طوم تايكوير يحول رواية «العطر» إلى فيلم

08-03-2007

طوم تايكوير يحول رواية «العطر» إلى فيلم

"احتك بالكبار تتحوّل واحداً منهم"، هذه هي النصيحة التي يعمل بها الالماني طوم تايكوير. بعد بدايات باهرة مع الفيلم التجريبي، "اركضي، لولا أركضي" (1999)، اقتبس، بين أشياء أخرى، نصاً سيناريستياً رصيناً للراحل كيسلوفسكي، فكان "سماء" الذي تضمّن توزيعاً عالمياً للادوار (كايت بلانشيت، جيوفاني ريبيزي). ثم كان لا بدّ لبصمته أن ترشّحه لانجاز فصل من الفصول العشرين لـ"باريس، أحبك"، مجايراً كباراً من مثل غاس فان سانت أو الأخوين كووين، جنباً الى جنب. وها هو الآن ينقل الى الشاشة رواية "العطر" لمواطنه باتريك زوسكيند، الكتاب الذي حاول ستانلي كوبريك تحويله فيلماً حين كان لا يزال على قيد الحياة. ألا ينمّ هذا كله عن الرغبة في الاحتكاك بالكبار؟ بل أكثر: الرغبة في تحدّي هؤلاء الكبار، وفي طليعتهم كاتب الرواية الذي رفض مراراً أن يبيع حقوق الاقتباس الا من شركة تضمن له ان يكون كوبريك هو الذي سيتولى الاخراج. نعم انه تحدّ، وخصوصاً اذا تذكرنا ان المعلم وصاحب "دروب المجد" الذي كان يتحلى بحاسة شمّ قوية، كان ادرك سريعاً ان من المتعذر اقتباس هذه الرواية.
ليس جائزاً، تحت اي ذريعة، ان نعزو سبب عزوف كوبريك الى ان السينما غير قادرة (بعد؟) على بعث الرائحة في ارجاء الصالة، مثلما ينبعث النور من بؤرة الضوء الى الرقعة المستطيلة أمامنا. بلى، الترجمة البصرية لتايكوير تبهّت هذه الفرضية. ماذا يعني أن تكون الرائحة في مطلق أيّ فيلم قابلة للشّم؟ وهل هي كذلك في الروايات؟ اذاً، هذه الحجة التي تمسك بها كل من أخفق في ايجاد بديل بصري من القصة (بينهم: مارتن سكورسيزي وميلوش فورمان) منذ 22 عاماً، تاريخ صدور الكتاب، تتبدد اليوم مع نزول "العطر: رواية قاتل" الى الصالات، وإن لم يبلغ الاقتباس مرتبة تجعل كوبريك يتحرك في قبره من الغيرة. شخص ذو مواهب فوق طبيعية وجهاً الى وجه مع محيط شُلّ التواصل بينهما؛ الموهبة والطموح اللذان يصلان الى القتل، هذه بعض التيمات الاساسية التي كان تمحور عليها كوبريك لو أن الفيلم حمل توقيعه. هذا الاتجاه ينجرّ اليه فيلم تايكور في بعض فصوله، لا سيما في البداية، مبرهناً انه المخرج المناسب في الموقع المناسب، بغض الطرف عن خياراته التي قد نؤيدها او نحتج عليها، لكن لا يمكن تجاهلها. يحمل الفيلم ميزة انه يلتصق بجلد بطله المضاد طوال ساعتين ونصف ساعة، متماهياً مع سذاجته ووحشيته وغريزته، حتى الهلاك. هذا الفيلم لا يساوم. لا يعترف برقابة ذاتية، ولا يقبل أقل من ان يسمّي الاشياء بمسمياتها، عاملاً بمنطق "الاسلوب هو الرجل". واذا اردنا عقد مقارنة، فإن فيرنير هيرتسوغ هو الذي يُستحضر الى البال، قبل سواه. ثمة تأثير باطني، وإن جزئي، لا يستطيع تايكوير انكاره، مارسه عليه ذلك المخرج الذي جعل السفن تمخر الجبال بقيادة كلاوس كينسكي. هذا لنقول ان الفيلم ينحدر من هذا التقليد الالماني الذي يعي الوصف. مع بعض الانحياز طبعاً الى التراث البصري الهوليوودي القائم على تحويل كل شيء الى استعراض مذهل، وتعبئة اللقطات شرحاً، وتبريراً، وصولاً الى سقطة النهاية التي ينبغي ان تفعل فعلتها في المتلقي.
على الصعيد التقني، دعونا لا ننسى براعة الشريط الصوتي والذبذبات الالكترونية والموسيقى التصويرية لجوني كلايمك ورينير هيل وتايكوير بذاته. ينبغي كذلك الاشادة بجودة الاضاءة (فرانك غريب) الذي يبرع في تحريك الكاميرا في الحالتين، المعتمة والمضيئة، تحريكاً يفصح عن الملايين التي انفقت على الديكور والملابس واستئجار الحشود. لسنا هنا لمقارنة الفيلم بالرواية، أولاً، لأننا لم نقرأها، ثانياً لأننا لا نؤمن بأن على الشريط ان يكون نسخاً صورياً للاصل الروائي. فالادب له خياله الخاص، ويطلق العنان لمخيلة القارىء كي تسبح بعيداً. اما السينما، فبالعكس، تحدّ من تلك المخيلة. يُفتتح الشريط على مشهد عام لمدينة باريس في منتصف القرن الثامن عشر، صمّم له الديكور أولي هانيش. احياء متسخة وناس يسبحون في قذاراتهم. وسط هذه الاجواء المقززة، نرى امرأة تعوّدت ان تنجب أطفالاً في بضع ثوان لترميهم في القمامة، لامبالية بهم تماماً. لن يكون هذا مصير جان باتيست غرونوي (بن ويشو، المرعب في امكان تحوّله الى حيوان بشري)، بل سيكون شخصية في حكاية لا أحد يتوقع خاتمتها السوريالية ولا التفاصيل الغرائبية، كأنما الفالتة من عند ادغار الآن بو أو تيم برتون (كان ايضاً على لائحة السينمائيين المرشحين لاخراج الفيلم). سيكون لهذا الصبيّ طفولة قاسية كلياً، يكتشف خلالها بعضاً من موهبته الدفينة، ثم ينتهي في مرحلة متقدمة من شبابه في مسلخ حيث الروائح الكريهة واسراب الذباب تموج في المكان متنقلة بين الجيف والعظام. ستدخل حياته في مرحلة اخرى عندما يتعرف الى العطّار بالديني الذي ذاع صيته آنذاك (داستن هوفمان في نمرة تحبس الانفاس). لاحقاً، سيكتشف غرونوي انه بلا رائحة، ثم، تدريجاً، ستدفعه غريزة الشمّ المتفاقمة عنده الى ارتكباب أفظع الجرائم، لكننا سندعكم تكتشفون ملابساتها بأنفسكم.
رغم موهبته الاكيدة في اشاعة أجواء تنم عن ايمان عميق بالسينما، فإن المشكلة مع تايكوير هي الاتية: لديه عادات فيلمية تمنح الانطباع بأن المخرج لا يأخذ مضمونه على محمل الجد، مطارداً هموماً أخرى من النوع السطحي. أو العكس، يأتي بالجدية أكثر مما يلزم، وهذا ما يجعل الفيلم تائهاً بين أصناف سينمائية، فتارة يكون باروكياً وطوراً نراه ينحو الى الشفافية. لكنه يتعذب لكي يجد هوية خاصة به، صريحة، وغير مركّبة من جزئيات متناثرة. كأن المخرج يختبر بنفسه اشياء جديدة في منأى من جمهوره، منتهجاً ما يتماشى وعقيدته السينمائية. في صريح العبارة، لم تكن مهمة تايكوير غاية في السهولة، وخصوصاً في ما يتعلق بابتكار حيل توحي اننا نشمّ ما يشمّه غرونوي، في المشاهد الاولى للفيلم. لهذا الغرض، يبتكر المخرج لغة سينمائية، او بالاحرى يقف على عتبة الابتكار لأنه لا يجد ما يوازي حاسة الشمّ سوى الـ"كلوز أب" على أنف بطله وهو... يشم. تتكرر هذه الرؤية السهلة البسيطة التي تمنح الفيلم طابعاً خطياً. مثال: لقطات مما يشمّه غرونوي (تفاحة، غصن، أوراق شجر)، ثم تنتقل الكاميرا عليه، وهكذا دواليك. لكن يسقط من حساب تايكوير ان ما يشمّه غرونوي يختلف تماماً عما نشمّه نحن: اللا شيء. هنا نعود الى ما ذكرناه آنفاً، في ان عدم قدرة السينما على بعث الروائح حجة غير مقنعة، ونناقضه: هناك فعلاً فصول ادبية قائمة على الوصف، اراد المخرج ان يكون مخلصاً لها، لكن لم يجد مَخرجاً الا في التعليق الصوتي الذي أثقل كاهل الفيلم.
مع دخول هوفمان الى الكادر، يتعزز الجانب الغرائبي للفيلم، ويتوحد القدران، موتاً ونهاية قذرة. لعل هذا اللقاء بين رجل ينام على أمجاد ماضيه (بالديني/ هوفمان) وآخر يترك بصمات دامغة اينما ذهب (غرونوي)، سيكون محورياً، على أكثر من صعيد. هناك في تلك اللحظة المتباعدة بين الماضي والمستقبل، سيُصنع الحاضر، ويكسو عظام الفيلم باللحم، ولن يكون ثمة عودة الى الخلف. لن يكون ثمة توبة لدى ايٍّ كان. تكمن براعة الفيلم في انه يذهب الى ما خلف الحواجز، ويشبه البطل الذي يصوّره الى حدّ بعيد، ولا يتقيد بالحلول الوسطى. الانكى انه يريد أن نصدّق أن المسألة هي مسألة شخص مهووس بهوسه ومريض بمرضه. ويتبدى ان تايكوير أقرب الى نظرية روسو (مَن يفسد الآخر، المجتمع أم الفرد؟) منه الى محاولة فهم حالة مرضية بطريقة مختبرية. هذه العناصر كلها تشكل سلسلة مترابطة من النقاط الايجابية التي تُحسب لصالح الفيلم وتجعله يحلّق عالياً في سماء سينما الغرائبيات.
بعد رحلة تعذيب في عالم سفليّ، في صحبة الكثير مما يبعث على القرف (امعاء حيوانات، تقيؤ والى ما هنالك)، يتحول مسار الفيلم الى ما هو اكثر نقاء من كل هذه اللقطات المتراصة والمستفزة، وذلك نتيجة تلصص فريد من نوعه. سنرافق غرونوي الى الريف حيث سيرتكب جرائمه كلها ويستخرج من أجساد ضحاياه عطراً مثاليّاً. من هنا وصاعداً، يشتغل المخرج لجعل كل ما نراه على الشاشة مثيراً للجدل، وينجح في ذلك، اذ ليس من لحظة سينمائية تمرّ من دون ان تثار حولها مشاعر متضاربة. لكن هذا الساحر خلف الكاميرا يعرف اسرار الجذب، ويبرع في كلّ ما هو مشهدي واستعراضي وغرائزي، حتى لو لامست جماليته "الكيتش" المقصود. ثم يغدو الفيلم بوليسياً بعد عملية البحث عن المجرم الذي هو غرونوي، ليبلغ قمماً في تعزيز الفكر الفوضوي، عبر المشهد ما قبل الاخير، حيث الاجساد تتراقص حباً وجنساً ونشوة، على وقع عبثية اللقاء بين العقل والغريزة. قد يستحق المشهد ان ننتظر من أجله نحو ساعتين من الزمن قبل أن يأتي الينا. كذلك يستحق هذا الجنون في السلوك الآدمي ان يُكتب ويصوَّر، لأنه مختلف، أنيق وفظّ. يحطم الفيلم الحواجز كافة، بين ما هو مقبول ضمن الاعراف الاجتماعية وما لا يصلح ترتيبه في قانون المنطق السائد. فمن ينجح في ايجاد العطر المثاليّ في هذه الفرنسا ذات الاجواء الحالكة في زمن النور، يستحق ان تعبده الحشود، وهو أهل للحياة الابدية ويقدّم جسده، في ذلك المشهد ذي القراءة المسيحية، لحماً (فاسداً) على مأدبة غذاء. فيولد هذا الـ"انتي كريست" الذي يمنح الفيلم بعداً فلسفياً، دينياً. باختصار، نتيه في عالم بربري، لكن بديع، لأن مفاهيمه غير مفاهيمنا، وقيمه تكاد تكون قيمنا لكن تنجو من ذلك المصير المشؤوم في اللحظة الاخيرة. لحظة يتصاعد فيها العطر الى اعلى مستويات الرأس ويقتحم خلايا الدماغ، ننهار تحت "أوفردوز" من الروائح التي تحيّر الانف: أهي كريهة أم عطرة؟ لا احد يستطيع الإجابة عن هذا السؤال، لان السينما تمنع عنا الشمّ.

هوفيك حبشيان

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...