سليم بركات بين أدونيس والساحر الأخير

11-01-2023

سليم بركات بين أدونيس والساحر الأخير

عبد الحميد محمد: 

عن العلاقة بين سليم بركات و الراحل محمود درويش . العلاقة التي لولاها لكان لسليم بركات شأنٌ آخر مختلف و أكثر أهمية في سوق الأدب .مقال نُشر في جريدة القاهرة المصرية منذ أربع سنوات تقريبا.

الثلاثة عاشوا في معمعة الحرب الأهلية بلبنان، والتقوا وتواعدوا بشكل شبه دوري تحت دويّ الرصاص والقصف. وحده سليم بركات المتحالف مع الفوضى كان مبتهجا بالحرب بحثا عن فتوّته، ووحدها علاقته بدرويش تطوّرت لصداقة حميمة، بينما وصل جفاؤه مع أدونيس إلى ما يشبه القطيعة وأكثر.

في بيت أدونيس البيروتي، الذي درجت هيئة تحرير “مواقف” على الاجتماع فيه كلّ يوم أحد، تصفّح درويش مجموعة سليم الشعرية الأولى، ثم خاطبه:

“أنت وحشيٌّ نفورٌ جدّا . لماذا لا تقول مرحبا ”

فالعلاقة بين سليم وأدونيس لم تكن بحاجة لوساطة درويش لدى أدونيس الذي عرض عليه إصدار المجموعة، في وقت لم يكن يطمح لإصدار أيّ كتاب مطبوع.

منح أدونيس الفرصة كاملة غير منقوصة لسليم، الذي لم يتجاوز ربيعه الثاني والعشرين، فـأفسح له في مجلّته “مواقف ” التي كان درويش عضوا في هيئة تحريرها، لينشر قصائده عن الشمال الكردي السوري، ثم فوّضه ليكتب مقدمة العدد /26 / من المجلة الأكثر صرامة في مجالها، بعدما أغرق أدونيس في الدهشة والمفاجأة وهو الذي قلّما نالت منه المفاجآت.

كان أدونيس صاحب انتقادات لاذعة لمجايليه من الشعراء، رغم اعترافه أنه لا يقرأ لهم إلا ما ندر، فوجد في محمود درويش، صديقا للأنظمة بدل مواجهة الطغيان، وأنّ شعره شعرُ مصالحة كحياته، بل إنه رأى في قصيدة درويش التي غناها مارسيل خليفة )أحنّ إلى خبز أمي (،بكاءا شعريا يثير لديه الضحك.

نهل أدونيس وسليم من التراث العربيّ ذاته، فشيّد منه الأول، مشروعه الفكري، وبنى الثاني، هداياه المبتكرة في الشعر والرواية.

نشر سليم بركات أول مرة في العدد/17-18 / المزدوج من مجلة “مواقف”، قصيدته المعنونة “قنصل الأطفال”.

وصف أدونيس حينها العدد بأنه يشكّل بالقصائد التي يتضمّنها، نواة لمرحلة متميّزة في التجربة الشعرية العربية الجديدة.

ثم نشر سليم قصيدتين أخريين في “مواقف” قبل كتابة المقدمة للعدد 26 والتي عنونها /الحاجة إلى خلخلة الانسان كي لا يُعتقل الانسان /حول انسحاب الكتاب اللبنانيين من اتّحاد الكتّاب العرب، ليتلاقى مع ما درج عليه أدونيس من إثارة المشاكل لجعل الناس أكثر حيرة وتجرّدا ليعيدوا التفكير في حياتهم باستمرار، محرّضا الشعراء على هرطقة أكثر وعدم التصالح مع الأشياء، خارج التاريخ، وخلخلة المستقرّ والتأسيس لأفق كتابيّ شعريّ مختلف.

اندفع سليم الأقرب فكريا إلى أدونيس، ليتوحّد مع درويش في يوميّات الحرب الأهلية بلبنان، وينخرط حتى في منظمة التحرير الفلسطينية كمقاتل، لتُمنع كتبه عن التداول في سوريا.

“غابة أصداء “، من شعراء، وفّر لهم أدونيس فرصة التفتّح والنموّ، ثم انقلبوا ضدّه، كالماغوط وأنسي الحاج وعباس بيضون وبول شاؤول، وسليم بركات.

وصف أدونيس ذلك الانقلاب، بمعناه الشعري المجازيّ:

” أمحو و أنتظر من يمحوني “.

في أرخبيل علاقاته بشعراء النجوم السبعة لم يفترق سليم، سوى عن أدونيس، في خلاف متشعّب، حوّلته الحرب الأهلية في لبنان إلى جفاء بسبب التباعد في موقفيهما من أطراف الحرب، بعدما خاصم البعض معه ولأجله.

راجع سليم مع أدونيس، بعين الناقد، نصوص “مواقف” للبتّ في نشرها أو رفضها، لكنّه كبستانيّ بلا طموح أو فضول، وبشهادة درويش، كان حاسما صارما لا يساوم على شيء، لا يجد حرجا في الدفاع عن نفسه ضدّ صغار النقّاد بقبضته أو حتى التربّص بهم بمسدّسه، وهو العاشق للمسدّسات ، فانقطع عن أدونيس 27 عاما، حتى التقاه ثانية في ملتقى الشعر بالسويد، ليستكملا حديثهما بعد عتاب مختزل ويخوضا في شجون أهلكها النسيان.

نصّ سليم بركات، ملكه وحده، يزيد من سعة الأرض بعدما خرج من أبوّة مفترضة. يقول أدونيس.

استعاض سليم بدل تلك الأبوّة، وبكثير من الهلع، بساحر أخير هو محمود درويش، كنعمة سماوية، وامبراطورا أوحد في حيرة الشعر وتاريخه، ونجم كرة قدم يلهب المدرجّات التي تهرول إليه بكلّ الجالسين عليها.

لم يبذل درويش جهدا لتطوير أيّة علاقة شخصية إلا نادرا، بحيث تمّت أغلب صداقاته الشعرية من خلال النص وحده، لكنّه تبنّى سليما كابن له في إطار من الدعابة التي صدّقها سليم المتوتّر المستنفر ضدّ المجهول أبدا.

واستطابت الدعابة لدرويش أكثر، فكان يطمئنّ على سليم من أهوال الحرب في بيروت، بهواجس الأبوّة الحقيقية:

“أين سليم ديك الحيّ الفصيح ؟هل وجد طعاما وماء ؟”

علاقات سليم كانت من الرخاء، بحيث وضعته في مهبّ كلّ شيء، لكنّه لم يكسب من الحظوظ شيئا كثيرا.هنالك خطأٌ في مكان ما، في نعمة مسّتها الحظوظ الوافرة.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...