مئوية إبراهيم اليازجي

09-11-2006

مئوية إبراهيم اليازجي

عجيب ومدهش هذا الشاب النهضوي ابرهيم اليازجي، إبن النهضوي الكبير الشيخ ناصيف اليازجي. إبن أبيه، ثقافياً، من جانب، لكنه ابن نفسه واجتهاده، معرفياً وعلمياً، من جوانب متعددة أخرى. أخذ عن أبيه محبّة اللغة العربية والتبحّر في علومها، والطموح النهضوي الأوسع من أجل تمدّن الأمة العربية، وأخذ عنه – وهو في مطلع شبابه – الاهداف التي رسمها الرائدان الكبيران: بطرس البستاني وناصيف اليازجي، وأخذ منه، خصوصاً، معنى الدور النهضوي والتحرّري الذي خصّا به مسألة إحياء اللغة العربية في لبنان وبلاد العرب، وهو دور تاريخي ثقافياً وكفاحياً ايضاً.
رأى الرائدان الكبيران ان عصور الظلام التي أبعدت شعوب البلدان العربية عن الثقافة في مختلف أشكالها وأبسط أشكالها (انعدام المدارس عموماً، والجهل الذي يشمل الجميع تقريباً، ما عدا أقلية ضئيلة جداً لا تتعدّى الواحد أو الاثنين في المئة، جهل بالقراءة وبالتراث الثقافي بالطبع، وبكل ثقافة معاصرة، وربما بكل ثقافة!)، كانت في أساس تكامل مفهوم معيّن للنهضة التحرّرية والثقافية عند اليازجي الأب والبستاني الكبير، وعند الأكثرية الأشمل من المفكرين والكتّاب الروّاد الذين عاصروهما أو جاؤوا بعدهما بقليل. واعتبرا ان نشر التعليم هو أساس خلاص بلادنا (لبنان وسائر بلدان العرب) من كل الامراض الاجتماعية والتخلّف، وأساس النهضة وكل تقدّم لاحق.
هذا المفهوم، في تلك الفترة، كانت له أهمية تحرّرية وثورية كبرى: فالعمل في هذا السبيل (نشر التعليم وباللغة العربية) كان، موضوعياً، موجّها ضد السيطرة العثمانية، والاقطاع المحلي، بقدر ما هو موجّه ضد التخلّف المريع للبلاد، في مختلف المجالات.
وضع هذان الرائدان الكبيران أمام البلاد وامامهما شخصياً، عبر نشاطهما التثقيفي التعليمي، مهمات كبرى يمكن صوغها على وجه التقريب:
- تعزيز اللغة العربية والدفاع عنها، وقد أراد الطغيان العثماني والمتعصبون الاتراك محوها من الوجود على الصعيدين الرسمي والثقافي الاهلي.
- فتح المدارس، ووضع كتب مدرسية بالعربية.
- التعريف بالتراث الثقافي العربي، وبالتاريخ العربي، والاشادة بأمجاد العرب، كحوافز للتحرر والنهضة.
- التعريف كذلك بجوانب من الثقافة الاوروبية، والاستفادة منها.
كانت هذه الاهداف الاساسية والرئيسية تُستنتج بوضوح من مجموع كتابات الرائدين الكبيرين، ومن نشاطاتهما الثقافية والاجتماعية، وخصوصاً عبر تشكيل "الجمعية السورية للعلوم والفنون" التي تأسست عام 1847، العام نفسه الذي وُلد فيه ابرهيم اليازجي، فعاش وترعرع ونهل الثقافة من الينابيع التي أُتيحت له في الحضن الثقافي لهذين الرائدين ولنشاط الجمعية الثقافي، غير انه ذهب بمعارفه العلمية وأهدافه التحررية والسياسية، العملية، الى الأبعد. فهو لم يكتفِ بمهمات التعليم والتثقيف والتوجيه وحب اللغة العربية والدفاع عنها بما يشبه التعصّب، بل دخل في صلب العمل السري المنظّم والنشاط الكفاحي العملي لتحرير لبنان والبلاد العربية من السيطرة العثمانية والاحتلال التركي، في أفق إقامة الدولة العربية الموحدة.

- وُلد ابرهيم بن الشيخ ناصيف بن عبدالله بن ناصيف بن جنبلاط بن سعد اليازجي في 2 آذار 1847 في بيروت، محلّة زقاق البلاط، وفيها نشأ، وتوفى في 28 كانون الاول 1906، عن 60 سنة. كان اليازجي الشاب مهووساً باللغة العربية، لا يريد لها، فقط، ان تنتشر بالتعلّم في كل مكان من البلاد، بل يريد للناس والطلاب والصحافيين وكتّاب الجرائد أن يكتبوا بلغة عربية صحيحة وأصيلة ومعاصرة معاً. مقالاته ومجادلاته الاولى كانت حول اللغة العربية والأغلاط التي يرتكبها الكتّاب في الجرائد، وأغلاط الكتّاب المعروفين في حينه، فتولّى بنفسه تصحيح العديد من كتابات الكتّاب بدأب وبدون إظهار التعب، الى درجة انه تولّى تصحيح العديد من نصوص أو كتب أصدقائه من المؤلفين، وتبييضها وحتى إعادة كتابتها، فكأنه انتدب نفسه لهذه المهمة، وهو في هذا لم يستثنِ أغلاطاً معينة لوالده العلاّمة في اللغة، ولم يستثنِ ايضاً أغلاطاً كان ارتكبها هو نفسه في كتابات سابقة له.
أشهر معاركه اللغوية التي خاضها، كانت مع الكاتب الكبير والعلاّمة اللغوي، والمبدع في كتابته السردية، أحمد فارس الشدياق، الذي كان انتقد بعض كتابات اليازجي الكبير الشيخ ناصيف، بشيء من السخرية، فتصدّى له اليازجي الشاب الشيخ ابرهيم، فثارت معركة واسعة الأصداء ساهمت، ولا شك، في شهرة اليازجي الشاب وفي ترسيخ مكانته اللغوية والاخلاقية. ذلك ان ردود الشدياق كانت، كعادته، عنيفة مقذعة ساخرة وأقرب الى الشتائم، في حين كان اليازجي الشاب يناقشه بهدوء ورزانة وبلهجة الواثق بنفسه وبعلمه. طبعاً لم ينتصر الشاب على الشدياق الكبير، لكن الشدياق لم يستطع أن يوقع الهزيمة بـ"خصمه"، بل ان صمود هذا "الخصم"، بعلمه وخلقه، ساهم كثيراً في شهرة هذا النهضوي الشاب وشيوع صيته وقدراته، فخدمه الشدياق من حيث أراد معاقبته على تطاوله وتصدّيه لمن هو اكبر منه شهرة وعلماً وإبداعاً ونفوذاً.
من الصور المقذعة التي تعبّر عن غيظ الشدياق من غريمه، قوله عن ابرهيم اليازجي هذا انه "صاحب السفاهة الكبرى... وقد بلّغني من يوثق بكلامه انه من أهل الاسواق، وأولاد الزقاق، وانه حاول أن يدخل أحد المكاتب ليتعلّم بعض العلوم الابتدائية، وحيث كان خامل القدر، منسي الذكر، أراد أن يحصل على شهرة بتخطئة صاحب "الجوائب" (أي الشدياق نفسه) فحصّل ما أراد، وإن كان عن طريق الفساد: لأنّا، قبل وقاحته هذه، لم يكن لنا علم بوجوده"(1).
وبالفعل، فإن هذه المناظرة كانت من بين أسباب الشهرة المبكرة لإبرهيم اليازجي، إذ أظهرت كفاءة هذا الشاب، عالم اللغة الآتي، الواثق بنفسه وبقدراته التي ستتعدّد مجالات فعلها، وتتجاوز حقول اللغة الى حقول من التخصصات العلمية والصناعات وغواية الشغل بالآلات الدقيقة.

- في حقل اللغة، وجد ابرهيم اليازجي نفسه على الحدّ، بين الحفاظ على أصول اللغة وعراقتها وتقريب هذه اللغة من الحياة، وهذا ما اعتبره، في ذلك الوقت، "خدمة وطنية" حيث كادت السيطرة التركية تدفع بهذه اللغة الى "العجمة" والى الانحطاط وما يشبه العجز عن تأدية أبسط وظائفها.
ففي مقالة له عنوانها واضح الهدف، "اللغة والعصر"، تحدث عن قصور اللغة العربية عن تأدية وظائفها العصرية، فعبّر عن رأيه بأن لغتنا هذه "لا تزداد إلا ضيقاً باتساع مذاهب الحضارة وتشعّب طرق التفنّن في المخترعات والمستحدثات الى أن كادت تُنبذ في زوايا الاهمال وتلحق بما سبقها من لغات القرون الخوال"(2).
ولم يكن من السهل عليه أن يوازن بين جانبَي المعضلة: الحفاظ على أصول اللغة العربية وعراقتها وموازينها اللغوية، وأن يقول بضرورة انفتاح مخزون هذه اللغة على حشود الحاجات الجديدة المعاصرة التي تتطلّب أسماء لها، جديدة، تدخل في صلب اللغة العربية نفسها من دون أن تخلّ بتوازنها وموازينها.
فهو تحدث عن افتقار هذه اللغة الى أسماء ومصطلحات للأدوات والاغراض والقضايا الحديثة والافكار الجديدة، بحيث لم تعد هذه اللغة تتماشى مع العصر. حتى ان الكاتب لا يستطيع أن يصف أغراض البيت المتواضع، فكيف بأغراض القصور، مثلاً، أو عناصر الجديد في دوائر الدولة نفسها؟ فـ"لا شيء من هذا يجد له إسماً في هذه اللغة!"(3). ويا ليت شعري، يقول، ما يصنع أحدنا لو دخل أحد المعارض الطبيعية أو الصناعية، حيث سيشاهد الكثير من المنتجات العضوية وغير العضوية، ويعاين ما هناك من الآلات والادوات وسائر أجناس المصنوعات وما تتألف منه من قطع وأجزاء، وأراد وصف ما يشاهده بلغته هو العربية لا بلغات منتجي هذه الادوات... فماذا يفعل؟ وبأيّ مفردات سيصف أشياء المعرض، وهي في غالبيتها لا تزال بلا أسماء أو مسميات؟ هل هو قصور في اللغة العربية نفسها أساساً أم ان اصول المشكلة هذه في مكان آخر؟
في رؤيته النظرية، ربط ابرهيم اليازجي مسألة تطور اللغة ومجاراتها للعصر، بتقدّم الأمة في الحضارة والمدنية وحتى بالنظام الاجتماعي، على أساس أن التقّدم العلمي والاجتماعي والاختراعات وأدوات الصناعة ومنتجاتها، تخلق لغتها معها، وتوجِد أسماءها لنفسها، إذ تدفع علماء اللغة الى مجاراة هذا التقدم التقني، في حركة تطوير متواصل وطبيعي للغة، فكل منتج جديد يحمل بذاته اسمه أو ضرورة "نحت" اسم له حال تداوله، فتغتني اللغة وتتطور باغتناء الحياة المادية العلمية وتطورها، وتغتني الحياة الثقافية ويتسع مداها وشمولتها. فالمسألة، عندنا، ليست إذاً تخلّفاً للغة بذاتها عن العصر فحسب، بل تخلّف الحياة المادية العلمية نفسها عن هذا العصر أيضاً.
على ان اليازجي أكد ان اللغة العربية "صالحة لأن تجاري أوسع اللغات وأكثرها مادة... ولكن ما أدركها من ذلك وارد من الأمة، وتخلّفها في حلبة الحضارة والمدنية إذ اللغة بأهلها (أي بالتطور المادي والعلمي لأهلها) تشبّ بشبابهم وتهرم بهرمهم، وإنما هي عبارة عما يتداولونه بينهم" من تحولات وصناعات وعلوم وتقدم تقني واجتماعي.
والى هذا، فان اليازجي عوّل على مزية مفادها ان اللغة العربية اختصت بها وهي "مزية عَزّ أن توجد في غيرها وهي ان أكثر ألفاظها مأخوذ بالاشتقاق اللفظي أو المعنوي". وهذا يشترط اشتغال علماء اللغة بتطوير لغتهم، في هذا السبيل، في شكل متواصل يجاري تطورات العصر، وتطورات الحياة المادية والعلمية في المجتمع.
الأهم من هذا كله، ان اليازجي ربط مسألة جمود اللغة العربية، وتخلّف المجتمع، بالوضع السياسي للبلاد، ولو بدون كلام صريح في هذا السياق: "لم يمرّ بهذه اللغة عهد هي فيه أحرج موقفاً من عهدها الحالي (أي عهد السيطرة التركية)، فان هذه اللغة قائمة بين خطرين عظيمين: أحدهما، ما طفح عليها من جانب العالم الغربي من ألوف الاوضاع والمصطلحات التي لا غنى لنا عن استعمالها، واللغة خلو منها، والثاني، ما نرى من تضافر العناصر على نسف دعائمها ودرس معالمها" (أي بما يتوافق مع تسييد اللغة التركية في البلاد، ومع المحاولات الدؤوبة لفرض مخطط التتريك، الذي يشمل اللغة والناس والبلاد). ولا شك في ان مختلف جهود اليازجي، الكتابية والحياتية، كانت تصبّ في سياق هذين الهدفين الاساسيين: المساهمة في إحياء اللغة العربية ووضع الأسس اللغوية لتطويرها، وكذلك تحرير البلاد من السيطرة العثمانية والاحتلال التركي، لتطوير البلاد والمجتمع وتطوير اللغة على السواء.

- على اننا نرى، في كيان هذا العالِم اللغوي الشاب، العجيب والمدهش، نزوعاً الى أنواع أخرى من العلوم وقدرات عقلية وجسمانية على الاختراعات والشغل اليدوي لتنفيذ هذه الاختراعات، وأهمها، وغير بعيد عن شغله اللغوي نفسه، إيجاد قاعدة مادية تقنية لتطوير الطباعة بما سوف يساعد، ايضاً، في تطوير اللغة وتسهيلها معاً. فهل سمعتم يوماً بـ"حرف سركيس"؟ هو الحرف الطباعي الأكثر استخداماً في لبنان وسوريا ومصر وغيرها منذ اخترعه وسكّه الشاب ابرهيم اليازجي خلال عام 1886 وحتى سنوات قليلة من زمان الأحرف الالكترونية، وحتى اكثر الأحرف الالكترونية هذه لا تزال تُطبع على الاساس الذي رسمه قلم هذا اليازجي العجيب. في ذلك الزمان، كانت الأحرف الطباعية العربية تأتينا من الخارج، وكان عدد تقطيعات الأحرف المعدنية هذه، المطلوبة للتجميع وللطباعة، كثير جداً، وهي معقدة الاستعمال، وتفتقر الى جمالية الخط، فاعتنى الشيخ ابرهيم اليازجي بصنع قاعدة جديدة، محلية، للأحرف الطباعية، مختصرة وقليلة وجميلة الكتابة. ووصف الباحث الموسوعي فيليب دو طرازي إنجاز اليازجي بقوله انه اخترع قاعدة جديدة تلغي القاعدة السابقة، وهذه القاعدة الجديدة عُرفت باسم "حرف سركيس"، "لأنها كانت تُسبك في مسبك خليل أفندي سركيس صاحب جريدة "لسان الحال" في بيروت، وهي القاعدة التي شاعت في اكثر المطابع العربية في لبنان وسوريا وفلسطين ومصر والجرائد العربية في أميركا. واصطناع هذه الحروف يحتاج الى دقّة ومهارة لا يعرف مقدارها الا من يعاني هذه الصناعة. لأن الحرف لا يتمثّل للطبع الا بعد أن يُحفر على قضيب من الفولاذ حفراً دقيقاً، ويُقال له باصطلاح الطباعة: "الأب"، ثم يُضرب على النحاس ضرباً حتى يُطبع غائراً في النحاس ويسمّونه حينئذ: "الأم"، وعلى هذه الأم يصبّون الرصاص فيخرج الحرف المعروف في المطابع. فالشيخ ابرهيم كان يصطنع "الأب" من الفولاذ ويضربه على "الأم" النحاسية. وقد اصطنع من هذا الحرف أقيسة عدة. ولما جاء الى القاهرة صنع حرفاً على قياس متوسط بين الحروف الكبرى والصغرى يُعرف بحرف "بنط 20" وقد اتخذته مسابك القاهرة واصطنعوا له قوالب وشاع استعماله في مطابعها"(4).
وأشار الدكتور شبلي شميّل الى هذا الانجاز بكثير من التقدير وبشيء من المخابثة البريئة: "وفضل الشيخ ابرهيم في علوم اللغة وآدابها لا يُنكر، وإنما فضله الأكبر، في نظري، هو في صنع حروف الطباعة، فقد عمل لذلك أجناسا عدة أكثرها شيوعاً جنس 20، وجنس 16، عملها في بيروت، وجنس 20 في مصر أو بالحري صبّ حروفه في مصر"(5).
وأخبرنا ميخائيل صوايا، في كتابه عن ابرهيم اليازجي "ان حرف اليازجي الاقتصادي ساعد المتفنّن سليم الحداد اللبناني على اختراع آلة (الدكتيلو) العربية، فوضع حروفها على مثال حرف اليازجي وتمكّن من ايجادها بهذه الحروف الجديدة لتعذّر ذلك في الآلة القديمة" (ص 66). أكثر من هذا، أفضت به هوايته التقنية والجميلة هذه الى ابتكار حروف صبّها في شكل حروف مفردة على اسلوب الحروف الفرنسية بما يختصر كثيراً جداً عدد الحروف الطباعية.

- ولهذا الشاب النهضوي العجيب اشتغالات ومساهمات علمية متعددة ومتنوعة، سواء على صعيد الكتابات العلمية، أو خصوصاً على صعيد الشغل اليدوي: فله في مجال الكتابة، مثلاً، محاضرات ومقالات حول جسم الانسان، وأجناس الحيوانات وحالاتها، والنباتات، خصائصها واستعمالاتها، ومقالات حول الظواهر الطبيعية من الرياح العنيفة والعواصف والزلازل والمناخ وتقلباته. كما ان له مساهمات في الرياضيات لإيجاد حلول لبعض معضلاتها، وتحليل تأثير الحالات والتعقيدات النفسية في الحركات والتصرفات والتحولات العضوية.
من محاضراته العلمية واحدة عنوانها "في الطب القديم" ألقاها خلال أحد اجتماعات "الجمعية العلمية السورية" في حزيران 1868، وصف فيها المواضعات والاحوال التشريحية للجسم البشري وأدواء هذا الجسم وأنواع العلاجات القديمة وأوصاف الامراض وحالات الصحة، بلغة عربية واضحة وغير معقدة وقريبة حتى الى لغتنا المعاصرة، وليس فيها التقعّر اللغوي لتلك الفترة، وتتميّز بقدرة على ايجاد أسماء وأوصاف لمختلف أعضاء الجسم البشري التي يتحدث عنها (6).
وله في الاشتغالات اليدوية ولع بمعالجة الآلات الدقيقة، كالساعات، مثلاً، والصياغة، والنقش الدقيق على المعادن. وأهم من هذا، أنه قدّم مساهمات في علم الفلك، وبعث بنظرياته الى الجمعية الفلكية في باريس، وطبع مقالاً في مجلتها بالفرنسية، فترجمت المقال جريدة "الاحوال" البيروتية ونشرته في عددها الصادر في 19 كانون الاول 1893، "وتوجت المقال بهذا العنوان "مأثرة علمية وطنية"، وخلاصة المقال اتفاق بين رأي تقدمت به العالمة الفلكية مس كلارك ورأي لليازجي في قياس ابعاد النجوم على الطريقة المحدثة" (7). ونوّهت المجلة الفرنسية بهذه المساهمة للعالم اللبناني الشاب.

- في الفنون، أولع اليازجي بالعزف على العود وضبط الأنغام الموسيقية بالنوتة، والغناء الخجول، لعدم إعجابه هو بصوته. كما أولع بالرسم الزيتي والفحم. من لوحاته المعروفة، صورته هو رسمها عبر المرآة (وهي الصورة المنشورة مع هذا المقال)، كذلك رسم صورة شقيقته الشاعرة وردة اليازجي، وبورتريهات عدة لأصدقاء له. وكانت صورته التي رسمها قد عُلّقت في القاعة الكبرى في "دار الكتب الوطنية" قبل خراب هذه الدار ونهب الكثير من محتوياتها خلال الحرب اللبنانية وشراساتها.
على ان انشغالاته هذه كلها كانت على هامش شغله الاساسي في إصلاح حال اللغة العربية، والكتابة، والترجمة، وإصدار المجلات. فقد تولّى التحرير في مجلات "النجاح" و"الطبيب" (العلمية والتخصصية) و"البيان" ومجلته "الضياء"، حيث نشر العديد من المقالات والدراسات الادبية والتأريخية والاجتماعية والعلمية، وهي تنطوي على أهمية تاريخية وبعضها يحمل اهمية راهنة، كما نرى، مثلاً، في مقالته اللماحة والرائية في "تعريف الشعر"، المنشورة في مجلة "الضياء" خلال عام 1898 أو 1900، ترجيحاً.
لعل إنجازه الأهم في الترجمة والانشاء النثري المتين والسلس، والشعري في مواقع كثيرة، هو تعريبه الكتاب المقدس. فقد طُلب منه إعادة النظر في ما كان قد ترجم من الكتاب، فأعاد صوغه كله، وأضفى على الترجمة ما يوازن بين الجمالية والوضوح، وخلّص الترجمة من التعقيد والصياغات البعيدة عن وضوح اللغة الموجهة، أساساً، الى عموم الناس. ساعده في دقة الترجمة ليس فقط تملّكه اللغة العربية ومخزونه الوافر منها، بل اندفاعه الى تعلّم العبرية والسريانية، لتكون الترجمة أكثر دقة، اضافة الى إتقانه الانكليزية والفرنسية.
وللدلالة على اتساع آفاق اهتماماته وتنوّع هذه الاهتمامات، نورد هنا، فقط، عناوين بعض المقالات التي نشرها في المجلات التي حررها: اللغة والعصر، لغة الجرائد، أغلاط العرب القدماء، اللغة العامية واللغة الفصحى، أصل اللغات السامية، نقد "لسان العرب"، أغلاط المولدين، مقالة في التعريب، مقالة في المجاز، مقالة في النبر، وكذلك مقالة علمية حول تكوّن العالم الشمسي... الخ.
وككل نهضوي متعدّد الاهتمام، وغزير الانتاج، كانت لليازجي مساهمات معروفة في النظم، وقصائد لها دور معروف في الحياة السياسية والتحررية. لكن اليازجي قدّم مساهمة طليعية في النظرية الشعرية، وهذا الجانب المهم لم يكن لمقالتنا هذه ان تشمله، وقد تكون لنا معه فرصة أخرى.

المراجع:
-1 نقلاً عن أنيس المقدسي، "الفنون الادبية وأعلامها في النهضة العربية الحديثة"، دار الكاتب العربي، بيروت، ص 146.
-2 نقلاً عن ميخائيل صوايا، "ابرهيم اليازجي"، دار الشرق الجديد، بيروت، ص81. (من مقال لليازجي عنوانه "اللغة والعصر").
-3 المرجع نفسه، ونقلاً عن المقال نفسه (ص 81-85) الذي أورده المؤلف في قسم "مختارات من آثاره".
-4 الفيكونت فيليب دو طرازي: "تاريخ الصحافة العربية"، بيروت، المطبعة الادبية 1913، جزء 2، ص 96.
-5 مذكرات الدكتور شبلي شميّل "حوادث وخواطر"، جمع الدكتور أسعد رزوق وإعداده، دار الحمراء، بيروت 1991، ص 76.
-6 ابرهيم اليازجي، "في الطب القديم"، محاضرة منشورة في مجموعة "أعمال الجمعية العلمية السورية: 1868-1869"، مجموعة العلوم، إعداد يوسف قزما خوري وتحقيقه، دار الحمراء، بيروت 1990، ص 121-125.
-7 ميخائيل صوايا، "ابرهيم اليازجي"، ص 64.

محمد دكروب

المصدر: النهار


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...