يا زين... يا زين... يا زين

14-08-2006

يا زين... يا زين... يا زين

إنها الرابعة فجراً في برج الشمالي. في الغرفة الأرضية الأولى ينام زين العابدين بالقرب من أمه زينب. عمره ثماني سنوات. هو صغير العائلة. في الغرفة نفسها تنام وفاء. عمرها تسع سنوات، وعبد الله، عمره 14 سنة، والمستخدمة السريلانكية راندونا جوسيه.
في الغرفة الثانية ينام الأب عباس زين، والجد، والد زينب، أحمد حويلا، والشابان علي وأحمد، ولدا عباس وزينب.
الرابعة فجراً في برج الشمالي: يدمر صاروخ الطابق الأول من البيت فوق الغرفة السفلية الأولى ويردم الخمسة. ينجو الأب والجد والشقيقان في الغرفة الثانية.
هل كانت يد زين العابدين في يد أمه حين سقط الصاروخ؟
هذا الصباح، عند الثامنة صباحاً، كانا يضعان يديهما في يدي بعض.
جسد الأم يحوط رأس الطفل من الخلف. زين ينام على ظهره. وجهه مهشم. وجسده ما زال عالقاً تحت الركام.
يحرر شبان كشافة الرسالة الإسلامية زينب ويرفعونها. ويبدأون العمل لإخراج نصف زين السفلي من تحت بقايا عمود. ساعداه ملتويان. ووجهه صار الآن مغطى بمخدة مخضبة بالدم. لا نعلم دم من هذا، دمه أم دم أمه.
يخرج الشبان بزينب إلى الشارع. يضعونها في سيارة الإسعاف التي تسير أمتاراً ليأتيها الصوت قاسياً مهدداً: وقاف.. وقاف. هذا عباس زين، رب العائلة.
يرفع سبابته وعيناه تقدحان ناراً. كان قبل دقائق قد أقسم إن أحداً من عائلته لن يذهب إلى البراد، وإنه سيدفنهم في القرية. لكن ذلك محال. الطيران الذي يحوم فوقنا لا يستكين. والغارات لا تتوقف.
يقوى هدير الطائرة فجأة، كأنما هو فوق رؤوسنا مباشرة، ثم نسمع دوي الصاروخ المخيف يهبط.. يشبه صفرة طويلة. يركض الواقفون في الطريق، كل في اتجاه، يتلطون في الزوايا وتحت مداخل البيوت. لا مكان آمنا هنا. الأمان الوحيد هو في سقوط الصاروخ بعيداً.
ثوان طويلة تمر بين صفرة الصاروخ ودوي انفجاره.
حين يتلاشى الصوت يقف الناس من جديد ليبحثوا في السماء عن مكان انبعاث الدخان. والدخان يتصاعد مرة من اليمين ومرة من اليسار. منذ أكثر من ساعة ونصف الساعة ونحن على هذه الحال. وكلما قوي الهدير نظن أن الطائرة ستستهدف الآن المحطة المقابلة للبيت المدمر.
الإسرائيليون استيقظوا فجراً متحمسين لتفجير محطات البنزين. في طريقنا إلى البرج الشمالي وقفنا عند محطة بنزين مدمرة وترجلنا وأكملنا سيراً على الأقدام.
هنا، مباشرة أمام البيت المقصوف، تنتصب محطة بنزين بلا خدش.
يبدو أن الطيار الإسرائيلي غبي، أخطأ هدفه فقتل امرأتين وثلاثة أطفال. أو أنه ليس غبيا، بل مجرد مجرم آخر قرر قتل امرأتين وثلاثة أطفال عوضا عن محطة البنزين. وإن هو قرر أن يعيد الكرة، ليصحح خطأه، أو ليكمل ما بدأه عمدا، فستقع مذبحة.
ناس القرية على الشرفات وفوق المبنى المهشم المقابل للبيت. يتفرجون. كانت منطقة البرج الشمالي آمنة إلى حد ما في الأيام الماضية فلم تهجر. لكن محيطها الآن يتعرض للغارة تلو الغارة. وطائرة الاستطلاع لا تغادر السماء ألا لتفسح المجال أمام الطائرة القتالية الآتية للإغارة. عباس كان يقف ويجلس ويمشي أمام بيت جاره الذي يبعد عشرة أمتار عما بقي من بيته. تمر سيارة الإسعاف من أمامه في طريقها إلى صور، فيصرخ ويوقفها ويقوم نحوها. يفتح الباب ويلقي على زوجته النظرة الأخيرة. يضرب رأسه بباب السيارة ويخاطب السائق:انتبه عليها. زينب أختك.
يبكي ولداه ويبكي هو. يمر المشهد سريعاً. يسحبون الثلاثة من امام السيارة، وتنهب هذه الأرض إلى البراد الكئيب في مستشفى صور الحكومي.
يعود عباس وقد رأى بعينيه أول واحد من أفراد عائلته ميتاً. وبكل ما أوتي من عزم، يروح يصفع رأسه بكفه فيهتز كل جسده. ولا يتوقف إلا بعدما يلتقط أحدهم ساعد الرجل ويمنعه بالقوة. فينهار باكياً.
حين يهدأ عباس يسأل رجلا أمامه: من تشيلون الآن؟ زين؟ الأسمر الصغير؟ يهز الرجل برأسه إيجابا من دون أن يحكي.
يتجمع كثيرون في مكان واحد. يقول أحدهم: يا شباب. من ليس له عمل هنا فليذهب. دعونا لا نكُن كثيرين في مكان واحد. يريد التخفيف من عدد الضحايا إن وقعت غارة.
ينفلش الناس كل مجموعة في زاوية. ينتظرون الحفر البطيء.
الغرفة حيث يرقد القتلى صغيرة ومحاطة بالركام. يمرون إليها من مدخل البيت وهو يحمل ركام الطابق العلوي وصار آيلاً للسقوط. عشرات يعملون في مساحة ضيقة. يزيلون التراب بأيديهم ويكسرون الحجارة بالمطرقة والإزميل... ويتوجسون بدورهم من الغارة المحتملة وكثرة الناس.
يرد اتصال هاتفي لعباس فيقول لمن معه على الخط الآخر: اسمعها مني وما تسمعها من غيري. راحت زينب وعبد الله وزين و.... يغمض عينيه يريد أن يتذكر. وفاء، يقول له من بقربه.. فيكمل: ووفاء.. المهم ما يوصل خبر لأمي.. المهم ما يوصل خبر لأمي.. ثم، وهو يجهش من جديد يقول: بقي علي وأحمد.
التاسعة صباحاً. هذا الصباح ينبئ بيوم طويل على صور ومنطقتها. سنغادر برج الشمالي بعد أن يتركها زين العابدين. زين تحرر من العمود الذي يرزح فوق قلبه وغادر بيته إلى الإسعاف.
وكما في المرة الأولى، كذلك في المرة الثانية. تقف السيارة ليقترب منها عباس وولداه علي وأحمد.. يقحم عباس رأسه في السيارة ويقبل قدمي طفله المسحوقتين. وحين يجره الشبان ومعه ولداه أحمد وعلي، يروح الثلاثة يصرخون منهارين.
لدقائق لن يسمع أحد الصوت المقيت للطائرة الملعونة في السماء. كل ما سنسمعه هو ثلاثة أصوات تنده: يا زين.. يا زين.. يا زين..
زين العابدين لن يجيب. هو ليس تائهاً في بساتين برج الشمالي. هو طفل في الثامنة رحل نائماً ويده في يد أمه. وحين أزيح عنهما الركام، ظلت اليد على اليد. وكان جسد الأم يحوط رأس زين من الخف كقوس. كان جسد زينب هلالا يحرس حلم زين العابدين الأخير حين انقضت عليه المقاتلة الحربية... الاسرائيلية.

جهاد بزي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...