قادة منحرفون لقرية عالمية استراتيجيتهم مغلقة

12-04-2007

قادة منحرفون لقرية عالمية استراتيجيتهم مغلقة

ـ1ـ كان مهندس قرية «ديزني لاند» مصاباً بعقدة «الاستخفاف» بتقاطيع الناس، وكان يحلم دوماً ـ كما ورد في مذكراته ـ باختزال التقاطيع أو توريمها حسب مزاجه وكم كان يحلو له أن يزرع قرناً في رأس رجل، أو ذنباً في قفا رجل آخر، ولعل هذا ما دفعه إلى تفضيل الحيوانات، وإسكانها في قريته، وتوزيع الأدوار عليها، حسب مخيلته الشريرة مستوحياً في معظم الحالات حكايا «كليلة ودمنة» أو أقاصيص «لافونتين».

ويبدو أن مهندسي «القرية العالمية الحديثة»ـ هكذا يسمي أباطرة الطغيان كوكبنا الأرضي ـ مصابون «بهستريا الاستكبار» لأنهم مسكونون بفكرة انشطار العالم إلى أسياد ومستضعفين وقد استلهموا في سلوكهم ـ كما يقول «إيناسبو رامونيه، رئيس تحرير «اللوموند ديبلوماتيك» ـ سيرتي «هولاكو» و«جنكيز خان» فروعونا بمخلوقاتهم الشائهة ومغامراتهم الدموية. ‏

ألم يكن الزعيم الفنزويلي «شافيز» على حق حينما قال في اجتماع جماهيري حاشد: «ما الفرق بين الضباع المفترسة التي تكشر عن أنيابها في أفلام ميكي ماوس وضباع اليانكي الذين يزرعون الموت في كل مكان؟ بلى هناك فارق! الضباع لا تفترس إلا إذا جاعت، في حين أن ضباع اليانكي تزداد افتراساً كلما أصيبت بالتخمة!». ‏

ـ2ـ ‏

يتحكم بهذه القرية العالمية قادة «منحرفون» يستهدون باستراتيجية «مغلقة» تعتمد على التحرشات الاستباقية والاستباحة المستمرة للشرائع والقوانين والحقوق وممارسة الاستغفال والمراوغة ولكننا نشهد اليوم زلزالاً عاصفاً قد يدمر القرية على رؤوس ساكنيها وينشر هواء طازجاً قد يبلسم ويشفي: ويتجلى هذا الزلزال بتحول الولايات المتحدة إلى «نمر من ورق» بعد هزيمتها في ثلاث جهات مفتوحة، أفغانستان، والعراق، والصومال، ويبدأ عرض روسيا «لعضلاتها» من جديد بعد أن زاوجت بين الليبرالية الهائجة والقيادة القيصرية، وبشروع الصين بمد قدمها في كل مكان بعد أن كسرت «الحذاء الضيق» الذي كانت تنتعله مع المحافظة على القبضة الحديدية في قمة الهرم الحاكم وبتعملق الهند التي كانت تضخ أكبر عدد من الفقراء المعدمين إذ بدأت رأسماليتها الوليدة تتسلل إلى أسواق العالم تستثمر وتشتري مؤسسات الإنتاج وبتذمر أميركا اللاتينية من بقائها صهريجاً للنفايات الأميركية وإعلان عصيانها متسلحة بأيديولوجية تمزج الماركسية بالمسيحية، تحت قيادة شابة تستقوي بكاسترو، وتتفلوذ بـ «شافيز» وبسيادة التململ العالمين الإسلامي والعربي، وإشهاره سلاحي المعاندة والاستشهاد وبسخريته بأحبولة الديمقراطية المراوغة والاعتدال المشبوه. ‏

لقد تغلبت القرية العالمية على فك الحصار وتلامح أفق جديد قد يمنح العولمة هوية جديدة لعلها خلاصة «لحوار الحضارات» واختزال لتجارب التاريخ الإنساني الطويل. ‏

ـ 3 ـ ‏

لقد نجحت الولايات المتحدة، بزعامة «دبليو بوش» بفرض عقوبات مدمرة 63 مرة ضد 35 دولة يسكنها 45% من سكان العالم، كما نجحت في أن تتحول إلى «دينامو» لإثارة الحروب، واستيلاد الكراهية في كل مكان. يقول «ميكائيل ليند» مؤلف كتاب «بوش هذا اللعين!» الذي طبع أكثر من 20 مرة: «لا يمكن غسل الكراهية التي نشرها «بوش» ضد بلاده في كل مكان، وحتى لو انتخبت الولايات المتحدة ملاكاً ليكون رئيسها، فقد يستحيل عليه أن يبيّض وجه بلاده». ويتساءل في الفصل الأخير من الكتاب: «كيف يمكن أن نمحو من الأذهان معتقل غوانتنامو وسجن أبو غريب، والمجازر التي ترتكب كل يوم في العراق، والتي تزعم الدعاية الرسمية أنها وقعت «خطأ»؟ هل يحق للساسة الأميركيين الذين يحتلون قمة الهرم أن يعلنوا إعجابهم بـ(جان جاك روسو)، وهم يصدرون الأوامر باستخدام التوماهوك لدك المنازل، وقتل الأبرياء؟» إن الثقل التكنولوجي، والعسكري، والسياسي للولايات المتحدة قد أهلها لأن تتحكم «بالقرية العالمية» وأن تفرض قوانينها عليها، ولكن جنوح قيادتها التي احتكرها المحافظون الجدد يؤهلها لأن تعزل عن التحكم بهذه القرية، «ولن يكون هذا العزل عن طريق الحوار والإقناع، وإنما عن طريق الإرغام والعصيان» كما يقول الزعيم الفنزويلي (شافيز). ‏

ـ 4 ـ ‏

إن المنافس الآخر للتحكم «في القرية» هو الاتحاد الأوروبي، بعد أن أصبح قوة «هائلة» تضم 27 دولة غير متجانسة حضارياً، ولا سياسياً، ولا اجتماعياً، ويمثل هذا الاتحاد (خافيير سولانا) الذي يحمل لقب «الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن المشترك في الاتحاد الأوروبي». كان هذا الإسباني الارستقراطي الأمين العام لحلف الأطلسي، وزير الثقافة في حكومة (غونزاليس)، وقد مضى عليه، وهو في منصبه الجديد، سبع سنوات، حاول فيها أن يسمع «صوت أوروبا»، وأن يظهر هيبتها، ولكن مساعيه باءت بالفشل. لقد حدد مهامه، في مؤتمر الأمن الأوروبي المشترك في تشرين الأول من العام الماضي قائلاً: «من المهم جداً، والملح جداً أن نحول دون سقوط عالمنا وتقوضه، ولكن لا طموح عندنا لتغيير هذا العالم» وهذا ما حاوله هذا الاختصاصي في الفيزياء، الذي يدرس بكل عناية كل الملفات المتوترة، ويضع ملف «التسوية السياسية للصراع العربي ـ الإسرائيلي» في رأس أفضلياته، ويرفض الاستفراد ويعمل على التعددية، شريطة أن تكون الكلمة الأخيرة لأوروبا الموحدة، ولكنه «جنرال بلا عسكر»، وحتى لو وجد العسكر، فإنهم لا يأتمرون بأوامره. وكما قال عنه أحد المقربين إليه: «العيب ليس فيه، وإنما في من فوضوه!» إنه حكيم لا يستحسن المعجبون به حكمته، وقد أهين أكثر من مرة، تارة من قبل الأميركيين ـ وتارات من قبل زعماء الأوروبيين أنفسهم، خاصة من (شيراك)، و(برلسكوني)، إلا أنه ظل مصمماً على متابعة جهوده، وإن كان مقتنعاً بأنها «جهد ضائع». نقل عنه أنه قال: «كل العناصر متوافرة لكي تقود أوروبا العالم، سياسياً وحضارياً واستراتيجياً، ولكن كل العناصر متوافرة لإفشالها، وتقليص دورها...». ‏

ـ 5 ـ ‏

فضيحتان مذهلتان كشفتا «المسكوت عنه» في دهاليز قرية والت ديزني المعولمة في الأسابيع الأخيرة: الفضيحة الأولى تتناول ثبوت تهمة عدم النزاهة على محكمة العدل الدولية في لاهاي، حين أصدرت قرارها بتبرئة صربيا من جناية «التصفية العرقية» في حادثة سبريرنكا التي قتل فيها 8000 من مسلمي البوسنة العزّل بين رجال وأطفال، وثبوت إخفاء الكثير من الوثائق الدامغة التي تدين كبار المسؤولين في الدولة والجيش في صربيا، وبأن قرار التصفية العرقية قد صدر بإيعاز مباشر منهم، كما ورد في اعترافات السيدة (كارلا ديل بونتي) المدعية العامة في المحكمة، وتصريحات عدد من القضاة الـ15 الذين أصدروا القرار، بينهم القاضي الأردني (شوكت القواسمة). والحجة التي تذرع بها «المتواطئون» هي الحرص على حماية المصلحة العليا لدولة صربيا، واعفائها من دفع التعويضات إلى الضحايا. ألا تكفي هذه الفضيحة لتبرير الشكوك حول المحكمة ذات الطابع الدولي التي يطالب بها بعض اللبنانيين؟ ‏

أما الفضيحة الثانية فهي صدور قانون «التطهير» في بولونيا الذي يرغم ملايين البولونيين، من أساتذة جامعيين، ومحامين، وصحفيين وموظفين، من المولودين قبل شهر آب 1972، على الاعتراف بتعاونهم مع النظام الشيوعي بين عامي 1945 و1989، وان عليهم أن يملؤوا استمارة للحصول على ما يسمى شهادة «النقاوة السياسية»، وإلا تعرضوا للطرد من أعمالهم أو السجن أو دفع الغرامات الباهظة، ولعل صدور هذا القرار الذي يضاهي «المكارثية» في مرحلة «معاداة الشيوعية الهستيرية» في الولايات المتحدة هو الثمن الذي تدفعه بولونيا لقاء موافقتها على أن ينصب البنتاغون على أراضيها الدروع المضادة للصواريخ، حماية للولايات المتحدة، دون استشارة حلفائها في الاتحاد الأوروبي. ألا يضارع قانون النقاوة السياسية هذا قانون «اجتثاث البعث» الذي فرضه الأميركيون على الشعب العراقي، وما جرّه من ويلات قاسية، وما سببه من مظالم؟ ‏

ـ 6 ـ ‏

مهندسو قرية «دزني لاند» المتعولمة مازالوا يتشبثون بمنطلقاتهم النظرية، ومغالطاتهم الموبوءة، ولكن الأرض تتحرك من تحت أقدامهم، والرفض المتصاعد يطاردهم في العواصم، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وقد يزاحون عن عروشهم، ويفسحون الطريق أمام «قرية معولمة جديدة، تقوم على النزاهة والعدالة والاحترام، والسلام الشامل». ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...