الاجتهاد الفرعي والاجتهاد النوعي

08-09-2007

الاجتهاد الفرعي والاجتهاد النوعي

الاجتهاد في أصول الفقه هو بذل الوسع في طلب العلم بأحكام الشريعة (راجع الغزالي مثلاً). ويمكن تقسيمه الى قسمين كبيرين. الأول هو الاجتهاد النصي وهو يدور على كيفية استثمار الأحكام مع الألفاظ. وقد بدل علماء أصول الفقه في القديم جهداً كبيراً للبحث في قضايا النص من دلالة وإشارة واقتضاء وعموم وخصوص وإطلاق وتقييد وأمر ونهي وغير ذلك. والثاني هو الاجتهاد القياسي، فالأكثرية رأت أن النصوص لا تفي بالحاجة واستثمار الأحكام الجديدة لا يكون إلا بالقياس. وقام علماء أصول الفقه هنا أيضاً بجهد مهم لتعيين أشكال القياس وفرعوا هذه الأشكال الى أن أصبحت مبحثاً طويلاً ومعقداً كما نرى مثلاً لدى الآمدي (ت 631 هـ) في «الإحكام في أصول الأحكام» أو ابن الحاجب (ت 646 هـ) في «منتهى الأصول والأمل في علمي الأصول والجدل». وقد تميّز الشاطبي (ت 790 هـ) في كتاب «الموافقات في أصول الشريعة» برؤية متكاملة حول القياسات لا تقوم على قياس الفرع على الفرع وإنما استخراج الفروع من الاصول والقواعد العامة. وفقهاء الحنفية كانوا قد استفتحوا طريقة مشابهة تقوم على وضع قواعد تشريعية كبرى، أما الشاطبي فقد طوّر فكرة ترجع بأصولها الى الغزالي (ت 505 هـ) ومحصلها وضع مقاصد شرعية كبرى تبنى عليها الفروع. وطريقة الحنفية هي الأقرب الى التشريعات الرومانية والحديثة.

وإذا تأملنا مباحث القياس في كتب أصول الفقه وجدناها تتعلق بقضايا ثلاث مختلفة. الأولى قضية حمل دلالة اللفظ العام على الحالات الجزئية. فإذا قلنا مثلاً «كل مسكر حرام» فإننا حكمنا بتحريم كل أنواع المسكرات التي كانت معروفة في الجزيرة العربية وكل المسكرات التي ظهرت وتظهر على مرّ العصور. ويعتبر ابن حزم الظاهري أن هذه الحالة ليست قياساً لأن المنع كامن في العبارة ذاتها «كل مسكر حرام» وما يدعوه فقهاء المذاهب قياساً ليس إلا حمل اللفظ على مجموع الدلالات الممكنة. وهذا الرأي فيه كثير من الوجاهة. الثانية قضية حمل حال فرعية على حال فرعية أخرى لقوّة الاشتراك بينهما. مثال ذلك القياس المنسوب الى علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) عندما سئل عن حدّ السكر، فقال: «من شرب الخمر سكر ومن سكر هذى ومن هذى افترى، فحدّه حدّ القاذف». وهذا الشكل من القياس مرفوض لدى الظاهرية ورأيهم لا يخلو من وجاهة لأن المشترك بين حالتين ليس مطرداً ثابتاً فلا يمكن أن نجزم مثلاً أن كل من شرب قذف والمطابقة التامة بين حالتين أمر استثنائي. الثالثة تطبيق أصل أو قاعدة أو حكم كلّي على حال فرعية، وهذا النوع من القياس معروف في التشريعات القديمة والحديثة، وقد رفضه الظاهرية وأجابهم المدافعون عن القياس بأن استخراج الأحكام يتعذّر من دون ذلك وهذا جواب منطقي في حدود المنظومة الفقهية القديمة. ولم تبلغ عناية علماء أصول الفقه بتدقيق الأصول والقواعد عنايتهم في أشكال القياس فمباحث الشكل هي التي استهوتهم أكثر.

إذا تأملنا هذه اللوحة المختزلة لمناهج التفكير التشريعي رأينا أن علماء أصول الفقه قديماً كانوا مدركين ان استنباط الأحكام ليست قضية هيّنة ولا يكفي أن نسرد نصاً ليتضح منه الحكم ولعلنا لا نجازف إذا قلنا إن فكرة «لا اجتهاد مع النص» ليست من بنات أفكارهم بمعنى أنها لم تكن تعني عندهم ما تعنيه اليوم لدى البعض من المعاصرين. فهم أدركوا أن النص ليس ناطقاً بذاته وأن الذي يتقدم لتفسيره لا بد من أن يكون قادراً على التمييز بين العام والخاص والمطلق والمقيّد والدلالة والاقتضاء وغير ذلك. وهذه المباحث غير مختصة بأصول الفقه، فهي أيضاً مباحث علوم اللغة والبلاغة والنقد الأدبي وبعضها يرتبط بالمنطق. فإذا كان النص مصدراً دينياً فإن طرق الاستنباط اللغوي هي طرق بشرية مستعملة في النص الديني والنص الأدبي بل في كل أنواع النصوص. والإنسان يستعمل العمليات الذهنية نفسها أمام كل قول لغوي كيفما كان نوعه. والتصنيفات التي وضعها علماء أصول الفقه ليست تصنيفات دينية وإن طبقت على نصوص دينية. فالعام والخاص والمطلق والمقيد والدلالة والاقتضاء تشمل كل نص. وذلك مثل قولنا إن الجملة تتكوّن من مسند ومسند إليه فهذه قاعدة تصح على كل جملة سواء أوردت في سورة من القرآن الكريم أو قصيدة مجون لأبي نواس أو نص معرّب لكارل ماركس. وما لا يراه المعاصرون من أصحاب مقولة «لا اجتهاد مع النص» هو أن القدامى قد صاغوا آليات ونظريات حول النص كانت مستندة لمعارف عصرهم وقد قامت في العصر الحديث العلوم اللسانية والدلالية بإعادة التفكير في الكثير من هذه القضايا. وكما اشترط القدامى في من يتصدى للنص بالتفسير أو الفتوى أو الاجتهاد أن يكون عالماً باللغة، واللغة تعني التفكير اللغوي وليس قواعد النحو والصرف، فيكون منطقياً أن يشترط في المعاصرين العلم بقضايا اللسانية والدلالية الحديثة وبما يسمى بعلم التأويل الحديث وفلسفاته المختلفة. ولا يقال إن هذه العلوم غير إسلامية لأن آليات التأويل هي آليات بشرية ليست مرتبطة بدين أو مذهب أو عرق وسنرى أن مباحث القياس كانت تقتبس من شروح المنطق الأرسطي. وعندما انحطّت العلوم اللغوية فأصبحت مجرد قواعد جافة في النحو والصرف تحفظ عن ظهر قلب انحطت معها مبادرات الاجتهاد وأصبح الفقه أيضاً قواعد جافة للحفظ والعرض.

فإذا انتقلنا الى القسم الثاني المتعلق بالقياس وقضاياه الثلاث التي عرضنا فإننا نجد القدامى قد اقتبسوا من المنطق ليكون لهم عوناً على تحديد أشكال القياس، وقد رأى المسلمون المنطق علماً مشتركاً بين الأمم وعمل أصوليون كبار مثل الغزالي وابن حزم على إثبات أن قواعد المنطق الأرسطي موجودة في كلام العرب، ما يعني أن المنطق آليات ذهنية عامة لدى البشر. وعندما نقرأ المباحث القياسية المعقدة كما ترد لدى ابن الحاجب مثلاً لا نشك في كونها متأثرة بالشروح الإسلامية على المنطق الإغريقي وبمصادر غير إسلامية كانت تدرّس في المؤسسات التعليمية الإسلامية الى عهد قريب مثل «إيساغوجي» الذي يرجع الى منطقي إغريقي اسمه بورفيريوس وصاغه في اللغة العربية أثير الدين الأبهري. لكن علماء أصول الفقه قديماً وأرسطو قبلهم لم ينتبهوا الى شيء مهم وهو التاريخية. القياس يستدعي التجريد، فقياس الحال الطارئة على الحال القديمة يقتضي أن تنتزع الأولى من سياقها التاريخي، وهذا الانتزاع قد يكون مبرراً إذا حصل بعد تبين السياق أما من دون ذلك فتحصل مزالق شتى. ولئن ابتدع المفسرون مباحث «أسباب النزول» لتبيّن السياقات فإن علماء أصول الفقه لم يفكروا في شيء شبيه بذلك في ما يتصل بالفروع التي يقيسون عليها وتوجد في كتب أصول الفقه مباحث في الألفاظ والقياسات ولا توجد مباحث في التاريخية ولا في ما دعته البلاغة القديمة بالمقام. وتاريخية الأفكار والأحكام هي فكرة لم تتطور إلا في العصر الحديث وما زالت العلوم الإسلامية القديمة، ومنها الفقه وأصول الفقه، في حاجة الى تبين تاريخيتها فضلاً عن تبيّن تاريخية كل ما احتوته من آراء وأحكام.

لعلنا ندرك من خلال هذا العرض أن العلماء المسلمين القدامى كانوا منفتحين على المعرفة الكونية المتاحة في عصرهم بكل ما تحويه من ثراء ومن نقائص. والمهم هو هذه الروح العامة التي أدركت أن مباحث الألفاظ ومباحث القياسات هي مباحث بشرية مشتركة بين كل الناس وأن الاختلاف والخصوصية يتعلقان بالنص موضوع التأويل وليس بآليات التأويل ذاته. وهذا الموقف المنفتح قد ضاع في عصور الانحطاط وتبدد في العصر الحديث. وقد لخص دكتور رضوان السيد الوضع الحديث بقوله: «لقد تحطمت المذاهب الفقهية في القرن العشرين تحت وطأة أصوليتين: الأصولية الحداثية والأصولية الإحيائية (السلفية والثورية). لكن ذلك لا ينبغي أن ينسينا واقعاً تاريخياً واجتماعياً وثقافياً استمر لما يقارب العشرة قرون وخلّف أدبيات هائلة تتجاوز المليون عدّاً في شتى فنون الكتابة الفقهية» («الحياة» - ملحق «تراث» – 25/8/2007). وأضيف على هذا القول الصائب أن الحداثة قد راجعت ما كانت عليه من أصولية ومغالاة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وظهرت بعد الحربين العالميتين حداثة اكثر تواضعاً أعادت الاعتبار للتراث الإنساني في العصرين القديم والوسيط. أما الأصولية الإحيائية فسارت بالاتجاه المعاكس وما فتئت تضخم من ادعاءاتها وتشددها حتى أنك ترى وتسمع أشخاصاً لا يميزون بين المرفوع والمنصوب ولا علم لهم بالمطلق والمقيد والدلالة والاقتضاء يدّعون مع ذلك استخراج الدلالات من النصوص ويغلقون كل نقاش بعبارة «لا اجتهاد مع النص» لأنهم غير واعين بالمباحث الخصبة التي احتواها التراث حول قضايا التعامل مع النصوص، فهم خوارج العصر الحديث يستسهلون التأويل والتكفير والعنف بسبب قلة العلم والإدراك.

إننا لم نتعرض الى حد الآن إلا للاجتهاد الفرعي الذي يتمثل في طلب العلم بأحكام فروع من النوع نفسه فهي إما أن تكون مشمولة بالدلالة العامة للفظ أو تأتي نتيجة قياس أو نتيجة تطبيق الكلي في الجزئي. دعنا الآن نطرح سؤالاً آخر: هل يمكن أن تعامل كل الحالات المستحدثة باستثمار الأحكام من الألفاظ والقياسات؟

سنحاول الجواب عن هذا السؤال من خلال حادثة ذات قيمة مرجعية نستعرضها أولاً كما وردت لدى الإخباريين القدامى ثم نتناولها بالتفكير والتحليل. ففي سنة 17 هـ / 638 م أتمّ المسلمون سيطرتهم على العراق وانتزعوه من أيدي الفرس وطرح عليه آنذاك مشكل مهم هو مصير الأراضي الضخمة التي استولوا على معظمها بالقتال، فهي تعدّ من باب الغنيمة وليس من الفيء، وحكم الغنيمة أن يقسّم أربعة أخماسها بين المقاتلين ويسلّم الخمس الباقي الى الخليفة. حصل نقاش بين كبار الصحابة حول الموضوع فطالب البعض بإجراء القسمة على هذا الشكل ورأى آخرون أن هذا الحل غير ممكن. ومن حسن الحظ أن تغلّب الرأي الثاني إذ ندرك حجم الكارثة التي كانت ستحصل لو قسّمت أراض زراعية ضخمة بين مقاتلين لا يحسن معظمهم فن الزراعة. إذاً لحدث مجاعات مروّعة بين سكان العراق وبين المقاتلين أنفسهم ولاعتبر الفتح الإسلامي جناية على الجميع. ثم إن مساحة العراق الشاسعة لا تقارن بمساحة أرض من الأراضي التي دار حولها النزاع في العهد النبوي كي يصلح أن تقاس عليها. هذه قضية لم تحل بدلالات الألفاظ ولا بأشكال القياسات. الحل الذي ارتضاه المسلمون آنذاك هو وقف ريع الأرض على بيت مال المسلمين. هذا اجتهاد جديد وغير مسبوق اقتضته المصلحة العليا للمجموعة والتصرف السليم في الممتلكات. لم يطبق المسلمون في هذه الحال مبدأ «لا اجتهاد مع النص» ولا شكلاً من أشكال القياس التي تضمنتها لاحقاً كتب أصول الفقه، فهذا الاجتهاد يمكن أن نطلق عليه «الاجتهاد النوعي» وأغفلت المراجع القديمة تمييزه عن أبواب الاجتهاد الفرعي. وإذا كانت المسافة الزمنية من العهد النبوي الى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أحدثت تغيرات نوعية اقتضت اجتهادات نوعية فما الحال بأربعة عشر قرناً من تاريخ المسلمين؟

لا نحتاج كبير تفكير لنستنتج إننا إذا أخذنا فترة مرجعية (أ) ثم تجاوزناها بمسافة تاريخية (ب) فإن التناسب بين الاجتهاد الفرعي والاجتهاد النوعي هو تناسب عكسي، بمعنى أن الأول يتقلص والثاني يتضخم بمقدار ارتفاع المسافة التاريخية (ب). فإذا راجعنا كتب الفقه على مر العصور وجدنا الأمر على خلاف هذا التوقع المنطقي. وتفسير الأمر في رأيي ليس أن المجتمعات الإسلامية تجمدت وإنما كتب الفقه وأصوله هي التي توقفت منذ القرن الرابع الهجري على أن تعكس تعقيدات هذه المجتمعات وتطوراتها.

لنتأمل بعداً آخر في المثال المرجعي المتصل بتوزيع أراضي العراق من خلال التساؤل الآتي: هل اتخذ الخليفة وقادة الجيش ومجموعة الشورى القرار بصفتهم مجموعة من الفقهاء أم اتخذوه بصفتهم الهيئة المستأمنة على المصلحة العليا للمجتمع؟ وإذا تصورنا المشهد ذاته يتكرر في العصر الحديث فهل كان سيدور في مجمع فقهي أم في البرلمان؟ وهل سيكون المرجع في القضية ما قال زيد وعمرو من القدامى أم ما تحدده الهيئة المستأمنة على المصلحة العليا للمجموعة في السياق الخاص الذي تتنزّل فيه الواقعة؟

إذا سلّمنا بمنطق التحليل الوارد في هذا المقال وصلنا بالضرورة الى النتيجة الآتية: إن الجزء الأكبر من الاجتهاد الذي نحتاج في العصر الحديث ليس من الاجتهاد الفرعي الذي يدور على دلالات الألفاظ وأشكال القياس لكنه من الاجتهاد النوعي الذي مداره المصلحة وموقع النقاش فيه البرلمان والمتأهلون للخوض فيه هم المستأمنون لتمثيل المجتمع ومصالحه العليا. والمشكلة الكبرى هي غياب التمييز بين نوعي الاجتهاد ومعاملة كل الحالات من الزاوية نفسها، فهذا ما يمنع قيام اجتهاد جديد، ولا تكفي الدعوة الى فتح باب الاجتهاد ما لم تتوافر الأرضية المناسبة لقيامه. والمقترح الحقيقي الذي قدّم في هذا الاتجاه، وقد بقي يتيماً هامشياً بين الكتّاب المسلمين، هو ما كان كتبه محمد إقبال منذ سبعين سنة: «إن انتقال حق الاجتهاد من أفراد يمثلون المذاهب الى هيئة تشريعية إسلامية هو الشكل الوحيد الذي يمكن أن يتخذه الإجماع في الأزمنة الحديثة فإن هذا الانتقال يكفل للمناقشات التشريعية الإفادة من آراء قوم من غير رجال الدين ممن يكون لهم بصر نافذ في شؤون الحياة وبهذه الطريقة وحدها يتسنى لنا أن نبعث القوة والنشاط في ما خيّم على نظمنا التشريعية من سبات ونسير بها في طريق التطور» (راجع: «تجديد الفكر الديني في الإسلام»).

محمد الحداد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...