«ردّ القضاء».. حكايات الموت اليومي

16-11-2016

«ردّ القضاء».. حكايات الموت اليومي

مع أن «الواقع نوع من الأدب الرديء»، إلا أن نجدة إسماعيل أنزور في فيلمه الجديد «ردُّ القضاء» (مؤسسة السينما، مجموعة قاطرجي) يعيد تحليل هذه المقولة لغابرييل غارسيا ماركيز بشكلٍ مختلف؛ فعبر سيناريو كتبته ديانا كمال الدين عن حصار «سجن حلب المركزي» من قِبل مقاتلي جبهة النصرة (ذراع القاعدة في بلاد الشام) وكتائب راديكالية أخرى، يستنفر صاحب «ملك الرمال» أدواته الفنية، مُسترجعاً أربعة عشر شهراً من حصار لأكثر من أربعة آلاف سجين ومعهم مئات العسكريين من الجيش وقوات الشرطة السورييّن، قوام حامية السجن الأكبر في البلاد إلى حين فك الحصار عنهم في أيار 2014.لقطة من فيلم «رد القضاء» لنجدة أنزور.. «الحياة في مكان آخر»
نبوءة العرّافة ستخبر الأم (جولييت عواد) بأنها ستفقد جميع أبنائها في الحرب، لكنها ترفض ذلك، جاعلةً من نصائحها درعاً لمواجهة القضاء، فالابن الشاب يعِدُ أمه بأنه لن يموت، والأم بدورها تخطب لولدها فتاةً في غيابه. مماحكة وجودية تدفع بابنها حاتم عرب (مجد فضة) شرطي المرور البسيط للامتثال لرغبة والدته التي ستقضي في النهاية على أيدي مقاتلين إسلاميين بعد اقتحام هؤلاء لبلدتها «الزارة» (شمال ريف حمص) وارتكاب أبشع المجازر بحق ساكنيها العُزّل في (أيار 2016).
كاميرا حربية
 تنقلنا حكاية الفيلم تباعاً إلى أجواء القصة الواقعية التي أدارها السيناريو هذه المرة جنباً إلى جنب مع كاميرا حربية بين الخنادق والدشم والمتاريس، فعبر سور السجن وساحاته وصولاً إلى بيوت القرية الوادعة، التقت وجوه الضحايا مع وجوه السجناء والمقاتلين، لندخل زمن الحصار الدموي، حصار يبدو في هذا الشريط الروائي الطويل أشبه بصور متناظرة لم تغيّب صوت العدوّ أو صورته على العكس من العديد من أفلام الحرب، بل انتشلت تسجيلاته المرعبة من موقع (اليوتيوب) مؤفلمةً خطاباته التحريضية، لنشاهد الشيخ عبد الله المحيسني (أدى الدور أمجد الحسين) بين شخصيات الفيلم، موجهاً خطبة تحريض لمقاتليه لتنفيذ عمليات انتحارية على أبواب السجن الحلبي. مفارقة خلطت بين الوثائقي والروائي لتقترب من إعادة تمثيل الجريمة، ربما سيطرب لها الداعية السعودي الذي ما يزال حتى الآن مصرّاً على «تحرير حلب من النصيرية» لاسيما عندما يعرف أن شخصيته التكفيرية قد وصلت أخيراً إلى شاشة الفن السابع، ومعها كل من سيف الله الشيشاني قائد ما يُسمّى بكتيبة المجاهدين، والانتحاري أبو سليمان البريطاني وسواهم.
خيار فني آثر عدم إبعاد حذافير الوثيقة عن مجريات العرض السينمائي الذي بدا إيقاعه حاراً ولاهثاً ومطواعاً لرؤيا المخرج الإشكالي. حضرت أيضاً شخصية «أبو جعفر» (لجين إسماعيل) ضابط الشرطة الذي قدّم أداءً مميزاً في رقصته تحت المطر وعلى إيقاع حفر القبور لرفاق السلاح. شخصية الطبيب محمد جمال بكري (أدى الدور عامر علي) برزت هي الأخرى في «ردُّ القضاء» مؤثرة وعميقة، ليستعيد علي بدوره صعوبات هائلة واجهها الطبيب الوحيد في أكبر سجون البلاد مع مرضى السلّ والآفات المعوية والحروق الخطيرة، منقذاً حياة عشرات الجرحى رغم نفاد الأدوية وعدم وجود أدوات طبية تسمح بإجراء عمليات تفجير الصدر وبتر الأطراف، وسواها من العمليات الجراحية المعقدة.
الحصار
 لا شك في أن الفيلم ركّز على ظروف الحصار، مستعيناً بخبرة رجاء مخلوف في تصميم الأزياء وكل من جمال كريمي ومنى حسن في المكياج المحكم والمتصاعد على طول شهور القتال، لكنه بالمقابل سعى إلى جعل كل ذلك في قبضة القصة، حيث تتدخّل اللقطات العامة والقريبة لإكمال الحدوتة بين جنزير الدبابة وقدمي العروس، بين صدر المقاتل ومشنقة الأم، لتكمل الكاميرا رواية ما حدث لشخوصها الحقيقيين رغم التباعد الزمني بين واقعتي الحصار والمجزرة، فما أرادت الأم ردّه عن ابنها، ها هي تقضي به في مشهدية شاعرية نحّت أجواء المعارك لتقيم من هذه العلاقة ما يشبه حبل سرة بين الأم القتيلة والإبن الذي سينجو من الموت، ليصبح رجلاً مشلولاً على كرسي مدولب بعد إصابته البليغة في المواجهات المباشرة مع سيارة مفخخة.
على مستوى آخر كانت أجواء السجن من الداخل مطابقة للمكان الذي حرّره هشام الترياقي في غرفة المونتاج، متكئاً على جهود كبيرة لمدير التصوير محمد حبيب، إلا أن موسيقى فراس هزيم ظلت تُصرّ دائماً على نبرتها البكائية، لتأتي كتعليق مباشر على الأحداث، مقحمةً صرخات بشرية وآهات متصاعدة لم تتوافق مع النقلات الرشيقة لكاميرا أنزور التي دمجت هذه المرة بين ديكور موفق السيد وبيوت قرية السودا (ريف طرطوس)، معوّضةً عن فضاء السجن الحقيقي، نحو تصنيع المكان الواقعي في كل من معمل الإسمنت بضاحية دمّر وشوارع داريا ومستشفى حرستا بريف دمشق، إضافةً لقلعة الحصن في ريف حمص.
متتاليات بصرية وظّفت هذه الأماكن البديلة لصالح الحدث الواقعي، فالحوامات والدبابات والمدافع والشاحنات والجرافات المفخخة، هي عناصر سينوغرافيا الحرب الأصلية التي صمّمها علي الشيخ لتسجيل الحدث وتوتيره، مثلما هي الجثث التي تمّ إبدالها بالطعام والأدوية ومعدات الجراحة عبر فرق الهلال الأحمر. مفردات لا تقل أهمية في صوغ أشرطة الحرب، مثلما هي تلك اللحظات النادرة التي حققها مخرج الفيلم عن رجال جوعى لنساء في أقفاص متقابلة، برز هنا الفنان فايز قزق كأحد هؤلاء السجناء، وبأداء عالي المستوى مع كل من جمال العلي ومروان شاهين وجهاد الزغبي وليث المفتي وروجينا رحمون وآخرين، مجسّدين ثنائية السجان والسجين، لكن هذه المرة في زنزانة واحدة.

سامر محمد اسماعيل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...