أهمية الخط الحديدي الحجازي على أعتاب ذكراه المئوية

22-06-2006

أهمية الخط الحديدي الحجازي على أعتاب ذكراه المئوية

الجمل: منذ بداية القرن التاسع عشر الميلادي، وجدت الدولة العثمانية نفسها وقد تخلفت تخلفاً ذريعاً عن مواكبة مسيرة التقدم العلمي العالمية. ولم تجد المحاولات لتصحيح المسار وملء الفجوة التي كانت تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم، باستثناء القليل.
والأسباب متعددة، ويلعب الغرب دوراً كبيراً في منع تقدمها، كما هو الحال اليوم. وما أن حلّ النصف الثاني من ذلك القرن، حتى تنازع العالم الإسلامي فكرتان من أجل العمل لتحقيق نهضة الأمة وهما فكرة الجامعة الإسلامية، وفكرة القومية والوحدة العربية.
وبحكم طبيعة ونشأة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، فإنه ومن أجل مصلحة الدولة العثمانية وجميع المسلمين، تزعم فكرة الدعوة إلى الجامعة الإسلامية كمقدمة للوحدة، أمام ما يرتكبه الغرب من شرور وآثام بعد استعماره للعديد من بلاد الإسلام.
واتجه ومن أجل تقوية الفكرة، إلى إحياء ودعم مركز الخلافة الإسلامية كي يلتف المسلمون حول هذا المركز، بصرف النظر عن جنسياتهم ولغاتهم ومذاهبهم، وبذلك يتمكن بحكم كونه زعيم أقوى وأكبر تجمع إسلامي آنذاك، من صد الغزو الأوروبي الزاحف باتجاه ديارهم.
وأرسل عبد الحميد يبث الدعاة للفكرة في جميع أرجاء العالم الإسلامي. ولاقت الدعوة نجاحاً كبيراً وأحدثت صدى واسعاً وخاصة في القارة الأفريقية. ونجح في إذكاء الشعور الإسلامي من أجل التضامن والتكافل والالتفاف حول الخلافة. واهتم بالبلاد العربية بشكل خاص. وأغدق العطايا على العرب وأقام المشروعات المتعددة في بلادهم، وعين الكثير منهم في الدولة لشغل بعض المراكز العليا، وكان منهم رجل شامي الأصل هو عزت باشا العابد الذي أصبح مستشاره الخاص للشؤون العربية.
وبمناسبة حلول قرابة المائة عام إلى إنجاز الخط الحديدي الحجازي، ذلك المشروع الوليد المجسد العملي للوحدة الإسلامية، والذي لم يلبث أن لفظ أنفاسه وهو لا يزال وليداً. أحببت أن أحدثكم عن هذه الظاهرة الحضارية في حينه، كمساهمة في نقل التطور الصناعي الذي سبق أن حصل في الغرب إلى البلاد الإسلامية في مختلف المجالات ومنها مجال النقل والمواصلات.
كانت الرحلة إلى الأماكن الإسلامية المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، لتأدية ركن وفريضة من فرائض الإسلام، محفوفة بالمصاعب والمشقات قبل إنشاء هذا الخط، فضلاً عن طي صفحة من الزمان مقدارها حوالي الأربعين يوماً ذهاباً ومثلها من أجل رحلة العودة، إضافة إلى الوقت الذي يستغرقه الحاج في المكوث في أرض الحجاز لتأدية الشعائر، فيبلغ مجموع زمن الرحلة ما بين الثلاثة أشهر في أقصر الحالات حتى الستة أشهر. وقد يحول الحول الكامل على الحاج الهندي أو الأندونيسي إلى أن يرجع إلى ذويه.
كانت قافلة الحج التي تستخدم ظهور الجمال واسطة للنقل على الأغلب، تعترضها المخاطر الجسام من جراء السير لمسافات طويلة في الصحاري، الأمر الذي يعرّضها لنهب البدو وندرة المياه، والتعرض للقتل والسلب رغم كافة الحراسات المشددة.
وكان موكب الحجيج يجتمع في الميدان جنوبي دمشق، بعد أن يصل إليها من الأقطار الإسلامية المجاورة لبلاد الشام من الشمال والشمال الشرقي. ثم يقوم أمير الحج العثماني بترأس القافلة، وتحت إمرته جيش صغير مجهز بالأسلحة الكاملة والمدافع الصغيرة. ويقوم الحجاج بالسير خلف هذه القوة. ويتخذ الركب أثناء مسيره محطات عديدة للاستراحة والتزود بالطعام والماء حتى يدخل الشعاب الخطيرة في شمالي ما يعرف اليوم بالمملكة العربية السعودية وبينها وبين المملكة الأردنية الهاشمية الحالية. وهنا يسلك الحجاج ممراً ضيقاً بعد أن يقف أمير الحج على مرتفع وهو يراقب الجميع حتى يمرون بأكملهم من أمامه. وفي كافة مراحل الطريق ينعم الركب بالحراسة المشددة من جميع الجهات خوفاً من غارات السلب التي ذكرت.
وكثيراً ما يهاجم البدو المتمتعين بالكثرة العددية أطراف القافلة أو قياداتها أو قد يقضون عليها بالكامل، وفي أحسن الأحوال يتم استرضاء أولئك المغيرين اللصوص فتنجوا القافلة أو يخسر الحاج بعض أو كل أموله أو أمتعته ويعود صفر اليدين إلى وطنه.
ودعت هذه المشاق الحكومة العثمانية للتفكير في إنشاء سكة حديدية توفر على الحاج هذه المصاعب. وتؤمن قسطاً من الراحة لها وله، فضلاً عن الاقتصاد في النفقات.
وتبلورت الفكرة في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، فقرر في عام 1900م مدّ خط حديدي يصل الشام بالحجاز. ومن أن الفكرة كان قد جرى طرحها قبل تولي عبد الحميد مقاليد السلطة، لكنها لم تنفذ حتى عهده نظراً للصعوبات المفترضة.
كانت الخطوط الحديدية الضيقة قد شاعت في ذلك الوقت، بسبب السلاسل الجبلية في بلاد الشام وبسبب الأغوار، وعلى ذلك كان خط بيروت دمشق عام 1891م أقدم من الخط الحجاري، وقبله بقليل خط دمشق حوران الذي حصل على امتيازه يوسف مطران الذي أسس شركة بلجيكية بعد أن استعاد امتيازه وعرفت آنذاك باسم شركة ترامواي دمشق وخط دمشق حوران. كما أسس اللبناني حسن بيهم الشركة المساهمة العثمانية لخط بيروت دمشق الاقتصادي، وخط دمشق حلب، وحمص طرابلس.
وافتتح الخط بعدما أعلن عن بدء تنفيذه. وتبرع السلطان بمبلغ 230 ألف ليرة عثمانية ذهبية. وتبرع شاه إيران بمبلغ 50 ألف ليرة عثمانية، كما تعهد خديوي مصر بإرسال كمية ضخمة من مواد البناء والإنشاء. وتألفت جمعيات لجمع التبرعات من الأموال الغفيرة لمسلمي الهند بمقاطعاتها المختلفة، وأرسل أحد أغنياء مسلمي كلكتا خمسة آلاف ليرة، كما بعث مدير جريدة الوطن في لاهور بخمسة آلاف ليرة أيضاً، وتوالت الأموال من البلاد الإسلامية الأخرى وخاصة من المسلمين الهنود القاطنين في جنوبي أفريقيا.
ورسمت الألقاب للمتبرعين ومنحت لهم الأوسمة. كما فرضت بعض الضرائب دعماً وإعانة من أجل إنجاز الخط، كذلك أحدثت طوابع جديدة وجمعت جلود الأضاحي لتباع ويحوّل ثمنها لمصلحة الخط.
وبوشر بالعمل، وسار بوتيرة جيدة وبسرعة يبلغ مقدارها 100 كم في السنة. وأدار أحد المقربين من السلطان وهو «أحمد عزت العابد» السوري الذي سبق أن ذكرته، مع لجنة الحجاز، الأموال، ولم يخل الأمر من تسرب بعض هذه الأموال إلى جيوب بعض أصحاب المصالح والأطماع، وحمى بعض المتنفذين بعضهم بعضاً.
وكانت قد مدت قبل البدء بإنشاء الخط بعض السكك في بلاد الشام يرجع تاريخ تشغيلها إلى نهاية القرن 19. ففي أيلول من عام 1900، ابتدأ العمل من قرية مزيريب في حوران. وكانت سكة حديد قد أقيمت بين دمشق وهذه البلدة، وطبقاً لامتيازها لا يجوز إنشاء سكة أخرى بجانبها، لكن الدولة العثمانية رأت ضرورة إيصال الخط إلى دمشق، وقررت إنشاء خط درعا - دمشق. وبوشر بالعمل من دمشق والمزيريب دفعة واحدة، وأنشئت سكة حديد عثمانية موازية لخط الشركة الفرنسية، واستثمرت بدءاً من عام 1894م. ثم افتتح خط دمشق - درعا في أيلول عام 1903م بعد شهرين من افتتاح قسم درعا - عمان.
بعد خروج الخط الحديدي الحجازي من دمشق، يدخل أراضي حوران بعد مروره بغوطة دمشق الغربية وحوضها. ثم بعد مروره بسفوح جبل العرب يصل محطة درعا، وعندها يتفرع منه قسم يصل إلى مدينة حيفا في الساحل الفلسطيني، مع استمرار الخط الأساسي في اتجاهه نحو الجنوب.
ومن درعا يتجه الخط جنوباً باتجاه مدينة عمان بعد عبوره سهل المفرق مخلفاً إلى الغرب منه مدينة جرش وآثارها التاريخية، وبعد قطعه وادي الزرقاء، ثم بعد وصوله معان، يستمر في اتجاهه جنوباً وهو يصعد الصحراء، تاركاً إلى جانبه بعض الآثار الرومانية القديمة والعربية. ثم يمر بقلعة القطرانه وقلعة الحسا وأرض قبيلة عنزو وأراضي قبيلة الحويطات، ثم يصل مدينة معان حيث يخترقها من أواسطها. وبعد معان يتجه جنوباً شرقياً لتحيط به الصحراء من جديد مبتعداً عن البحر الأحمر صعوداً إلى العقبة الحجازية التي ترتفع 1150م عن سطح البحر ليهبط بعدها نحو بطن الغول في الصحراء الرملية ذات الألوان المختلفة والمتعددة في منطقة ذات جمال طبيعي أخاذ، ثم يصل إلى محطة المدورة، حيث تنتهي حدود قبيلة الحويطات وتبدأ أراضي بني عطية. وبين معان وتبوك، ثم بين تبوك ومدائن صالح البعيدة عن دمشق 955كم، يمر الخط بأرض قاحلة لكنها سهلية. ثم تلاقي الخط على بعد 980كم من دمشق بلدة العلا، وهي بلدة زراعية تقع في واحة جميلة، ليسلك بعضها طريق القوافل حتى المدينة المنورة، في منطقة مليئة بالمياه.
وفي 22 آب من عام 1908م، وصل أول قطار إلى المدينة المنورة وجرى الاحتفال في أيلول من ذلك العام في التاريخ المناسب والموافق لعيد الجلوس السلطاني على العرش. وافتتحت المحطة التي لا تزال تمثل هناك حتى اليوم بعد أن أنيرت بالكهرباء، وحمل رئيس الحفل المشير كاظم باشا على الأكف ورئيس المهندسين مختار بك. ثم بني جامع الحميدية قرب المحطة ونظم احتفال حضره قربة الثلاثين ألف شخص.
وهكذا وبعد تشغيل الخط، أمكن للحجاج أن يصل من دمشق إلى المدينة المنورة في خمسة أيام فقط، وتوفر له قسط من الراحة والأمن، وأمكن توطين البدو في المناطق المجاورة وأخيراً استقرار الحياة وتوفر المناخ الملائم لاستقرار الحياة الزراعية.
لكن هذا الحلم الذي كان يراود المسلمين آنذاك لم يطل أمد تحقيقه، إذ ما أن حدث الانقلاب العثماني ضد السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909م حتى توقف العمل في إيصال الخط إلى مكة المكرمة، نتيجة لعدم الاستقرار السياسي ولقدوم الحرب العالمية الأولى. وتغيرت أوضاعه وخاصة بعد انسحاب العثمانيين من بلاد الشام إثر الهزيمة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ولدخول جيوش الحلفاء إلى هذه البلاد. وبينما كان قبلها خطاً واحداً دون انقطاع حتى المدينة المنورة، أصابه الخراب بعد ذلك، وخاصة في المناطق البعيدة عن العمران أو في مناطق الجسور والمحطات والمستودعات أو في المباني والمصانع التابعة له. والسبب واضح وهو قطع الامدادات العثمانية لحامياتها في الحجاز واليمن، عن طريق تفجيره من قبل قوات الهاشميين الذين أعلنوا ثورتهم في الحجاز ضد الحكم العثماني عام 1916م، أو من قبل قوات الحلفاء المتعاونة معهم في المناطق الأردنية بعد احتلال الإنكليز لها.
كانت البنية الأساسية والتجهيزات والمنشآت الخدمية الملحقة بها من الجودة بحيث قلما يوجد نظير لها على المستوى العالمي. وقد جهز بمائة وعشرين قاطرة بخارية و1200 شاحنة و100 مركبة ركاب من صنوف مختلفة بما فيها غرف النوم والمطاعم وعشرين شاحنة بريد وعدد كبير من شاحنات وصهاريج المياه.
وأقيمت في القدم جنوبي دمشق معامل لإنتاج قطع الغيار مزودة بأحدث المواصفات الفنية فضلاً عن مستودع صغير للمرممات. كما أقيم في درعا مصنع صغير ومستودع وكذلك مثيل له في عمان ومعان وتبوك ومدائن صالح، ومستودع في المدينة المنورة وآخر في حيفا إضافة إلى مصنع صغير.
هذه الظاهرة الحضارية المتقدمة نسبياً في بلادنا آنذاك، ماذا حصل لها بعد الاحتلال الأوروبي. فقد سلّم القسم الفلسطيني لإدارة الخطوط هناك إلى بريطانيا. واستلمت الحكومة الفيصلية الجزء السوري، بينما خرب القسم الصحراوي الحجازي وكذلك جسوره ومحطاته. ووضعت الأيدي على ما نجا من المعامل من قبل الحكومات وقسمت القاطرات والشاحنات بنفس الطريقة، بينما كان القسم الصحراوي من نصيب هجمات البدو الذين انقضوا عليه.
ومع ما حل من كوارث ونكبات بهذا الخط نتيجة الاضطرابات السياسية والاجتماعية، فقد جرت مجموعة من الإصلاحات له في العهد الفيصلي، لكن بشكل سطحي وبسيط، ومع ذلك فبعد إعادة ترميمه عاد إلى الحياة ووصل القطار عام 1919م من المدينة المنورة إلى دمشق ولكن بشكل غير منتظم، وكانت تلك المرة الأولى لإعادة تشغيله بعد الحرب.
ودخل الفرنسيون إلى دمشق في 20 تموز من عام 1920م، لكن أمر الخط بقي على ما هو عليه حتى آذار من عام 1924م كي يدار حينها في سورية من قبل شركة دمشق حماه وتمديداتها الفرنسية. أما في الأردن فقد سلمته الحكومة الأردنية لإدارة خطوط فلسطين مقابل مقاولة معقودة بينهما. وكان الهاشميون يودون ترميمه حتى يكون خط اتصال بين منطقة أبيهم الشريف حسين في الحجاز، ومنطقة ابنه الأمير عبد الله في الأردن، ولذلك قام الأب بدعمه مالياً وفرضت من أجله الضرائب وجمعت الإعانات. وأنجز ترميمه حتى المدينة المنورة مؤقتاً لقلة الأموال. وبدأ تشغيله رسمياً من جديد وبلغت وارداته 40 ألف جنيه.
وكما جزئت البلاد العربية بعد انسحاب الدولة العثمانية منهزمة في الحرب، وبمقتضى معاهدة سايكس بيكو، كذلك لحق التآمر الأجنبي هذا الخط بالتبعية فجزيء. وعقدت المؤتمرات من أجله منها مؤتمر عام 1924م حيث حضره مندوبو المناطق المنفصلة عن تركيا من البلاد العربية في بلاد الشام والجزيرة العربية، وتقرر تقسيمه مثلما قسمت البلاد. واعتبر كل قسم ملكاً للمناطق التي يجتازها، وثبّت ذلك في قرارات عصبة الأمم في جنيف، واعتبرت الواردات خاضعة للنسبة الكيلومترية وليس على نسبة فائدة كل مقاطعة. وبعد إلحاق معان والعقبة بشرقي الأردن عام 1925م تسلمت إدارة خطوط فلسطين الخط الحجازي الجنوبي حتى المدورة في الكيلومتر 577. بقي أن نذكر أن طول الخط 1307كم من دمشق للمدينة المنورة ونفقاته حتى خروج العثمانيين من بلاد الشام ما يزيد قليلاً عن خمسة ملايين ليرة عثمانية ذهبية وهي نسبة قليلة نسبة لطوله، وهو مدين بإنشائه للجنود العثمانيين والنفوس الكريمة وثمرة جهود الأمة الإسلامية.
أهمية الخط: ولأول مرة في التاريخ، ترتبط الحجاز بما فيها البقاع الإسلامية المقدسة، بالعالم الخارجي عن طريق السكك الحديدية، بعد أن كانت تلك الأماكن الطاهرة تقصد سابقاً إما عن طريق البر بواسطة الجمال، أو عن طريق البحر بواسطة السفن.
لقد هدف السلطان العثماني عبد الحميد الثاني استخدام وسيلة سفر عصرية تتوفر فيها أسباب الراحة والسرعة، وتقلّ فيها لدرجة كبيرة مخاطر الطريق وأهواله. كان هدفه إضافة إلى توفير هذا العامل، دعم فكرة وحركة الجامعة الإسلامية بركيزتيها الخلافة والحج، وتحقيق نوع من التضامن الرسمي والشعبي بين المسلمين.
وازداد محبة الجماهير للدولة العثمانية، ولهجت الألسنة بالدعاء لخليفة المسلمين. وكان هذا دعماً قوياً لموقفه أمام مؤامرات أعدائه بمختلف صنوفهم. واستغنى حجاج الأناضول وبلاد الشام والعراق وإيران عن قوافل الجمال، رغم بقاء القليل من الذين احتفظوا بالقديم تمسكاً بالسنن ولنيل الثواب على قدر المشقة. وأصبح السفر البري بالقطارات للحج والعمرة قائماً إلى جانب النقل البحري المعروف من قبل. وظهرت الدولة العثمانية بمظهر الدولة العصرية المواكبة لخطوات التطور والتقدم الحضاري.
وهكذا كان إنجاز وتشغيل هذا الخط عملاً مهماً لدى الفرد الذي توفر لديه الوقت والمال وتأمنت راحته النسبية ونعم بالأمن والأمان من غائلات اللصوص والقتلة وقطاع الطرق، وفي الوقت ذاته كان عملاً مهماً أنجزته الحكومة العثمانية، بعد أن وطدت سلطتها على الجزيرة العربية، وسهّلت نقل الإمدادات الاقتصادية والعسكرية إلى الحجاز واليمن، كما اكتسبت محبة المسلمين وعطفهم ودعمت مركز الخلافة الإسلامية والتضامن الإسلامي. وقد قال السفير البريطاني في العاصمة العثمانية آنذاك، وذلك في تقريره السنوي لعام 1907م معبراً عن حنق الإنكليز من جراء هذا العمل. قال: «إن خطة السلطان الماهرة تلك، استطاع أن يظهر بها أمام ثلاثمائة مليون مسلم (عدد المسلمين في العالم آنذاك) في ثوب الخليفة الذي هو الرئيس الروحي لهم، وأن يقيم لهم البرهان على قوة شعوره الديني وغيرته الدينية».
نتيجة لهذه الخطوة التي خطها عبد الحميد على أرض الواقع في صحراء العرب، جن جنون الفرد، وانبرت الأقلام المعادية الحاقدة والموتورة المشتراة بثمن بخس تبث سمومها ضد السلطان. ودست الافتراءات وتناقلت الألسن الشائعات ضده وضد الخط الذي أصبح له أعداء كما للسلطان.
الخط وأعداؤه:
قامت حركة الجامعة الإسلامية التي نادى بها السلطان عبد الحميد الثاني على دعامتين: دعامة روحية انسجمت مع نفسها التي تميل للتصوف، ودعامة اجتماعية محورها حركة الخلافة الإسلامية التي أيدها وتحمس لها أمام مكائد الغرب وتآمره وعدائه للإسلام وللمسلمين. وشكل الحج، تلك الفريضة والركن الأساسي من أركان الإسلام، جوهر هذا المحور الهام. لكن التجسد المادي لهذا الجوهر تمثل بإنشاء الخط الحديدي الحجازي.
ونتيجة لهذه الخطوة الحضارية التي خطها السلطان على أرض الواقع في صحراء العرب، بعد أن كان قد سبقها بخطوات مثل سكة حديد بغداد، وقطار الشرق السريع التي مولتها وأشرفت عليها الخبرات الأجنبية في حين كان هذا المشروع نقياً وخالصاً من أي تلوث أجنبي، نتيجة لذلك، جن جنون الغرب، وانبرت الأقلام المعادية تبث سمومها ضد السلطان وضد مشروعه الجديد. ودست الافتراءات، وتناقلت الألسن الشائعات. وشكل الخصوم المحليون الركيزة الأساسية لهذا العداء، ووقف المستعمرون الأجانب من ورائهم.
ادّعوا أن عبد الحميد يبيّت النوايا لسحق أية حركة انفصالية محتملة مستقبلاً من وراء عمله هذا، لكنهم تناسوا أن حكمه لم يدم إلا بضعة أشهر لما بعد افتتاح الخط. وتناسوا أن ثورة انفصالية إذا ما حدثت ضد حكمه في الحجاز أو اليمن أو الشام، فإن هذا الطريق البري المحتمل استخدامه لكبحها، محفوف بالمخاطر ويمكن تفجيره وتفجير الإمدادات العسكرية المنقولة بواسطته أو منعها. وأنه بإمكانه استخدام الطريق البحري الأرخص والأسهل والأرحب، إذ السفن العثمانية معفية من الخضوع للقيود العسكرية المفروضة على سائر الدول في حالة الدفاع عن ممتلكات الدولة العثمانية الواقعة على الساحل الشرقي من البحر الأحمر بمقتضى التعديل على الاتفاقية البحرية لمرور السفن في قناة السويس. وبذلك يتبين تهافت هذه الحجة المفتراة.
ويبرز هنا سؤال مفاده: لماذا لا تشن هذه الحملات المغرضة، على بقية خطوط الشبكة الحديدية العثمانية السابقة لهذا الخط؟ والجواب أن المستهدف هو السلطان العثماني خليفة المسلمين، نظراً لتوجهاته الإسلامية، وهذا ما لا يرضاه الغرب لا سابقاً ولا لاحقاً امتداداً حتى وقتنا الحاضر.
وسواء أنشئ هذا الخط أو لم ينشأ، فإنهم سوف يفتعلون ألف حجة وحجة لانتقاد السلطان والدولة العثمانية.
وفعلاً فهذا ما كانوا يقومون به حتى قبل ولادة هذا المشروع الحيوي. ومعظم الافتراءات مجرد محض أكاذيب. وإن وجدت بعض الأخطاء فإنها توضع تحت المجهر كي تضخم ألف مرة ومرة، وتلك هي النزعة العنصرية التي لا تزال تستخدم في الغرب حتى وقتنا الحاضر. أما المخاوف الداخلية من جراء مدّ الخط الحديدي الحجازي، ومنها مخاوف الهاشميين في الحجاز أو الزيديين في اليمن، من تشديد القبضة العثمانية، فلها ما يبررها إذا ما أخذت بمنظار المصلحة الشخصية أو الإقليمية، لكن الأمر حسب المنظور العام أوسع من هذا التوهم.
أما مخاوف العصابات البدوية وقطاع الطرق التي تضررت مصالحها لانقطاع الأتاوات والهدايا السنوية والابتزازات لقاء ترك قوافل الحجيج سالمة من النهب ومن التهديد بالقتل، فليس لها ما يبررها، وقد كانت هذه العصابات هي التي سطت على منشآته بعد أن أصبح المشروع جاهزاً.
وأخيراً فإن الهدف من هذا البحث التاريخي الموجز، ليس تقديم المعلومات بقدر ما هو أخذ العبر. فهذه المعلومات التاريخية كثيراً ما نمر عليها مرّ الكرام، ولكن يبقى علينا الاتعاظ والتاريخ غالباً ما يعيد نفسه بشكل أم بآخر.
إن ذلك المشروع الحضاري لذلك الزمن شكّل بنية قوية في إرساء دعائم الوحدة. ولا يزال يعد رغم أنه قد أصبح يباباً من ذكريات الماضي، تجسيد لوحدة المسلمين. ومع أنه قد تهدم وتجزأ فإنه يعبر عن واقع وحال هذه الأمة.
إن التجزئة التي نمرّ بها ونعاني آثارها، غالباً ما تنعكس على مناحي حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية. ويأتي هذا الخط كمثال من جملة الكثير من الأمثلة التي تعبر عن واقعنا المريض وتخلفنا الرهيب. ألم تمثل الشبكة المواصلاتية الحديدية في الغرب شريان المواصلات الأساسي؟ إنها الوسيلة التي لجأت على مدّها دول أوروبا منذ قرابة القرنين من الزمان فاتصل غربي القارة بأقاصي المجاهل السيبيرية. أليست هي (أي السكك الحديدية) واسطة المواصلات الأولى في الهند، بلد مئات الملايين من البشر منذ عهود الاستعمار البريطاني؟
إن هذا الخط المتهدم المجزأ، يعكس تخلفنا وتجزئتنا التي لا تتجلى فقط على المستوى الشعبي، لكنها تجزئة وتخلف على المستوى الرسمي.
أسأل الله أن يبدل حال هذه الأمة بأحسن حال إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 


د.علي حسون
 


المراجع:
- العرب والدولة العثمانية: علي حسون
- الدولة العثمانية، دولة إسلامية مفترى عليها: عبد العزيز الشناوي.
- خطط الشام: محمد كردعلي.
- صحوة الرجل المريض: موفق بني المرجة.
محاضرة ألقيت في المركز الثقافي في مدينة دوما بتاريخ 6 حزيران 2006م الموافق 11 جمادى الأولى لعام 1427هـ
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...