عبد الله عبد في مثلث اللغة والقوة والتراتب الاجتماعي

23-04-2006

عبد الله عبد في مثلث اللغة والقوة والتراتب الاجتماعي

يبدو لي أن الحدوس الفنية العميقة في تجربة عبد الله عبد، هي التي تمنحها قابلية الانفتاح على الوفرة والتعدد. ولعل ما تطالعنا به نصوصه من جواز عناصر العلاقة إلى تركيبها وإحكام بنيانها، هو مفتاح ذلك العمق الذي توجّه إليه، دون أن تحدّه بسطوحها القريبة، ومكوناتها البسيطة، ومادتها المرجعية الأليفة، التي تصوغ منها عالمها المجاوز لذلك كلّه، بما تنطوي عليه من قوة التدليل، ونشاط الإنتاجية، وحركية التوليد الفائضة على محيط الآحاد والشذرات والعناصر.
تَسِمُ كتابة عبد الله عبد مفارقة أساسية كبرى، تتصل باللغة التي تنجلي، في ازدواجها، وانقسامها، وتقابلها الضدّي بين الفردي والمؤسسي، وبين التحرير والتبرير، وبين الإبداع والإخضاع. في المستوى الأول تكشف كتابة عبد الله عبد، في طبقاتها العميقة، عن القِران النسقي الذي يؤلف بين اللغة والقوة والتراتب الاجتماعي، هذا الثالوث الذي تجلوه الكتابة القصصية عنده في تعاضده، وتكامل وظائفه، واتساق أدواره والتحامها معاً في الإطار المؤسسي، الذي يكفل النظام الاجتماعي السائد، ويجدّد دورته، ويرسّخ علاقاته، ويجريها، بقوة الصيانة والتعزيز، مجرى الناموس الطبيعي، فيخفي ما تقوم عليه، وتنتجه، من حقائق التشويه والاستعباد والتسلط.
إن اللغة، إذاً، تفرض منطق النظام الاجتماعي المتكافلة معه، وتعمّمه، وبذلك فهي تحدّد لكلّ منا موقعه في طبقات هذا البناء، وتحشره فيه. وعلى هذا الأساس يجري توزيع الكتلة اللفظية، في القصة، على مراتب المتكلمين، انطلاقاً من تفاوت حظوظهم ومكاناتهم. فهناك من يستأثر بسلطة اللغة وتوجيه الخطاب، في مقابل من يخضع وينسحب إلى هوامش القول، فلا يبقى له من الثروة المشتركة، برأس مالها الرمزي، سوى المفردات المنصوص عليها في قاموس الخضوع والامتثال.
في قصة <الأمل> من مجموعة <السيران ولعبة أولاد يعقوب> (1)، يلاحظ أن الشخصية المحورية الحاضرة بعزم العطالة والاستلاب والتهميش، تنسحب من دائرة الكلام. إنها تتلقى فقط، وتغدو آلة للتنفيذ.
<يوسف، قال البابا نظّف سطح الدار.
ووضع يوسف يده على رأسه، وأحناه قليلاً دلالة الطاعة> (ص 25).
هذا الكلام تنقله إليه طفلة في الثامنة من عمرها، هي ابنة المدير الذي يستخدمه في منزله مؤملاً إياه بالتثبيت الوظيفي. تعود إليه الطفلة مرةً بعد أخرى:
<قال البابا لا تخبط على السطح، إنه يريد أن ينام. فقال لها: حاضر> (ص 26).
في المرة الأخيرة لتلقيه الأوامر المنقولة، <رمى المكنسة من يده، وتحرك ناحية اليمين، فخطا بضع خطوات، ثم انحنى مقرفصاً، ثم على أربع وأخذ ينفخ أرض السطح> (ص 29).
إن نصيب الشخصية من التداول اللغوي، لا يتعدى كما هو واضح مفردة الرضوخ. ولغة الشخصية هنا على قدّ مكانتها المقننة اجتماعياً، حتى إنها ترجع، لغوياً، إلى ما قبل إنتاج الصوت؛ أي إلى طور الاستجابة الغريزية التي لا ترقى إلى رتبة النطق، فتنسحب إلى حدود الإيماء والإشارة، التي تردّ الكائن إلى طوره الحيواني الأول، وهو ما يلتقي، في النهاية، بصورة العامل، وقد انحنى تحت ضغط القوة، فصار يمشي على أربع. وإذا ما كان للبشري ههنا شيء من الحق في اللغة، فإن لغته الممكنة هذه تدور في دهاليز نفسه؛ لأنها مشروطة بحدود المكانة التي يحوزها، ولا يجوز له أن يتخطاها. وذلك ما تلفت إليه كتابة عبد الله عبد عموماً، وإن كان يتبدّى على نحو فنّي خاص، في قصة <المتشرد> من مجموعته الأولى <مات البنفسج> (2)، حيث إن المتشرد، بعد محاولات متكررة، لا يجد من يتحدث إليه سوى نفسه.
السلطة والقول
يلاحظ، من جهة أخرى، أن السلطة التي ترسل القول، وتملك حق التصرف بنظام اللغة، هي سلطة محتجبة في هذا الموضع (المدير يرسل الأوامر من غرفة نومه بوساطة الطفلة إلى العامل على السطح)، واحتجاب السلطة هنا قرين هيبتها ومفارقتها، كما هو، في الآن نفسه، دليل حضورها الشامل المشخّص بسواه، والمتمرئي بغيره، متلامحاً في القول والعلامة والإسناد والوسائط. وإذا كانت الطفلة هي القناة التي تؤمن انتقال الرسالة وتبليغها، فإنها، بهذا المعنى، تتبدّى من حيث هي علامة سيميوطيقية تضمن امتداد نسق الإرسال وتفعيل أدواته على خط المستقبل، الذي تغدو الطفولة مؤشراً عليه، فضلاً عن كونها معبراً للرسالة وأداة للتبليغ وفاعلاً له بالوكالة، وهي، بمقتضى ذلك، سلطة متفرعة عن الأصل الأبوي، وناطقة باسمه. إنها، إذاً، صورة الأب التي تغزو فضاء الزمن، وتنتقش على أفق المستقبل. ويعني ذلك أن النسق اللغوي المشيّد ، بلوازمه ومشتقاته، يغلّف دورة الحياة، ويسودها، ويؤمن سيطرته التي يردّها على نظام القوة الاجتماعي المرمّز فيه، باتصال مجراه بين الأب والابن، والماضي والمستقبل.
وتقدّم قصة <سلوم>، من المجموعة السابقة نفسها، شاهداً آخر على ما نحن بصدده. فسلّوم، على امتداد القصّة، لا ينطق بكلمة. إنه يتجافى منطق اللغة المقرر في الحيّز الاجتماعي، ذلك أنه غريب عنه، وغريب فيه، وفي الوقت الذي ينأى بنفسه عنه، أو يُقصى إلى هوامشه، نراه يتحد بلغة الطبيعة، ويتبادل معها كلامها السرّي الخاص، وهو هامش اللغة الذي يندُّ عن الاندماج في منظومتها العاملة. من هنا كان في سلّوم سلّومان: سلوم المقنن بالنظام اللغوي الاجتماعي، والمحدّد مكانه في قاعه المنبوذ، وهو ما يجعله يتلقى إهانات الآخرين وتشنيعهم عليه، وسلوم البدائي الذي تسلبه اللغة، في توزيعها الاجتماعي، إمكانية القول، وتنفيه إلى هوامشها، فيعود إلى طوره الطبيعي، يهجس بلغة العلامة الوجودية، ويخاطب الأشجار والأفلاك. ولهذا كان يجهل حمولة اللغة الأخرى، وما تُقرّه من تقسيمات الوجود، وتضفي عليه طابع القيمة والفرق والتفاصل. كان يجهل عدد أيام السنة، يجهل المناسبات وأعياد القديسين والأيام الفضيلة.
<لقد توسد الثرى، وسمع الشكوى المنبعثة من باطن الأرض (...) وخيّل إليه أن تلك الشكوى إنْ هي إلاّ أنين المعذبين لما اقترفت أيديهم وأفواههم. وما هؤلاء المعذبون سوى أبناء المدينة>. (ص 65.66).
إنه لمن الواضح في هذا السياق أن سلّوم يخصّ المدينة برؤاه القدحية هذه، من حيث هي مركز النظام الاجتماعي، وقلبه الذي يضخّ دماء القوة والمرتبة والاستبعاد، ويفعّل قانونها السائد. وإذا كان أبناء المدينة كما يتراءى له يعذبون لقاء ما اقترفت أيديهم وأفواههم، فإنه إذ يخصّ الأيدي والأفواه، ويعطف هذه على تلك، ويجمع بينهما مطلق الجمع يصل بمقتضى ذلك بين الفعل الاجتماعي والممارسة اللغوية في تكاملهما معاً. فالنظام اللغوي ينبثق من النظام الاجتماعي، ويحدّده، ويشكّل سنداً له، بحيث إنه يغدو مكاناً رمزياً تنحفر فيه قواعده، ويجري تثبيت المواقع الاجتماعية المتباينة داخل الشبكة اللغوية التي تحفظها بما لها من قدرة على النفاذ والعموم والديمومة.
لم يكن سلوم مصاباً بمسّ، لكنه في نظر الآخرين مجنون، يتحدث إلى الشجر، و<يدير وجهه مبتسماً، من حين لآخر، ناحية الأشجار، ويغمغم كلاماً مبهما> (ص64).
نعم إن سلوم مجنون بمعنى آخر، هو المعنى النقضي، الهادم للغة الجماعة وأعرافها، يتناءى عنها ليدخل في لغته هو، تلك التي لا تشبه، بندواتها واتساعها، إلا جنونه الخاص. بهذا المعنى، فقط، يمكن القول إن سلوم مجنون، لأنه نقيض النظام الاجتماعي الشائع، وآخره المعرّف به.
الجنون
وليس كلامه الذاتي، في التلقي الخارجي له، سوى غمغمة، لأنه لا ينصرف في حقول المعاني المذلّلة، ولا يحيل على الثوابت المعيارية، التي يجرى على أساسها التداول، وتتحصل بها القيمة، ويترسخ النظام. وهي غمغمة، لأنها، من الوجه الآخر، تسريب للمكبوت، وضخّ لمحتويات اللاوعي، التي تتعين، ضمناً، في مواجهة اللغة، تشتبك بها في صراع معها، وعليها، بهدف إعادة تشكيلها، وتصفيتها من مرتكزات القهر والاستلاب، ودكّ مواطن الصلابة التي يستوثق بها التقليد الاجتماعي، وتتحصّن بها معانيه المستقرّة.
إن في الجنون، الذي تمهر به الكتلة آخرها المقصى، مغامرة بالموجود، وتوثباً جانحاً نحو ضرب آخر، بعيد ومختلف، من العقلانية، يكشف عن بُعد اللا معقول في نظام العقل الاجتماعي اللغوي السائد، إنها عقلانية مستبعدة، تجنّ وتستر تحت الجنون الاجتماعي المنظم في صيغة العقل المعتقل. ومن هنا يتأتى الوجه الآخر للمفارقة المشار إليها في صدر الكلام، ذلك أن القاص يعيد، بعمله، توجيه العلاقة باللغة، أو لنقل إنه يوجهها ضد نفسها، لأنه ينتزعها من مكانها العام، ويملؤها بما لم يكن لها من اختياره وقَصْده ومعناه، فيواجه قوة اللغة المحافظة بقوة الإبداع النافية، ويقتحم المساحات الخفيّة المظلّلة، موقعاً الخلخلة والاضطراب في الجسم اللغوي. المؤسس، كاشفاً عن فجوات النظم المتصلّبة العاملة فيه، والمبنيّة، رمزياً، في أنساقه المعطاة. وتلك هي المناطق الصعبة التي واجهتها كتابة عبد الله عبد المبدعة، بعيداً عن الضجيج والشعارية.
 وفيق سليطين

المصدر: السفير

هوامش:
1 عبد الله عبد <السيران ولعبة أولاد يعقوب> مجموعة قصصية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق .1972
2 عبد الله عبد: <مات البنفسج> مجموعة قصصية، وزارة الثقافة، دمشق .

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...