مثقفون يوجهون سهامهم إلى المقاومة

09-09-2006

مثقفون يوجهون سهامهم إلى المقاومة

تتمثل عقدة استوكهولم بأبهى صورها في السلوك السياسي والثقافي العربي. فقد تماهت أفكار وسياسات أنظمتنا السياسية وبعض مثقفينا مع سياسات وأنماط تفكير المهيمن الأميركي بشكل لا يضاهى حتى في أوروبا التي تحاول أن تستقل بقرارها. وفي أساطيرنا الشعبية، وقبل أن يخرج استوكهولم بنظريته النفسية (التي يعتبر فيها أن المخطوف لفترة طويلة تحصل عنده حالة تعاطف مع خاطفه) هناك ما يسمى الانسباع، عندما ينسبع الشخص أمام وحش مفترس فيصبح مشلول الحركة ويسير وراء الوحش أو الضبع بشكل لا إرادي. فيتعطل العقل وتصبح الإرادة السائدة على مسرح الحدث إرادة الجاني المفترس.
هكذا، لم يعد الكلام عن الذات السياسية والإجتماعية والثقافية مسموحاٌ به، إلا بالقدر الذي يريده الخاطف، والرهينة تصبح صدى لإملاءات العدو المتسلط. لم يعد جائزا الحديث عن فلسطين لأن هناك إسرائيل، لم يعد جائزا الكلام عن الإسلام ، لأن هناك الإرهاب الإسلامي أو الإسلام الفاشي، آخر ابتكارات السيد بوش لم يعد جائزا الحديث عن الحرية لأن هناك الإرادة الأميركية، ولم يعد جائزا الحديث عن مقاومة لأن ذلك مساو لتأييد الإرهاب أو الحروب الطائفية ولأن هناك شرق أوسط جديداً أميركي الطبعة، ولم يعد جائزا الحديث عن الشيعة لأنك بهذا تنفخ بالطائفية(!) ولأن هناك إيران. إيران(!) التي أشعلت الحروب الطائفية في أفغانستان والعراق ومصر، إيران التي أغتصبت فلسطين وغزت العراق، وهي أيضا تطيح بكل المنجزات العربية: على صعيد التحرير والإصلاح السياسي والنظام الشرق أوسطي واتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو... وأيضا أن تكون شيعيا الآن يعني أنك إيراني، خميني، خامنئي. أن تكون شيعيا مقاوما فهذا يفسد نظرية استوكهولم، ومخططات صنّاع القرار في البيت الابيض ويخرب على العرب ما وٌعدوا به! من عودة الفلسطيني وقيام دولة فلسطينية... أن تكون مقاوما الآن يعني أنك تتدخل في شؤون اللبنانيين الخاصة وشؤون كل العرب والنفط والطوائف اللبنانية وغيرها... وبالتالي أن تكون مقاوماَ فهذا يعني أنك تخطف الطائفة الشيعية لأن في الشيعة أفراداً يطيعون استوكهولم وهم أصبحوا سباعا، أو مسبوعين في زمن الهزيمة وفي زمن الفساد السياسي والاستبداد، أن تكون مقاوماً يعني أنك تؤمن برأي السيد حسن نصرالله اللبناني، وبرأي السيد آية الله علي الخامنئي الإيراني، أن تكون مقاوماً يعني أنك تشارك في اغتيال القلب وتشارك في هزيمة المهزومين الذين هرسوا قلوبنا (بتعبير ياسين الحاج صالح،  25 آب 2006) وهم، كما عبر ذاته، ليسوا واثقين من أنك أيها المقاوم لست حبة قمح؛ فهم لم يروا إلا ثعالب أو دجاجاً. إنك ببساطة تخرب الإستقلال والسيادة! إن رأي رايس ورامسفيلد وجون بولتون وربما أولمرت وبيريز جاهز وبالتالي يعطيك الأمان والسلام والقرارات الدولية (من181إلى 1701) التي تضمن لك كل ما تريد وتمحو كل ذنوبك، ما تقدم منها وما تأخر وتنقلك من الاحتلال والوصاية والتبعية الى جنّات عدن ورحاب السيادة.
أن تكون حزب الله يعني أنك بين خامنئي وابن جبرين وتنسى العقل العلمي وسلسلة المعرفة البشرية وإبستيمة الوعي التاريخاني... وبالتالي تكون مع الجهل وضد النظريات التجريبية من فرنسيس بيكون أو روجرالى ماركس... (عبد الرزاق عيد، 25آب 2006).
(كذا) وأن تكون حزب الله يعني أنك تغامر بمصير الشعوب العربية وتمنع النظام العربي من الإصلاح والتصدي للمشكلات، ويعني أيضاً أنك مع خراب ودمار لبنان والمستفيد هو العدو.
(رضوان السيد، الحياة 26 آب 2006) (من هو العدو).
يبدو أن الوضع العربي، وخاصة اللبناني، كان يرتع في أحضان السعادة قبل 12 تموز ,2006 أو قل منذ ما يزيد على قرن من الزمان. لا زالت عقدة استوكهولم تغرز فينا آخر أنيابها، ومن يدري ربما تنقلب الصورة ونصبح نحن الخاطفين. ففي زمن الرجل الأعلى والإنسان الأقوى تصبح الضحية هي الجلاد لأنها تتحرك فيجب أن تزول حتى تكون. بين نيتشه ونرفانا لا فرق بعيداً هنا. ربما يريحنا أن نرتمي في حضن نفس العالم اليوم، اميركا، لنصل الى سلامة الأوطان والإنسان. على كلٍ، فإن الإسرائيليين يلومون الادارة الاميركية لأنها أدخلتهم في حرب ليست في مصلحتهم وورطتهم لخوض غمار مواجهة لم يكونوا مستعدين لها.
ربما يكون بعض الساسة والمثقفين العرب يوجهون سهامهم الى المقاومة من نفس القوس.
فهؤلاء الذين تنافحوا شرفاً وسحبوا خناجرهم وألسنتهم صوناً للعرض (بالإذن من مظفر النواب)، ألا يرون في تشرشل البريطاني بطلاً في دفاعه عن بريطانيا المدمرة وفي ديغول الفرنسي بطلاً محرراً لفرنسا من النازية بعد أن دمرت المدن الفرنسية (كما النازية الصهيونية الجديدة)، ألم يروا في معركة ستالينغراد منتهى المقاومة والبطولة في الدفاع عن الأرض والثورة... كفوا عن الظن أن أمتنا لا تنجب أبطالاً وقدرها الهزائم أمام الوحش...
وإن كنتم تخالفون الأبطال بالرأي وإن كانت تهفو لهم أفئدة الكثيرين هنا وفي العالم وكنتم قلة استوكهولمية...
ربما، بل على الأرجح، إن أبعاد الزمان والمكان، أفضل بما لا يقاس بأبعاد الزمان والمكان والماضي والحاضر الذي نرتع فيه.
لا يوجد شعب من شعوب العالم إلا وقاد بنفسه رحلته في السياسة والانتقال الاجتماعي، مهما كانت التدخلات والاحتلالات ومهما طال الزمن. الأنظمة والحركات السياسية والاجتماعية هي وليدة الثقافة الذاتية في حراكها المكاني والزماني والحس التاريخي (الذاكرة الجمعية). وإن الوضع العربي لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه من اغتصاب وهيمنة من هنا وفساد واستبداد من هناك. لهذا فإن الاستقلال والحرية لا بد لهما من رأسمال وثمن.
الرأسمال هو ثقافتنا ، والثمن هو التضحيات التي تفيض بها الثقافة. رأسمال التحرير المقاومة. والمقاومة تصنع الإنتصارات بالدم. فلا انتصارات مجانية...
فهل يمكن أن نوجه اللوم الى الفلسطيني الذي اغتصبت أرضه لأنه يقاوم، أو هل أن ضميرنا مسلوب الى الحد الذي نقول فيه ما كان للشعب الفيتنامي أو غيره أن يقاوم حتى يحرر وطنه.
إن وطناً يستحق أن نعيش فيه هو الوطن الذي يستأهل أن نضحي من أجله، وبالتالي هو وطن العقل والقلب والتضحيات. فمنذ الغزو الصهيوني عام 1982 وحزب الله يعطي من عقله وتضحياته ما يستحقه هذا الوطن.
وقد اعترف الأعداء بأن مقاومة حزب الله كانت في المقام الأول حرب عقول. فالقادة العسكريون للصهاينة تحدثوا عن مواجهات قاسية: في الإنترنت والإعلام والصواريخ ورسم الخنادق وتعطيل وتدمير الدبابات.
إن الإيمان والاعتقاد والتعقل والتوكل (وليس التواكل) هي كليات من أواليات المقاتل في حزب الله كما نراها على شاشات التلفزة وفي خطب سماحة الأمين العام لحزب الله أيام عاشوراء... فهل نحاسب المقاومة على هذا الإيمان وهذه الثقافة؟ ونقول له أن يستبدل ذلك بثقافة غربية أو أميركية أو صينية حتى نقبله(!) أم نحاسبها على انتصاراتها أو لا سمح الله إنكساراتها. إن عقلاً لا يريد أن يقرأ التاريخ ليفهم ثقافة الشعب المقاوم هو عقل بائد أو في أحسن الأحوال هو عقل مجتزأ. ونسأل هل نسي ماوتسي تونغ أن يذكر بطلاً صينياً تاريخياً صن يات سن في خطابه السياسي للصينيين؟
واحرّ قلبي ممن يخلطون الثقافة بالسياسة الآنية المباشرة بحيث تتمظهر شوائب النفوس الخانعة والقابعة في جزئياتها التاريخية ولا ترى الحقائق بكلياتها وتجلياتها. 
أعيدوا حساباتكم واقرأوا التاريخ. إن ثقافة تنتج نوعية مقاتلين من هذا المستوى هي جديرة بأن تقرأ وتتأمل، وربما تحتذى. فهي ليست ملكاً لأشخاص. إنها ملك لمن يتمثلها بجوهرها كهؤلاء. افترضوا أنفسكم علماءنفس واجتماع أو أنثروبولوجيا حقليين، ألا تحتاج هذه المقاومة وانتصاراتها الى وقفة علمية لدراستها وأسباب نجاحها... أخرجوا من استوكهولم. هل راقبتم تصريحات بوش ورايس: في البداية كانت مهمة الجيش الصهيوني (والأميركي) القضاء على حزب لله بناسه وسلاحه، ثم تقلّصت المهمة بعد ملحمة بنت جبيل وعيتا الشعب ومارون الراس، لتصبح إبعاد حزب الله ونزع سلاحه، ثم إبعاده عن الحدود فقط، ثم بعد الفشل الذريع للعدو صرح بوش أن لبنان على مفترق مصيري إما الديموقراطية أو التطرف.
إن همَّ بوش للدفاع عن ثكنته المتقدمة اسرائيل أقوى بكثير من همِّ هؤلاء الذين يقولون إن لبنان بلدنا ويهمنا أكثر من أميركا وفرنسا. لهذا فإن أوراق لا بل أفعال وأقوال أهل المقاومة وهمهم هو المجال الأرحب والأقوى للسيادة والإستقلال وأكثر طمأنينة مما يقوله أو يفعله جورج بوش للبنان.
أما هؤلاء الذين يستلّون كل شبقهم السيادي ليتهموا إيران بالتدخل في الشؤون اللبنانية ألم يروا السفير الأميركي، وتصريحات بوش (ووزيرته) ووزراء أوروبا وهذا وذاك... وهم يستعملون كل عسسهم من أجل
إنشاء لوبيات أميركية وفرنسية بتكريمات بولتونية وشيراكية... ألخ... افترضوا للحظة أن حزب الله أمن لكم لوبي في إيران يخدم بلدكم وقضيتكم الأولى فلسطين بدون أن تضطروا الى التزلف والتملق على ابواب هذه السفارة أو تلك أو تنتظرون أشهراً لتأخذوا موعداً من هذا الرئيس أو ذاك. هذا، إذا حنّ عليكم ودخلتم جنات واشنطن.
هل نبض فينا يتحرك ويرد على القنابل الحضارية لواشنطن التي أمطرت أطفال مروحين وقانا ويصبح هذا النبض صدى لتاريخ مقاوم مفعم بالوحدة الوطنية أم كما كتب غازي القصيبي:
سلام عليك/ على عرس قانا/ الذي رقصت فيه أم الحضارة (؟!)/ فوق دماء الطفولة،/ في نشوة الفاجرات/ ونقسم (نحن) إنا الذين إنتصرنا.
تقول الاسطورة الشعبية أنه إذا جرح المسبوع يستيقظ من سبعته ويقاوم من أجل الخلاص... وتنتهي أيضا عقدة استوكهولم سيندروم.
فإذا كانت دماء شهداء قانا ومروحين وأنصار والدوير وصريفا والقاع لم تعِد لنا نبضاً خفت، فأي ضمير يحتلنا وأي عقل يختلنا وأي نفس تقلنا وأي سماء تظلنا وأي كون يحملنا.
هذي الحرب جرح لنا ينزف حرية والذي يضمّد بقلبه تصيبه العدوى.

محسن صالح

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...