الحلم حين يصبح مكلفاً

20-01-2011

الحلم حين يصبح مكلفاً

بخطوات مثقلة تترجل ليلى من التاكسي الأصفر أمام مطار دمشق الدولي. تنظر بترقب إلى بوابة المغادرين، وتلج إلى الداخل. تجر خلفها حقائب بمساعدة أحد موظفي خدمة المطار. تتجه نحو لوحة مواعيد رحلات اليوم، تتأكد من أن طائرتها لا تزال على الموعد وتتخذ لها زاوية هادئة في الانتظار.

صور اللقاء والوداع التي تجتاح المطار تُشعل حنينها. يسرق نظرها مشهد شابة مسافرة للدراسة في الخارج وهي تودع أهلها وتتلقى النصائح المنهمرة من أمها وأبيها بصبر لطيف. تعود صور الماضي إلى ذاكرة ليلى المشوشة، وتستحضر وجه أمها بلومٍ وعتب.

كانت لا تزال في أوائل العشرينات عندما تخرجت من الجامعة، وبدأت تسير نحو تحقيق حلمها بمتابعة دراستها في إحدى الدول الأوروبية، غير مكترثة إلا بتحسين مؤهلاتها العلمية وبذل كل الجهود الممكنة لصنع طموحها، لكنها سرعان ما اصطدمت بواقع مختلف واضطرت إلى خوض معركة حقيقية مع أهلها ووسطها الاجتماعي. بدأت ردود الفعل بـ: «كيف تسافرين وحدك؟»، ولم تنته بأقل من «كلام الناس سيلوث سمعتنا، ثم من سيرضى بأن يتزوجك عندما تعودين، هل تريدين أن تتحولي إلى عانس؟».

بين طموحها الصادق والتقاليد التي تكبلها، اضطرت ليلى إلى إعادة ترتيب أولوياتها على مقاس رغبة عائلتها، وقيود مجتمع «لا يرحم»، تخلت بأسى عن حلمها بنيل درجة الدكتوراه، لكنها كسبت رضا والديها بأن تزوجت من أول عريس «لقطة» تقدم لخطبتها، لبست الفستان الأبيض ودخلت عش الزوجية وما هي إلا سنة حتى أنجبت ابنها الأول، ثم سنة أخرى وأصبحت ليلى أمّاً لطفلين، شغلتها عذوبة الأمومة لكنها لم تلهها عن حلم الأمس ولا عن رغبتها في تحقيق ذاتها، فما أن كبر ولداها بعض الشيء والتحقا بالمدرسة حتى بدأت البحث عن عمل باختصاصها الجامعي لتعيش رحلة مختلفة.

فسحة العمل كانت بالنسبة إليها تحدياً مصيرياً، فاجتهدت وأبدعت وحققت مكاناً مهنياً مهماً. دغدغ ذلك التميز طموحها القديم، فثابرت أكثر وأكثر، وطبعاً كانت مهمتها مضاعَفة ومهماتها كبيرة بين حقلها المهني وبيتها وأسرتها وواجباتها الزوجية المختلفة، خصوصا أن زوجها لم يكن داعماً، إذ إنه لم يجد داعياً لعذابها، فالوضع أكثر من مستور ولا حاجة لدخل إضافي.

ومرت سنوات أخرى وهي منشغلة ومنشغلة، كبر طفلاها الصغيران ووصلا إلى بر الأمان، الأول مهندس ناجح في شركة كبيرة والثاني يتابع دراسة الطب في أمريكا، لن تخاف عليهما بعد اليوم، ابتسمت ابتسامة راضية ولكنها سرعان ما اختفت عندما تذكرت زوجها مجدداً، تذكرت ما دار بينهما منذ أقل من أسبوع عندما عادت من عملها والكون كله يكاد لا يتسع فرحتها العارمة. ركضت نحوه عانقته وسرت له بالخبر المفاجأة: «حصلت على ترقية كبيرة. قرر المدير العام للشركة أن يقابل عملي الجَهود المخلص بأن يسلمني إدارة مكتب الشركة في إحدى أكبر العواصم في أوروبا، أنا فعلاً غير مصدقة وكأنني في حلم».

انتظرت ليلى نظرة فخر أو ضمة حنان ولكن المفاجأة على ما يبدو لم تكن سارة للزوج الذي استهجن بغضب. حاولت ليلى أن تمتص الصدمة وتحاور الرجل الغاضب، لكن هدوءها لم يلق أي صدى لدى الزوج المستاء والذي أصرّ على موقفه. بدا الحوار مغلقاً حينها، فحاولت ليلى مرات كثيرة ولكن دون فائدة... حتى ابنها الأصغر وقف ضدها.

وقفت أمام زمان يعيد نفسه، القيود ذاتها تسعى إلى تكبيلها من جديد بعد ثلاثين عاماً، وها هي اليوم أيضاً مضطرة لإعادة ترتيب أولوياتها، لكنها هذه المرة لن تسمح بأي سرقة لمستقبل قريب وغال، لم تشـــعر قط بسعادة مثل تلك التي غمرتها عندما كسبت احترام الجميع في مجال عملها وأثبتت جدارة محترفة، لن تستسلم مجدداً لألم قَهَرَها طويلاً، ولن تندم وتتحول إلى ربة منزل تتحسر كلما نظرت إلى شابات سوريات يتميزن في أكبر جامعات العالم، لقد تخلت عن الكثير في الماضي لإرضاء أهلها وخــدمة زوجها وأولادها، لكن أياً منهم لم يفكر بسعادتها.

تحينت ليلى فرصة مناسبة لتتحاور مع زوجها وللمرة الأخيرة، حاولت أن تشعره بأنها معه وله، وبأن طموحها يكمِّله، ولكن النقاش احتدم من جديد وحلف بيمين الطلاق عليها إذا ما غادرت البيت!

«على جميع الركاب المسافرين على متن الرحلة رقم 1603 المتجهة إلى... التوجه إلى باب الطائرة»، يوقظ صوت النداء السيدة الخمسينية المطلَّقة من هواجسها، تستجمع قواها من ماضٍ متعب. شعورها بالحرية منحها قوة خفيّة، تشعر بأنها أقوى، تلملم شجاعتها وحقائبها وتغادر.

بيسان البني

المصدر: الحياة

التعليقات

في الدول اللي تنتمي للحضارة الغربية يظل موضوع تخلي المراة عن اسرتها من اجل الطموح الشخصي عملا مستهجنا وحتى الرجل في مجتمعنا او اي مجتمع اذا تخلى عن اسرته من اجل طموح شخصي فهو فعل اناني المجتمعات تنهض وتقوى بالحفاظ وتمكين الاسرة وليس العكس طبعا في الاحتفاظ بحق الجميع نساءا ورجالا بالتعليم وتحقيق الذات في العمل ولكن ليس تضادا لمسار الاسرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...