الكتاب المقدس والاستعمار

08-02-2007

الكتاب المقدس والاستعمار

صدر هذا الكتاب باللغة الإنجليزية للمرة الأولى عام 1997م، ثم أعيدت طباعته بنفس اللغة عام 1999م، ثم صدر باللغة الفرنسية عقب أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001م.
وفي المقدمة التي خص بها مؤلف الكتاب القس "مايكل بريور" الطبعة الفرنسية يذكر كيف أن وعيه بقضية العلاقة بين النشاط الاستعماري ونصوص الكتاب المقدس كان غائبا لكنه اكتشفه في القدس عندما عايش السكان والشعوب في هذه المنطقة، واكتشف ما أطلق عليه "اللاهوت الأخلاقي".

ويذكر المؤلف أنه بدأ يكتشف البعد الديني للصراع العربي– الإسرائيلي الذي توظف فيه إسرائيل نصوص الكتاب المقدس من أجل طرد وإبادة السكان الأصليين العرب عام 1983-1984م، وهنا الكتاب الذي نقدمه هو تعبير عن موقف كفاحي وأخلاقي للمؤلف جعله يعيد قراءة نصوص الكتاب المقدس من وجهة نظر الضحايا.

هذا هو الجزء الأول من الكتاب، ويمكن أن نصفه بأنه "الإطار النظري أو المرجعي" للمؤلف، ويتناول فيه نصوص "سفر التكوين" التي تدعم الإيمان بالوعد الذي أعطاه الرب لإبراهيم وذريته لتملك أرض كنعان والاعتقاد التام بأن استعمار هذه الأرض ما هو إلا تطبيق لإرادته، "وظهر الرب لأبرام وقال له سأعطي هذه الأرض لذريتك" التكوين 12:6-7.

ثم يعرض لسفر الخروج الذي يتحدث بشكل رئيس عن خروج اليهود من مصر ولكنه يشير إلي الوعد الإلهي وفكرة الشعب المختار "ها أنا أطرد الأمم من أمامكم وأوسع حدودكم ولن يطمع أحد في أرضكم حين تصعدون للمثول أمام الرب إلهكم ثلاث مرات في السنة" (الخروج 34: 24). 

ويعرج على سفر "اللاويين" الذي يتحدث عن الشعائر والشرائع الدينية لليهود ويتكرر فيه الوعد الإلهي بشأن هبة أرض كنعان للاويين (اللاويين 14:34), ويمضي إلى سفر العدد الذي يتحدث عن متاهة بني إسرائيل في الصحراء من سيناء والاستعدادات لدخول أرض الوعد من سهول موآب، ثم سفر التثنية الذي يؤكد بشكل واضح علاقة الأرض بالشعب.

وفي سفر يشوع الذي يتحدث عن البطل الذي خلف موسى واختير من الله (يهوه) وتأكد له الوعد بشأن هبة الأرض التي وعدها موسى: الأرض من البرية إلى لبنان ومن البحر "المتوسط " في الغرب إلى نهر الفرات في الشرق (يشوع 1:1-4)، ويصف هذا السفر بأسلوب ملحمي الاستيلاء على الأرض واستعمار الشعوب وقتلهم بمباركة الرب.

ويشير المؤلف إلى أن تراث الكتاب المقدس كواجب ديني له سلطة فريدة على معابد اليهود وكنائس المسيحيين تم توظيفه أداة للقمع وتبرير الاستعمار في مناطق مختلفة وعصور متعددة حيث اعتبر السكان الأصليون كالشعوب التي استحقت القمع والطرد والإبادة من الشعب المختار في الأسفار التي وردت في التوراة، وهنا التساؤل هل تعطي التوراة شرعية إلهية لاحتلال أراضي الغير وتسمح بإبادة الشعوب الأصلية التي تقطنها؟

تقدم الحروب الصليبية مثالا صارخا عن العلاقة بين الدين والسلطة السياسية وتوضح بشكل جلي كيف استخدم الكتاب المقدس في قمع الشعوب، ويرجع التفسير البابوي لهذا العنف إلى القديس "أوغسطين" الذي يعتمد على العهد القديم ليثبت أن الله يمكن أن يأمر بذلك.

فالحرب التي تقوم باسم الله هي المثل الأفضل عن حرب عادلة، وأعلن البابا "أوربان الثاني" الحرب الصليبية الأولى في كنيسة "كليرمون" يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1095م باسم المسيح وضمن للجنود المغفرة لجميع خطاياهم، فقد كانوا يفعلون ذلك وفقا للرغبة الإلهية "من لا يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحقني".

وفي الجزء الثاني من الكتاب يركز المؤلف على حالات ثلاث، هي غزو أميركا اللاتينية من قبل الأسبان والبرتغاليين، وغزو الهولنديين (البوير) ثم البريطانيين لجنوب أفريقيا، ثم استيطان الصهاينة لفلسطين في القرنين التاسع عشر والعشرين.

الكتاب المقدس واستعمار أميركا اللاتينية
مثل غزو أميركا اللاتينية من جانب البرتغال والأسبان تعبيرا عن المسيحية الغربية المنتشية بهزيمة المسلمين في إسبانيا، وبعد اكتشاف كولمبوس لأميركا في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 1492 تم القضاء علي حضارات الشعوب التي كانت تسكن المنطقة وبلغ عددها 35-40 مليون نسمة.

وحين أنهكت الأيدي العاملة للهنود تم استرقاق الأفارقة لاستكمال النقص في الأيدي العاملة (11 مليون أفريقي) واستمر الاستعمار الإسباني لهذه البلاد 300 سنة كاملة.

وكانت الكنيسة الكاثوليكية هي الشريك الحقيقي للمشروع الاستعماري، وتم الاعتماد على حجج لاهوتية وكتابية لوضع أسس الاستعمار، وتبنى علماء اللاهوت المسيحيين رأي رجال الدين الإسرائيليين بشأن الطابع المقدس للدولة ومؤسساتها بما في ذلك الأرض وكانوا جميعا يؤكدون أن الأرض هي هبة الله للإسرائيليين في عصرهم وبالنسبة للأسبان والبرتغاليين في العالم الجديد.

فالاستعمار كان حربا مقدسة لغرس الإيمان في أرض الكفار البرابرة (الحيوانات والفضلات) لإدخالهم في المسيحية.

وكتعبير عن رؤية لاهوتية معاصرة تنبذ الإثم عن كاهل المسيحية تجاه الشعوب الأصلية في أميركا اللاتينية ظهر "لاهوت التحرير" الذي قرأ الكتاب المقدس من منظور المظلومين، ويشكل يوم 12 أكتوبر/ تشرين الأول 1492م لهذا الفكر بداية يوم جمعة مقدس طويل ودموي في تاريخ أميركا اللاتينية، فالموت احتل هذه القارة منذ ذلك التاريخ موت البشر والبيئة والروح ودين الهنود الحمر.

بدأ استعمار جنوب أفريقيا عام 1652م حيث أقيمت مستعمرة في رأس الرجاء الصالح لتقديم الخدمات لشركة الهند الشرقية الهولندية، ومع مجيء الإنجليز إلى منطقة "الكاب" واحتلالها نشأ صراع بين "البوير" الهولنديين والإنجليز وكلاهما مسيحي وأبيض، حيث استعان "البوير" بالكتاب المقدس لتأسيس قومية مسيحية لهم في مواجهة ما اعتبروه علمانية بريطانية رغم أنهما معا استندا إلى اللاهوت لتبرير استعمارهما للبلاد وتأسيس نظام "الأبارتيد" الفصل العنصري استنادا إلى رؤية داروينية تعتبر أن الجنس الأبيض متفوق على الأسود.

وأسس "الأفريقان" الهولنديون أحزابا ذات طابع ديني وعنصري لجعل جنوب أفريقيا أفريقانية خالصة في مواجهة السود (بتطبيق الأبارتيد "وفي مواجهة الإنجليز" بالدعوة إلى الجمهورية)، وكانت الكنيسة تدعم الاتجاهات العنصرية لأحزاب الأفريقان –البوير الهولنديين– وأقرت في مؤتمراتها السنوية سياسة فصل تام بين السود والبيض.

ولكن هذا النظام تعرض لأزمة بسبب إعادة تأويل الكتاب المقدس من وجهة نظر الضحايا –ووقع أكثر من 50 عالما لاهوتيا وثيقة "كايروس" التي أدانت نظام الفصل العنصري، وهو ما سمح بعودة "المؤتمر الوطني الأفريقي" بعد تسلم "دي كليرك" الحكم عام 1989م ووضعت نهاية نظام الفصل العنصري بعد انتخابات العام 1994م التي جاءت بنيلسون مانديلا رئيسا لجنوب أفريقيا.

المهم هنا هو أن "الأفريقان" اعتبروا أنفسهم "شعب الله المختار" في غزوهم لأراضي السود وأنهم جاؤوا من أوروبا إلى هنا كما جاء اليهود من مصر ليدخلوا أرض الكنعانيين بحماية الرب، وتم تأويل الغزو والعدوان والقمع والسلب والنهب والتمييز العنصري في سياق أسطورة سياسية من منظور ديني خالص وبدعم مطلق من الله.

هذه هي الحالة الثالثة التي استخدمها المؤلف ليؤكد العلاقة الوثيقة بين تأويل الكتاب المقدس لخلق أسطورة سياسية، وهو يرى أن الأمر في الحالة اليهودية كان أسهل منه في الحالتين الأخريين.

كما يشير إلى أن توظيف الكتاب المقدس في حالة الأسطورة الصهيونية تم بشكل صريح قبيل العام 1967م، ويتتبع الكاتب السياق السياسي الذي نشأت فيه "الأسطورة الصهيونية"، معتبرا أن هيرتزل هو المؤسس الحقيقي لفكرة إقامة دولة يهودية لليهود باعتبارهم قومية، وهو وإن كان علمانيا فقد صاحب شعار "إذا نسيتك يا قدس فلتشل يدي اليمنى".

وعشية افتتاح أول مؤتمر صهيوني عالمي في مدينة بازل عام 1897م ذهب إلى المعبد اليهودي للصلاة وقرأ القانون اليهودي وأعلن أن الهدف من المؤتمر هو وضع حجر الأساس للدولة التي ستؤوي الأمة اليهودية، وعندما مات هرتزل  في 3 يوليو/ تموز 1904 نظر إليه اليهود باعتباره "موسى" الذي رأى أرض الوعد ولم يدخلها ولكنه وضع يده على رؤوس العديد من أمثال "يشوع" فأعطاهم روحه وحكمته لاستكمال عمله.

وعلى جانب تطور اللاهوت الصهيوني اعتبر الحاخامات اليهود أن الذهاب إلى جبل صهيون يجب أن يسبق مجيء "المسيح" المخلص وليس انتظاره في بلدانهم حتى يأتي، ومنذ نهاية القرن الـ19 أصبح أمر السعي إلى صهيون واستعادته مسألة متعلقة بجهد الشعب اليهودي، وهكذا تعانق الفكر القومي العلماني مع اللاهوت الديني اليهودي لبناء الأسطورة الصهيونية لاحتلال فلسطين باعتبارها أرضا بلا شعب.

ولم يكن أمر السكان الأصليين مطروحا بأي حال على الفكر القومي "هرتزل" أو الفكر اللاهوتي "الحاخام كاليشير وألكالاي"، وجاء وعد "بلفور" استجابة للمطالب الصهيونية، فقد كتب نصه الأول حاييم وايزمان واللورد روتشيلد، ولم يشر نهائيا إلى عرب فلسطين أو حقوقهم السياسية، وكان تعبيرا عن رؤية دينية مفعمة بروح عنصرية تستلهم الداروينية.

ومنذ وعد بلفور وتعاظم الهجرات اليهودية إلى فلسطين ثم إعلان دولة (إسرائيل) ثم حرب 1967م وحرب لبنان عام 1982م وعملية عناقيد الغضب عام 1996م والانتفاضة الأولى والثانية وما صاحب ذلك من عمليات تدمير وتهجير وحرق واحتلال كان البعد الديني التوراتى في قلب هذه الأعمال.

والغريب أن الاستعمار الصهيوني حظي بمساندة واسعة من قبل الديانتين المسيحية واليهودية على حد سواء، حيث نظر إلى الحركة الصهيونية باعتبارها متوافقة مع نبوءات الكتاب المقدس التي تعطي الأرض لليهود بناء على وعد إلهي.

ومن ثم فعلي السكان الأصليين تقدير مسارهم السلبي للخلاص بفضل رجوع اليهود لوطنهم, أي على الفلسطينيين تحمل ما يحدث لهم فداء للشعب اليهودي الذي يدفع العالم باتجاه مملكة الله. 

وكما يقول المؤلف إن الأساس الأيديولوجي في دعم الإمبريالية الصهيونية والعائق الرئيس أمام احترام حقوق السكان الأصليين يأتي من الدوائر الدينية التي ترى روايات الكتاب المقدس أمرا واجب التنفيذ.

كمال حبيب

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...