مسألة «جمع القرآن» وأبعادها الهرمنطقية

08-03-2007

مسألة «جمع القرآن» وأبعادها الهرمنطقية

تحدث الدكتور محمد عابد الجابري مؤخراً على صفحات «الاتحاد» (26/9/2006 و 3/10/2006) عن مسألة «جمع القرآن» وأشار إلى مضامينها السياسية، وأود هنا تناول هذه المسألة لأغراض ثلاثة مترابطة هي (أولاً) توضيح الأبعاد الهرمنطقية، أي الفنية - التأويلية، لهذه المسألة، و(ثانياً) الدعوة إلى حوار على أمل حسم هذه المسألة الحساسة المعلقة، و(ثالثاً) الدعوة عموماً إلى تبني روح تجديدية تقارب التراث من طريق استبطانه ومحاولة الكشف عن «معقولية» أو «وجاهة» خاصة به ومستمدة من بنية إشكالياته التحتية الخاصة على أمل اجتياز الهوة التي أصبحت تفصل كثيراً من مثقفينا عن التراث سواء من حيث منهج التفكير أو أسلوب التعبير. 
 فمن ناحية الأبعاد الهرمنطقية لمسألة «جمع القرآن»، يبدو أن هذه المسألة قد تعود في ما تعود إلى أصول فنية - تأويلية «كتابية»، أي إلى النزعة «الكتابية» النصوصية التي تنظر إلى الإسلام على أنه دين «كتابي» ولا تطيق فهم الكتاب في ضوء «العمل» أو «السنة». لقد راع هذه «النزعة الكتابية» وجود أحكام مقـررة بالسنـة من دون مقابـل لها بالكتـاب، ومن أهمها رجم الزاني المحصن.

هنا يبدو أن «النزعة الكتابية» قد لجأت إلى نظريتين: الأولى هي نظرية «نسخ التلاوة»، والثانية هي نظرية «جمع القرآن». أما «نسخ التلاوة»، وهو هنا على وجه الدقة «نسخ التلاوة دون الحكم»، فيعني أن حكماً مثل رجم الزاني المحصن، أو ما يسمى بـ «آية الرجم»، قد نسخ تلاوة، أي «رفع» لفظه، في حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بينما ظل حكمه محكماً ساري المفعول غير منسوخ. وليس أدل على الطبيعة التفسيرية لهذه النظرية من أنها لا تجد لها مكاناً عند فقيه مثل مالك بفقهه القائم على السنة والمتحرر من «الكتابية» بحيث لا تُشكِل عليه مسألة عدم وجود النص لكي يلجأ إلى مثل هذه النظرية.

أما نظرية «جمع القرآن» فتعني أن القرآن لم «يجمع» إلا بعد وفاة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وأنه لذلك قد «سقط» بعضه بل قد «أكلت شاة بعضه» وفقاً لإحدى روايات هذه النظرية. وهكذا فإن «نسخ التلاوة» يعني «حذف النص» (دون الحكم) أثناء حياة صاحب الوحي، صلّى الله عليه وسلّم، أما «جمع القرآن» فيعني «سقوط النص» (كذلك دون الحكم) بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. هذا وإن نظرية «جمع القرآن» ليست بالضرورة بديلة لنظرية «نسخ التلاوة»، فلعل الأولى سابقة زمنياً على الثانية التي قد تكون أتت لاحقاً كنظرية أكثر اتساقاً من الأولى، كما أن نظرية «جمع القرآن» قد تكون وجدت أصلاً لأسباب أعم من مجرد تعليل غياب عقوبة الرجم وقد تشمل هذه الأسباب كثيراً من المسائل النحوية والأسلوبية التي قد ترجع في حقيقتها إلى النسخ (هنا بمعنى نسخ الحكم دون التلاوة الذي لا يتسع المجال لشرحه).

إن النزعة «الكتابية» تتكشف عن مجرد تشبث بالاعتبارات النصوصية التفسيرية البحتة على حساب واقع الفقه والسنة والعمل، بخاصة إذا ما تذكرنا، أولاً، أن العرب والمسلمين الأول كانوا أمة أمية وليسوا «أهل كتاب» بل «أهل سنة»، وثانياً، أن القرآن الكريم كتاب هداية روحية وأخلاقية وليس مدونة فقهية، ولم ترد آيات أحكامه على سبيل الاستقصاء وإنما نزلت في سياقات معينة وبأسباب نزول محددة، وحتى آيات الأحكام هذه تفترض بكل وضوح «عملاً» أو «سنة» تحدد منسوخها وتخصص العام منها وتقيد مطلقها وتفصل مجملها ثم، ثالثاً، أن أية دراسة عميقة لمذاهب الأئمة العظام لا تترك أي شك في أن مذاهبهم لم تستنبط مباشرة وحصراً من النصوص، فمثلاً أقام مالك، رضي الله عنه، مذهبه على «عمل أهل المدينة» الذي يرجع إلى سنة النبي والصحابة، بدليل أنه روى هو نفسه في الموطأ حوالي سبعين حديثاً صحيحاً لم يعمل بها لتعارضها مع مفهوم العمل لديه ولأنه لم يكن يخلط بين صحة الحديث وقطعيته، فكون الحديث الشريف صحيحاً لا يعني بالضرورة أنه قطعي الدلالة لأن القطعية لا تتأتى من مجرد صحة السند والرواية بل من قراءة النص في ضوء العمل ومع مراعاة اعتبارات النسخ والتخصيص والتقييد والتفصيل.

لعل الأوان قد حان لكي ننظر إلى نظريات «نسخ التلاوة» و «جمع القرآن» على أنها نظريات مطروحة كحلول لإشكاليات بنيوية - تحتية ممثلة هنا في المسألة الهرمنطقية الناشئة عن التقابل بين الموقف «الكتابي» ومنطق «العمل». إن عدداً من النظريات المماثلة قد وجد في التراث كتعبير معين عن طريقة تفكير معينة لحل إشكاليات معينة، وقد تكون هذه هي اللغة التي يعبر التراث بها عن نفسه وينبغي أن يقرأ بها، من دون تكذيب أو اتهام بوضع أو تزييف.

إن نظرية «جمع القرآن» التي تقوم على مجرد أخبار (ليست بالطبع حتى أحاديث)، وهي قبل كل شيء أخبار ظنية الدلالة، تتعارض مع مبدأ «الحفظ» («إنا نحن نزلنا الذكر وإن له لحافظون» (الحجر:9))، فحتى بمعزل عن العقيدة والإيمان فإنه من غير المقبول مطلقاً أن كتاباً يؤكد لنفسه خاصية الحفظ سيترك سدىً تأكل شاة بعضه. وما دام الشيء بالشيء يذكر، فحتى بعض المدارس الاستشراقية قد وجدت صعوبة في تقبل هذه النظرية. فبينما قد يتوقع البعض من «المستشرقين» عدم المساس بمثل هذه النظريات بل التشبث بها، نجد المستشرق جون برتن في كتابه «جمع القرآن» (1977) يرفض هذه النظرية بل يقرر أن القرآن قد تم جمعه في حياة الرسول الكريم نفسه. وبناء على ذلك فإن ما قام به عثمان، رضي الله عنه، لم يكن جمعاً لقرآن كان مفرقاً في جريد النخيل وصفائح الحجارة والجلود والعظام والألواح وغيرها كما تقص علينا هذه النظرية، بل لعل ما قام به مجرد إعداد نسخ من كتاب موجود قبل خلافته، بل قبل انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، وتوزيع هذه النسخ على الأمصار، كما يذهب إلى ذلك في الواقع ابن حزم.

أما السبب الذي دعا إلى إعداد هذه النسخ وتوزيعها على الأمصار على رغم وجود عدد من مصاحف الصحابة في تلك الأمصار فلعله أن هذه النسخ قد تم إعدادها ومراجعتها من قبل مجموعة من الكتاب، أو «لجنة مختصة» بلغة العصر، بدل النسخ الفردية التي كانت آنذاك في الأمصار. هذا بالإضافة إلى كثير من الأدلة على أن القرآن قد اتخذ شكله النهائي ككتاب قبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ومن أبلغ هذه الأدلة، على سبيل المثال لا الحصر، وجود سور مثل الحواميم، إذ تدل المقطعات التي تبدأ بها كل سورة من هذه السور المتتابعة على أنها كان يقصد بها أن تكون أجزاءً من كتاب مجموع منذ نزولها.

أخيراً نرجو أن الوقت قد حان لحوار حول هذه المسألة المعلقة يقوم على التساؤل حول مدى ضرورة هذه النظرية، ومدى ضرورة النزعة «الكتابية» أصلاً، ومدى إمكان إحياء مفاهيم «العمل» و «الإجماع» و «السنة» كما كانت عند مثل مالك، رضي الله عنه.

كما نرجو أن الوقت قد أزف لتبني نزعة «وجاهية» جديدة ليست بالضرورة دعوة إلى «العقلانية» (rationalism) بمدلولها الفلسفي الضيق، بل لقد تحاشيت حتى مصطلح «المعقولية» (reasonableness) الذي تتردد به بعض الأصداء «العقلانية» الفلسفية، واستخدمت، كما ينصحني نجيب الحصادي، مصطلح «الوجاهة» الذي يعتبره عارف النايض مقابلاً لمصطلح «sensibility»، وذلك بهدف عدم نبذ التراث بل التعاطف معه بحثاً عن «وجاهته» الخاصة وعن «منطق» أو «تساوق» داخلي يسري في ثناياه.

عبد الرحمن هابيل

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...