مأزق المختارات الشعرية

04-06-2007

مأزق المختارات الشعرية

يتقدم الشاعر الى قصيدته وسط غابة شاسعة من الظلمات. ومع أن كل خطوة يخطوها محفوفة بالكثير من المحاذير فهو لا يملك سوى التقدم متحسساً بغريزة الذئب أرض القصيدة ومـــناطقها البكر. كل كتابة بهذا المعنى هي سبر للمجهول ومحاولة مضنية لتحويل المصادفات اللغوية المجـــردة الى حقيقة ملموسة أو الى رؤية جمالية مبتكرة للوجـــود والأشياء. كأن الشاعر، على حد صلاح ستيـــتية، هـــو الرامي الأعمى الذي يملك القدرة على رغم عـــماه للتـــصويب الى قلب الهدف أو جـــوهر المعنى.

أعزل ووحيداً يتقدم الشاعر الى الكتابة. ومع ذلك فهو في العمق ليس وحيداً تماماً لأنه يختزن في داخله كل من سبقه من الشعراء ولأن وراء كل عبارة يكتبها عدداً لا يحصى من ضروب القول وطرائقه. وقبل ان يعلن نوفاليس ان الفنان يقف على البشرية كما يقف التمثال على القاعدة، أو يعلن بورخيس اننا لا نفعل شيئاً سوى ان نكرر بصورة أو بأخرى ما كتبه الأقدمون، كان عنترة العبسي يهتف قبل ذلك بمئات السنين: «هل غادر الشعراء من متردم؟». الكتابة الشعرية من هذه الزاوية هي صراع على جبهتين: جبهة المعرفة وجبهة النسيان. وإذا كانت الأولى ضرورية لبناء الذات وتوسيع الأفق وصقل التجربة فإن الثانية ضرورية ايضاً للتخلص من ثقل الأسلاف ووطأة التأثر، للبحث عن الهوية.

للقصائد في مراحلها الأولى بعض طبائع الشتاء وطقوسه. ثمة بروق كثيرة تلمع في البداية متبوعة برعود صغيرة ومجهولة المصدر. وإذ يتّحدان معاً اتحاد الصور بالإيقاعات يمهدان الطريق للغيوم التي تتجمع في فضاء الرأس قبل ان تنهمر غزيرة على الورق. لكن الشاعر الحقيقي ليس فقط ذلك الذي يستسلم لسيلان اللغة وجيشان المشاعر وإغواء الصور والمفردات بل ذلك القادر في الوقت ذاته على الممانعة والصمود في وجه الطوفان. على ان ذلك لا يتأتى إلا في المرحلة المتأخرة من الكتابة حين يتراجع اللاوعي بهذياناته المحمومة الى الخلف ويتقدم الوعي لتفحص الحقيقة وإجراء جردة الحساب الضرورية قبل إحالة النص على النشر.

في كل قصيدة إذاً قدر من الاختيار. وكل مجموعة نصدرها هي في الأصل ضرب من ضروب المختارات. ثمة تصفيات متلاحقة تتعرض لها اللغة عبر المسافة الشاسعة التي تقطعها بين الإيقاعات الأولية المبهمة وبين الصفحة البيضاء. فهناك أولاً ما يتعذر القبض عليه بفعل الاستعصاء أو الإبهام أو الغزارة التي لا نملك مجاراتها باليدين. وهناك ثانياً ما يضمحل عبر النسيان حيث ان انشغالنا بتحويل صورة أو لمحة أو خاطرة الى كيان لغوي ملائم يسمح للصور الأخرى بالانزلاق من بين الأصابع والفرار الى غير رجعة. وهناك ثالثاً ما لا نستطيع إخضاعه لنسق الإيقاع وشروطه حيث لكل وزن من الأوزان ما يلائمه، أو لا يلائمه، من المفردات وأنساق التعبير. هكذا تصبح القصيدة «مجزرة» حقيقية يتم من خلالها إعدام الجزء الأكبر من الهوامات والأطياف والجمل التي تعرض لنا خلال المسودات المختلفة للكتابة. والأدهى من ذلك ان احداً منا ليس متيقناً من ان ما احتفظ به على الورق هو أفضل مما اهمله وأسقطه من حسابه. وربما كانت المسودات التي نهملها او نمزقها تحمل من الشعر الحقيقي أكثر مما تحمله القصائد المنشورة!

لا يختلف الأمر كثيراً حين يطلب الى الشاعر في مراحل لاحقة ان ينتقي بنفسه قصائد له تكون بمثابة مختارات شعرية تصدر في كتاب مستقل. فهو بذلك يعرّض نفسه للمحنة ذاتها التي يتعرض لها اثناء الكتابة، كما يعرض قصائده لتصفية ثانية أشقّ من الأولى وأكثر تجنياً على نفسه وعلى الشعر. أقول أشق من الأولى لأن الجزء الذي تم إسقاطه اثناء التأليف ليس مكشوفاً او ظاهراً على الملأ. فالشعراء بغالبيتهم يمزقون مسوداتهم أو يهملونها ولا يسمحون لأحد بالاطلاع عليها لأن سترها عن الآخرين هو بمثابة ستر «العورة» وإخفائها عن الأعين. والقراء بدورهم يكتفون برؤية القصيدة في إطارها الناجز ولا تهمهم الاختبارات الأولية للغة، تماماً كما هو الحال مع رواد المطاعم الذين يهتمون بمذاق الوجبات التي يطلبونها من دون ان يأبهوا، إلا في ما ندر، بالمطابخ التي تعد هذه الوجبات.

اما المختارات فهي امتحان صعب وعسير للشاعر لا بوصفه شاعراً فحسب بل بوصفه قارئاً لشعره. وهو بدفعه هذه القصائد للنشر دون غيرها إنما يقوم بعمل نقدي وغربلة فعلية مفادها انه يؤثر هذه القصائد على غيرها لأسباب جمالية أو نفسية أو وجدانية. على انه في جميع الحالات يقوم بمجازفة غير محمودة العواقب. فهو قد يكون قارئاً رديئاً لنفسه فلا يختار من شعره الأعمق والأفضل بل يختار ما يظن انه يلائم الذوق العام والحساسية الجمعية، تماماً كما يفعل بعض الشعراء على المنابر وفي الملتقيات والمهرجانات الحاشدة. وإذ يختار الشاعر نصوصاً ويهمل غيرها فكأنما يصنف شعره الى درجات متفاوتة فيرفع البعض منه قائلاً: «هذا هو شعري الحقيقي الذي يمثلني»، ويسقط البعض الآخر كما لو انه نتاج من الدرجة الثانية. وهو أمر ملتبس وإشكالي ويحتاج الى الكثير من التمحيص. إذ لربما وجد قراء كثيرون في النصوص التي أسقطها الشاعر من «مختاراته» ما يفوق تلك المختارة جمالاً وعمقاً واتصالاً بالشعر. ولعل هذه الإشكالات مجتمعة هي ما يدفع بعض الشعراء لرفض فكرة المختارات من اساسها في حين يبقي البعض الآخر، وأنا من بينهم، فريسة الوساوس والشكوك وانعدام اليقين.

شوقي بزيع

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...