام حرقا في الساحة العامة في 21 أيار 1559. جاءت «الملحد» لتشكل مفاجأة ما، إذ لم يكن ديليبيس قد نشر قبلا أي رواية تاريخية، كما انه لم يكتب قبل تلك الفترة أي كتاب في 500 صفحة، ولا أي قصة لا تعتمد بشكل أو بآخر على سيرته الذاتية.
ربما كان علينا أن نستعيد خيط التاريخ، تاريخ ديليبيس، كما خيط جيله في الحرب الأهلية تحت حكم فرنكو، لكي نفهم لماذا خصص سنواته الأخيرة، وجهوده في الكتابة، للبحث عن درس شجاعة وعن الإيمان بآرائه: «ما من اسباني واحد، عمره أكثر من ستين سنة، إلا وله علاقة بتاريخ فرنكو».
ولد ميجيل ديليبيس تحت خانة الخوف من الموت، الخوف من موت والده (كان عمر هذا الوالد أكثر من 50 سنة حين جاء ابنه إلى الحياة يوم 17 تشرين الأول من العام 1920)، إذ كان الناس يموتون في هذا العمر، في تلك السنوات. احتفل بميلاده، بخبر صغير نشر في صحيفة El Norte de Castilla، وهي الصحيفة الليبرالية التي أصبح مديرها في ما بعد. ينحدر اسمه من فرنسا، من جده فريدريك (وهو من مدينة تولوز) الذي أصبح يدعى فديريكو عندما اجتاز جبال «البيرينيه» نهائيا. كان نجارا، وهو اختصاصي في مد الأنفاق، كذلك ساهم في تطوير خط السكة الحديد في شمال اسبانيا. كان فديريكو ابن عم ليو ديليبيس، المؤلف الموسيقي الشهير.
رافق ميغيل والده في رحلات صيده، يحمل له الجعبة، وبما انه اظهر براعة، استحق أن يرث البندقية. فاجأته الحرب الأهلية وهو مراهق بعد. كان في السادسة عشرة، في صف البكالوريا، لذلك لم يفهم منها شيئا. كان يلعب «البوكر» بمهارة شديدة حين اكتشف انه مطلوب للتجنيد، إذ ان «بلد الوليد» كانت أولى المدن التي تحالفت مع القوميين. في العام 1938، قرر ديليبيس مع أصدقائه في لعب البوكر، أن يستبقوا هذا النداء ليدخلوا إلى البحرية، لتجنب الحرب، أي «أن لا يكون هناك أي شخص في خط إطلاقهم النار»، لأن الحرب الأهلية لم تستوجب المعارك البحرية. بيد أن البحرية كانت «قومية» وكسبت الحرب مع فرنكو.
سُرح من البحرية العام 1939، عاد إلى دروسه في التجارة والحقوق ليحصل على شهادته. لم تستهوه مهنة التعليم، فدخل إلى صحيفة «ال نورتيه دو كاستيلا» العام 1945 كفنان كاريكاتير، وبعد عدة سنوات، استفاد من إزاحة 3 محررين من قبل الرقابة الفرنكوية، ليحصل على منصب محرر، بعد أن تلقى دورات مكثفة في مدريد.
ما إن مضت مرحلة الشباب، وما إن تعمقت سلالم التراتبية، وعى ديليبيس واقع النظام والرقابة: من منع أقل إشارة عن مجيء فريق الاتحاد السوفياتي لكرة القدم إلى اسبانيا ولغاية الإشارات الحازمة التي أرسلتها مدريد في العام 1955 (وكان يومها مدير الصحيفة) للانتباه إلى موت الفيلسوف اورتيغا أي غراسيه، ونشر مقالة واحدة في عمودين، على أن لا يظهر فيها اسم الميت أكثر من مرتين، بالإضافة إلى منع وصفه بالمايسترو.
المقاومة
في تلك الفترة، بدأ ديليبيس بالالتحاق في المقاومة، بخطوات صغيرة، حيث كان المطلوب التسرب بعمق في كل شقوق النظام، وفي كل الفضاءات الممكنة بين اختيار المنفى أو الخضوع. لقد كان الأدب، بدوره، ضحية الحرب الأهلية، إذ ان الكتاب كانوا يرحلون أو يسكتون. إلا أن ديليبيس ظل يكتب وينشر. وموضوعاته: الدفاع عن الريف الكاستيلاني، وعن عزة نفس السكان، ما سمح له بأن لا يتواجه كثيرا مع الرقابة. كانت شهرته تحميه وإن كانت كل رواية من رواياته تتعرض لبتر عدة صفحات منها: «علينا أن نثق بحماقة الرقباء، اذكر أنهم جعلوني أقتطع من احد كتبي، وكان كله عن فكرة الحرية، مقطعا يروي عن انقلاب قطار محمل بالبرتقال، إذ بدا لهم ذلك الأمر غير محتمل في فترة كان الناس يموتون فيها من الجوع. أما بقية الكتاب فلم يفهموه». كانت الرقابة أشد على الصحافي الذي فيه منها على الروائي الذي داخله. منعت تحقيقات قام بها، لذلك أعطاها خطا ثانيا، أي ولد منها كتاب «قصص كاستيلا القديمة». كان أول مدير صحيفة خالف قرار نشر كل خطابات الجنرال حرفيا إذ كان يلخصها، ولم يمض الأمر مرور الكرام.
بدءا من العام 1961، بدأت مدريد باستدعائه أسبوعيا للإجابة عن سياسته الصحافية التي اعتبرت ليبرالية جدا ومناطقية جدا. خدمه انه يبدو كشخص متفرد أكثر منه معارضا، مع العلم أن الأمر ما لبث أن انتهى به إلى الإعفاء من منصبه. قد يكون هذا الإعفاء، السبب الرئيسي، في انكبابه على الرواية، وعلى تأليف الكتب، التي نكتشف منها، كتاب «المجنون» (صدر عن شرقيات، بترجمة عبد اسلسلام باشا)، الذي يحار المرء في تصنيفه، أي هل هو قصة طويلة أم رواية صغيرة. ومهما يكن من أمر، فإن مجنون ديليبيس، لا يبدو «مجنونا» كما يوحي الأمر، وان كانت ثمة مسحات من ذلك. انه «لينوير»، موظف متواضع في احد البنوك في مدينة اسبانية صغيرة، لا اسم لها، وإن كنا نتخيل انها «بلد الوليد»، مسقط رأس الكاتب. ذات مساء، يلاحظ لينوير، في احدى الخمارات، هيئة شخص غريب (نعرف في ما بعد انه يدعى روبينيت) كأنه انبثق مما وراء الوعي. لقد سيــطرت علــيه هذه الهيئة لدرجة انها أفقدته رشــده. أفقدته قياس هذه الحياة البسيطة والهانــئة التي كان يحياها.
نظن انها «بلد الوليد» لسبب بسيط هو أن هذه الحكاية «الفانتازية البوليسية» غير الواقعية تقريبا تبدو كأنها تحليل نفسي لسيرة ذاتية. في واقع الأمر، ليس من قبيل الصدفة أن نجد أن البطل الكاستيلاني يحمل اسما فرنسيا صرفا، كما أن تجد الحبكة حلها في مدينة «بو» الفرنسية الواقعة وراء جبال «البيرينيه». فديليبيس اسم فرنسي كما أسلفنا، ونحن نجد هذا التفصيل «البيوغرافي» الصرف في الصفحة 27 حين يقول الكاتب: «عندما سمعت سانشت انتبهت لأول مرة إلى أن اسم عائلتي فرنسي مثل روبينت وقلت: هذه نقطة اتصال أخرى. لكن لدى خروجي فكرت: «ماذا في اسم عائلتي الفرنسية من خصوصية؟ لأنني كنت أتذكر دائما حكاية جدي لينوير عندما جاء ليمد مرحلة من سكة حديد رينوسا سانتندير، وفي إحدى القرى التي يحفرون فيها نفقا تعرف الى جدتي. وقال أبوها الذي كان قوميا متعصبا: «لن تكون ابنتي لفرنسي»، لكن الجد لينوير المعتاد على تفتيت الصخور لم يجد مانعــا حقيقيا في قلب الجدة..».
ثمة ملاحظة هنا، لا بد من أن تفرض نفسها، حول الترجمة العربية، وبخاصة تعريب الأسماء، إذ بما أن الكاتب يتحدث عن الأصول الفرنسية أجدني منساقا إلى القــول ان اســم لينوير، ليس في الواقع إلا اسم لونوار (الأســود) كما أن اسم روبينيت ليس سوى اسم «روبينيه» (الحنفية).
على كل، تلعب رواية «المجنون»، في أدب ديليبيس، دور المخرج لقتل هذه الذاكرة الفرنسية. وفي قتلها، يعطيها مكانا في الماضي المشتهى. قد يكون من الصعب أن نزيد في رواية القصة، إذ انها تفسد متعة التقدم خطوة خطوة، في هذا العرض الصافي للغز البوليسي. لنقل إننا نلتقي فيها خيالات وبانتحار مزور لجريمة حقيقية، وبخمارة مليئة بالدخان وبرسام من الدرجة الأولى يبحث بشكل مرضي مليء بالغيرة حول سر هذا المجد الذي أعطــي للجــوكوندا.. فعبر هذا البحث اللامنطــقي، يتــبع الراوي طريق دفن والــده الــذي لم يــكن جديرا أن يقوم به في الماضي، إذ تيــتم وهو شـاب صغير بعد.
كذلك نجده يتوجه بالكلمات البسيطة إلى أخيه الصغير دابيستو الذي اختفى عن الوجود يوم موت الأب. انه أخ من لحم ودم، لكنه أخ مجرد، إذ لم يره مجددا بعد ذلك. من هنا يتوجه كلامه إلى الغائب، هذا الغائب المضطرب كثيرا كي يواجه الحاضر. «اجلس يا دابيستو، اشعل سيجارة إن كنت تدخن (على الرغم من أنني لا أنصحك بهذا، إذ يتزايد الاعتقاد هنا أن التبغ احد مسببات السرطان الأساســية) واقرأ هذه الصفحات بعناية لأنني سوف أشــرح لك كل شيء على طريقتي..» (ص11).
من هذه الصفحات، يشكل الروائي الكتاب، يشكل هذا السرد العائد للهوس، للجنون الذي يضطلع به، الذي يعترف به بكل الدقة وبكل الشك الصريح الذي تسمح به هذه النظرة العارية، الحامية أحيانا، الموضوعة على نفسها. يعترف لينوير بالجنون، لكنه لا يستطيع أن ينزع عنه فكرة أن هذا الظل الذي رآه، أن روبينيت الخيالي والجذاب الذي جاء من بعيد، يجيء من لدن الوالد. قلت إنني لن أتحدث عن التفاصيل، ومع ذلك، أشير هنا إلى العودة إلى مدينة «بو»، إلى هذا الموظف المثالي الذي أصبح مغامرا جموحا، إلى هذه الجدران المخرمشة بالذكريات الخبيثة، حيث يأتي إصــبع طــفل ناعم ليوقــظها، ليوقــظ هذه اللغة المنســية المقطوعة، أشير أيضا إلى الزوجة البريئة، المسؤولة عن الولادة والسفر، التي تحكي له الكلــمات الفرنــسية التي لا علاقــة لها بها. كما علينا أن نشير إلى هــذا اللــقاء الذي حصل مع روبيــنيت، والــذي هو لــقاء آخاذ، كأنه أشبه «بفرس» (Farce) تراجــيدي، يخترعه هنا، كنــوع حيــاة، كأســطورة مؤسسة وعقيمة.
عبر سفر في الكلام والرؤى، نصل إلى هذه النهاية السعيدة، العقلانية جدا، لدرجة أنها تبدو غير واقعية.. سفر نتزود فيه جيدا بالجنون لنصل إلى أقصى درجات: الصمت.. أخبار علينا أن نقرأها، ومعها نكتشف أن ديليبيس ليس فقط كاتب ريف (كما يتبدى في ثلاثيته «الجرذان» و»القديسون الأبرياء» و»الدرب») وإنما أيضا كاتب مدينة.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...