«رحلات في حجرة النساخ» لبول أوستر

19-04-2007

«رحلات في حجرة النساخ» لبول أوستر

إذا كان ثمة كاتب إشكالي في الأدب الأميركي المعاصر، يتعاظم التباين في الرؤى النقدية حيال بعض أعماله إلى حدّ اعتبارها الأفضل من فئة والأسوأ من فئة أخرى، فهو بول اوستر. وإذا كان ثمة كاتب في أميركا اليوم يصلح لأن يكون منجزه الأدبي مختبراً لاستخلاص الفروق بين الذائقتين الأدبية الأوروبية والأميركية، فهو بول أوستر. وإذا كان ثمة كاتب أميركي معاصر يكتب الرواية الما بعد حداثية في المعنى الأفضل والأصدق لهذا التعبير المستهلك، فهو بول أوستر.
ليست روايات بول أوستر من النوع الأليف الذي يقوم على خلق واقع بديل مستوحى مثلاً من التاريخ أو مظاهر المجتمع العامة أو السيرة الذاتية، ويسمح لنا بدخول عالم الرواية والعيش فيه والتعاطف مع شخصياته من دون أي جهد يُذكر. إنها من النوع الذي لا يمنح أدمغتنا الفرصة كي ترتاح، ولا يسمح لنا للحظة بنسيان حقيقة أننا نقرأ، وأننا أمام شخصيات من كلمات، لا تستجدي تعاطفنا معها لأنها لا تدّعي مطلقاً أنها واقعية. المتعة التي يحصّلها القارىء، هي مشاركته الكاتب في الخلق، ومعاينة قدرته على العيش في السؤال والشكّ، وفي عالم مجرّد وخارج كل مكان وزمان محددين، وأيضاً قدرته على الإستمرار في مواكبة الكاتب في مسيرته العبثية أحياناً رغم معرفته المسبقة بخدعته له وباستحالة الوصول إلى شيء. قد تكون رواية أوستر الأخيرة، "رحلات في حجرة النسّاخ" 2007، الأكثر تمثيلاً لهذا النوع الذي كتبه متأثراً بأعمال أدباء مثل جيمس جويس وبورخيس وصموئيل بيكيت. العبث والسخرية والغرابة، مميزات تطالعنا منذ النظرة الأولى إلى غلاف هذه الرواية وعنوانها. فماذا يفعل حصان أبيض وحيد وسط حجرة صغيرة وخانقة؟! ولماذا يختار الكاتب لعنوانه كلمة غريبة حتى على قراء الإنكليزية، تعني حجرة النسّاخ في دير أو كنيسة؟! ثم كيف يمكن حجرة بهذا الحجم أن تتسع لكلمة "رحلات"؟!
بدايةً، علينا الإعتراف بأن ثمة رغبة قد لا تفارق القارىء في التخلي عن قراءة هذه الرواية، وبأن الإختلاف بين قارىء وآخر قد يكمن فقط في عدد المرات التي قد تجتاحه فيها هذه الرغبة، والمتوقفة على مدى استعداده لمصارعة عبثيتها، ومدى قدراته التخييلية وفانتازيته. لكن لا شكّ في أن حجم الرواية الصغير (145 صفحة) سيلعب دوراً في النهاية لحسم المسألة ربما لمصلحة المضي فيها، عطفاً على أسلوب أوستر السادي في إخضاع القارىء لممارسة فعل قد يضيق به عقله. التصميم إذاً هو الشرط الأساسي لمتابعة هذه الرواية، مع التنويه بأن ما يصعب متابعته ليس الشخصيات أو حبكة السرد، إنما مشاعر القارىء نفسه، لكونه إزاء رواية عبثية بامتياز.
يستهل أوستر روايته الثانية عشرة هذه بالكلام عن "رجل عجوز جالس على حافة سرير ضيّق، براحتين مفتوحتين على ركبتيه، ورأس خفيض، محدّقاً الى الأرض". ما نعرفه عن هذا البطل، الذي ليس عبثاً أن الكاتب منحه إسم السيد بلانك، وهذه تعني في الإنكليزية الفارغ والأجوف. أنه رجل فاقد الذاكرة وعليل، يستيقظ فجأة ليجد نفسه في حجرة صغيرة متواضعة الأثاث، نافذتها الوحيدة مغلقة بإحكام، وأشياؤها تحمل ملصقات كُتبت عليها أسماؤها. فعلى المكتب مثلاً، كلمة مكتب وعلى الجدار كلمة جدار. ومن غير المعروف ما إذا كانت هذه الحجرة في سجن أو مستشفى او معتقل، إضافة إلى أن البطل لا يستطيع تذكّر كم مضى عليه وهو موجود فيها، أو الظروف التي ساهمت في نقله إليها. الشيء الوحيد الذي يعيه، إحساسه الثقيل بالذنب والمصحوب في الوقت عينه بشعور غريب بأنه ضحية فعل جائر. يجهل السيد بلانك أنه تحت رقابة مشددة، وأن كاميرا في السقف وجهاز تنصت في الجدران يسجلان كل نأمة من أفعاله وأقواله. ثمة تلميح خلال السرد بأن الراوي هو الشخص الذي يتولى فعل المراقبة. أشخاص عديدون يزورونه في حجرته، كل منهم يساهم في إضاءة جزء من ماضيه: آنا، تتولى العناية بصحته وطعامه وحتى بتلبية رغباته الجنسية. صوفي، راعية أخرى له. إضافة إلى طبيب وشرطي سابق ومحامٍ. ما يبديه هؤلاء الأشخاص من مشاعر حنان أو سخط تجاه السيد بلانك، شبيه بتلك المشاعر التي قد تبديها شخصيات روائية تجاه الشخص الذي كتبها. ولا عجب إذا اكتشفنا أن زوار السيد بلانك هم فعلا شخصيات روائية تنتمي إلى أعمال أوستر السابقة! يشرع السيد بلانك في قراءة مخطوطة يجدها على المكتب (لا أحد يعرف من أين أتت) عن سجين سياسي - هو طيف السيد بلانك! - يدعى سيغموند غراف، يُتهم جوراً بالخيانة العظمى بعد عودته من مهمة خطرة في أراضٍ أجنبية محرّمة، ويُحكم عليه بالإعدام في موطنه الحديث النشأة، المسمّى "الإتحاد الكونفيديرالي" والشبيه إلى حد بعيد بأميركا القرن التاسع عشر. بين قصة السيد بلانك الذي يتبين لاحقاً أنه موقوف في انتظار حكم قضائي يعاقبه على جرائمه، وقصة سيغموند غراف، يضحي السرد ثنائياً جارياً على مستويين. صراع البطل مع المخطوطة يمتد إلى مجموعة من الصور الفوتوغرافية يجدها أيضاً على المكتب، إذ لا يستطيع معرفة أو تذكّر هويات أصحابها مع أن بعضها يبدو مألوفاً لديه وربما يعود إلى الأشخاص الذين يزورونه وهم في مرحلة شبابهم. رويداً رويداً ينتابه إحساس عميق بحقيقة أنه ربما كان مسؤولاً من نوع ما، قام سابقاً بإرسال أشخاص (من بينهم زائروه) للقيام بمهمات خطرة وقاتلة، وحين يغمض عينيه يستشعر حضور كل ضحايا هذه المهمات وهم ينادون بالثأر منه. طوال الرواية لا يني السيد بلانك يتوجس من أن يكون باب حجرته مقفلاً، غير أنه لا يجرؤ على التحقق من ذلك خشية أن تتأكد شكوكه! عدم قدرته على التواصل مع العالمين الخارجي والداخلي على السواء، تجعل فرصتنا في أخذ أي معلومة منه معدومة! هكذا تواصل الرواية مسيرتها، لتنتهي بحقيقة أن السيد بلانك سوف يظلّ ضائعاً على الدوام!
الأكيد أن رواية أوستر هذه لا تمنح نفسها بسهولة، فالأوهام فيها تتقاطع مع الأوهام، والهويات الذاتية تتداخل في بعضها، والماضي يتغلغل في الحاضر، وظلال الحقيقة تُلقي بظلال الخيال. وبسبب من هذا المزج، لا عجب في أن يعدّ اوستر سيد القصص البوليسية الميتافيزيقية. صحيح أن لا وجود لتحرٍّ في هذه الرواية، إلا أن طريقتها في التجلّي، إيحاءً تلو إيحاء، تجعل القارىء نفسه تحرياً، تقع عليه وحده مسؤولية جمع الأدلة وفكّ اللغز. ونتساءل: هل من الأفضل لفهم الرواية أن يكون واحدنا قرأ أعمال أوستر السابقة، وتحديداً تلك التي وردت أسماء أبطالها فيها؟ جوابنا: الأرجح لا. إذ لعل من المستحسن أن يكون القارىء هو أيضاً السيد بلانك (السيد أجوف أو فارغ!) وبذلك تتبين قدرة هذه الرواية على دفع القارىء إلى الأمام، ونقل عدواها إليه بحسب مقولة تولستوي الشهيرة. العدوى هنا هي العيش في المجهول، ومحاولة اكتشاف ليس فقط لغز البطل، بل لغز أوستر نفسه، وما يضمره من أفكار طي هذا العمل. ونتساءل: هل الدلالة الرمزية لهذه الرواية، قصور الإنسان عن المعرفة النهائية والمطلقة، أم أنها إشارة إلى قدر الكاتب المحكوم أبداً بأن يظلّ أسير أعماله وشخصياته؟ الغرفة المغلقة في نظر أوستر هي الرابط الميتافيزيقي بين الكاتب وشخصياته، التي منذ اللحظة التي يخلقها فيها لتخرج إلى العالم، تتجاوزه لتواصل حياتها حتى بعد مماته. لكن إذا كان هذا فعلاً ما يرمي أوستر إلى قوله، فليس فيه أي جديد، اللهم إلا في مسألة مزجه ببعض التيمات الأخرى الأثيرة لدى الكاتب والمتعلقة بالبحث عن الهوية وأهمية اللغة في المعرفة الذاتية والعلاقة بين الحقيقة والخيال.
ليس هذا هو السيناريو الوحيد المتواري خلف الرواية. معرفتنا اللاحقة بأن كاتب المخطوطة يحمل إسم جون تراز؛ الروائي في رواية أوستر السابقة "ليلة الوحي" 2003، وكلمة تراز في الإنكليزية تصحيف لكلمة أوستر، تفضي بنا إلى عدم تفادي التفكير باحتمال أن تكون هذه الرواية محاولة لتوظيف عمل آخر لأوستر غير مكتمل (المخطوطة المذكورة) في عمل جديد يعاني انسداداً في المخيلة! من ناحية ثانية، قد يبدو إقحام شخصيات مشهورة من روايات سابقة له، أشبه بعملية إغاثة يحتاج اليها مريض! بالطبع ليس في وسع القارىء الإدّعاء بمعرفة أفكار أوستر المضمرة، فهو في خضم مسيرة أسئلة مضنية للذهن مع استحالة إيجاد أجوبة نهائية لها وشافية. وعليه، وكنوع من مسؤولية الكاتب الأخلاقية تجاه قرائه، يكون على أوستر مكافأة القارىء، كي يحميه من الخيبة، ربما بالمجالات المتعلقة بفنية العمل، ومدى ما يمنحه أسلوب السرد فيه من متعة للقارىء وقدرة على توريطه من خلال خلق نوع من اللذة المازوشية لديه تدفعه إلى المتابعة. ويبقى السؤال: إلى أي مدى أفلح أوستر في فعل ذلك؟ تقنياً، نلاحظ ان السرد يجري بسلاسة، ربما لأن هذه الرواية ضنينة بالمعلومات ولا تعتمد الوصف بل الإيجاز، وتالياً فإن قليلاً من النعوت يسدّ مجرى العصب الأساسي فيها. أيضاً نلاحظ أن ثمة ما يجمع بينها وروايته السالفة الذكر "ليلة الوحي"، لكون الأخيرة أيضاً تعتمد تقنية الرواية داخل الرواية، مع الإشارة إلى أن هذا التكرار لا يقلل من أهمية العمل وجدّته لأن لأوستر طريقة فذّة في إعادة إنعاش أساليبه وهواجسه الروائية. من ناحية أخرى، وعلى رغم صغر حجم هذه الرواية، يبدو السرد فيها بطيئاً، وأحياناً كثيرة، محايداً وإخبارياً، ويفتقر إلى الأجواء المحمومة والمشحونة بالجرعة الكافية من الدراما والقدرة على وصف حالات الكلوستروفوبيا التي تلازم عادةً سجناء من نوع السيد بلانك أو سيغموند غراف. وبمعاينة بعض الآراء النقدية، نجد أن النقاد منقسمون على غرار القراء، بعضهم شديدو الإهتمام والبعض الآخر غير مبالين إطلاقاً، فمنهم من اعتبر هذه الرواية غير مكتملة ومخيبة، مشككاً في أن تكون قدرة أوستر على الخلق قد نضبت، ومؤكداً أن أعماله ليست على السوية ذاتها، ومنهم من اعتبرها من الغنى والعمق ما يصعب معهما حصرها في مغزى واحد، ملمحاً إلى احتمال أن تكون أفضل أعمال أوستر على الإطلاق! لكن على رغم هذا التباين الحادّ في الآراء، الجميع متفق على أن أوستر ليس كاتباً لكل قارىء، وأن له جمهوره الخاص الذي يجد متعة بالغة في عبثيته الوجودية، وإصراره على تدمير التقنيات السائدة المتعلقة بالتشويق والتأريخ، وحتى في البنيان الروائي بأسره.
أوستر الذي كان احتفى بعيد ميلاده الستين مع بداية هذه السنة، كان احتفى أيضاً بافتتاح العرض الأول للفيلم السينمائي الثاني الذي تولى إخراجه، "الحياة الداخلية لمارتين فروست"، والمقتبس من جزء من روايته "كتاب الأوهام". فيلمه الأول كان "لولو على الجسر" 1998، وهو ثالث الأفلام التي كتب سيناريواتها. نال أوستر جوائز عدة، آخرها جائزة أمير استورياس للآداب الأسبانية عام 2006. والملاحظ أنه برغم الإهتمام النقدي الذي أحرزه في أميركا، إلا أن شهرته فيها لم تتجاوز شهرته في أوروبا واليابان. تأثره بكتّاب مثل بيكيت وكافكا وسيلان وبورخيس ودون ديليلو وكوزينسكي، أكسبه شبه متابعة عالمية لكل ما يكتبه.
يؤكد أوستر في أحد حواراته أنه برغم تصنيفه كاتباً تجريبياً، فإن نظرته إلى الطريقة التي يجب أن يتمّ فيها السرد جدّ تقليدية، موضحاً أنه حين يكتب تكون القصة أولاً في رأسه، وتالياً يكون عليه التضحية بكل شيء من أجلها؛ تلك الفقرات الجذابة وتلك التفاصيل المثيرة للفضول، وما يُسمّى الكتابة الجميلة، يجب التفريط به ما لم يكن متلائماً بصدق مع ما يريد قوله أساساً. من الجلي أن "رحلات في حجرة النسّاخ" كُتبت فعلاً بهذا الأسلوب المشدود والموزون والصارم، وهي بهذا تكتسب أهمية خاصة (مثبتة أنها وإن لم تكن الأفضل بين أعمال أوستر، فهي مؤكداً ليست الأسوأ) لكونها تعكس قدرة أوستر على خلق التوازن بين أعلى مستويات العبث في الرواية الما بعد حداثية وأساليب السرد التقليدية. رواية تستحق القراءة إذاً، لكن لا تنسوا: التصميم!

أمال نوار

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...