المحاكم الإسلامية: أسباب السقوط ومقومات النهوض

03-02-2007

المحاكم الإسلامية: أسباب السقوط ومقومات النهوض

استغرب المتابعون من سرعة تلاحق الأحداث في الصومال, وقد أدهشت صانعيها قبل المتابعين، فالحكومة الورقية والقوات الإثيوبية أيضا اندهشت من انفراط عقد المدن التي كانت تسيطر عليها المحاكم الإسلامية في غضون أيام.

كان الناس يتوقعون أن يقاوم مقاتلو اتحاد المحاكم مدينة بعد مدينة حتى النهاية على الأقل. ولكنهم أبوا إلا أن يضيفوا إلى مفاجأة ظهورهم مفاجأة الاختفاء.

في الأسطر التالية تقييم لتجربة اتحاد المحاكم ومحاولة لوضع الخطوط العريضة لإخراج البلاد من الوهدة التي وقعت فيها واستكمال المشروع الذي بدأت فيه المحاكم.

كانت للمحاكم إيجابيات ساعدتها على الانتشار السريع، كما أنها كانت تنطوي على نقاط ضعف لم تكن بادية للعيان من شدة التركيز على الإيجابيات.

ولعل ما ساعدها على الانتصار هو قوة رسالتها الأخلاقية والسياسية وليس قوتها العسكرية. كما أسهم انفضاض الناس عن أمراء الحرب الذين تعبوا منهم دورا كبيرا في تحقيق ذلك النصر المؤزر للمحاكم.

أثبت اتحاد المحاكم الإسلامية أن الصوماليين يستطيعون الاتفاق فيما بينهم وتحقيق الاستقرار والتنمية دون حاجة إلى الدعم الأجنبي إذا خُلي بينهم وبين ذلك.

واستطاع الاتحاد خلق سلطة معنوية أخلاقية جعلته مقبولة لدى أكثرية الشعب الصومالي في الداخل والخارج رغم عدم تمتعه بأية بنية عسكرية أو إدارية فعلية. وبرهن على قدرته على التعامل مع القبيلة على أساس وطني وإسلامي دون إلغاء أو إقصاء لطرف من الأطراف الوطنية.

وخلال أشهر تمكن من تحقيق الوئام الداخلي والسلم الأهلي، وإعادة الممتلكات إلى أصحابها، وقمع الجريمة المنظمة وفتح المطار والميناء رغم العداء المستحكم من الخارج والعزلة المفروضة عليه بدون استثناء.

لكن السذاجة السياسية لاتحاد المحاكم عجزت عن جس نبض المجتمع الدولي والتعامل معه من أفق إستراتيجي. وربما كانت عفوية النشأة واكتساب القوة على دحر أمراء الحرب والسمعة الواسعة التي اكتسبتها محليا أحد أهم الأسباب التي جعلتها لا تلقي بالا إلى ضعف بنيانها الداخلي سياسيا وعسكريا في مواجهة قوة إقليمية كإثيوبيا ودولية كالولايات المتحدة إضافة إلى الكيانات الانفصالية الداخلية والحكومة الفدرالية.

فقد فشل الاتحاد في تقديم نفسه كحركة لمؤسسة سياسية لها برنامج وخطاب موحّد يعبر عنه المتحدثون باسمها، فخطابها كان ينحو منحى التشدد والتزمت أحيانا والاعتدال والتوسط أحيانا أخرى، ولم يكن واضحا أي الخطابين هو المسيطر على القرار الفعلي في المحاكم.

ولم تأخذ الحركة بعين الاعتبار في خطابها السياسي الرأي العام الإقليمي والدولي الأمر الذي أضعف قدرتها على كسب هذا الرأي العام إلى جانبها.

كما أن التركيز على الخطاب الديني دون الخطاب السياسي أدى إلى توجس عناصر وطنية تشاركها في اتجاهاتها السياسية. وساهمت بعض التصرفات المتزمتة التي قام بها بعض أفرادها في تشويه صورتها أمام الرأي العام الدولي والإقليمي والداخلي، فخسرت بذلك بعضا من دعم شرائح المجتمع الصومالي التي كانت القيادات العليا تسعى إلى كسب ودّها.

وكانت العاطفة الدينية غير الحكيمة تسبق العاطفة الوطنية لدى بعض القواعد المتحمسة، كما حدث من حرق العلم الصومالي من أحدهم بعد دخول كيسمايو، وكما حدث في مدينة براوة حيث هاجموا مزارا سنويا في المدينة لأحد أبرز الأولياء بحجة أنه أمر بدعي، فضربوا الناس بالعصي وهدموا الأضرحة وقاموا بفظائع أنست الأهالي حسناتهم.

وفي الحالتين أدانت القيادات في مقديشو هذه التصرفات واعتذروا عنها، ولكنهم عجزوا عن اتخاذ موقف حازم من العناصر التي قامت بمثل هذه الأعمال الشنيعة.

ورغم بروز شخصية الشيخ شريف رئيس المجلس التنفيذي والشيخ طاهر عويس رئيس المجلس التشريعي (الشورى) إلا أن ذلك لم يخف افتقاد القيادة المركزية التي تتخذ القرار ويرجع إليها في حال التنفيذ بل كان من الواضح أن القرارات تتخذ بطريقة غير ديمقراطية.
وكان باستطاعة بعض الشباب المتزمت الذي بيده السلاح أن يقوم بتنفيذ ما يريد على الأرض ويجعله أمرا واقعا على القيادة العليا فتضطر إلى استصدار تشريع بذلك، كما حدث بالفعل في مسألة حظر القات حيث سبق قرار الحظر قيام بعض المجموعات بحرق ما قيمته 50 ألف دولار من القات فور نزوله من المطار.

ولا ننسى أثر العنصر الخارجي التآمري ولا سيما الأميركي في إسقاط المحاكم الإسلامية. فالولايات المتحدة لعبت دورا كبيرا في التمهيد للغزو الإثيوبي ليس فقط بتدريب وحدات خاصة من القوات الإثيوبية لغزو الصومال، بل أيضا في زرع الجواسيس بين قوات المحاكم الإسلامية وعقد صفقات مع بعض من مسؤوليها ممن لحقوا بالمحاكم من بقايا أمراء الحرب.

كما قامت بالضغط على زعماء القبائل ورجال الأعمال الذين كانوا يدعمون المحاكم، وهددتهم بتجميد أرصدتهم ووضعهم تحت لائحة الداعمين للإرهاب إذا لم يوقفوا دعمهم.

إضافة إلى الدعم اللوجستي والاستخباراتي والعسكري المباشر والذي تكشف بعضه وما زال بعضه خافيا حتى الآن.

ومن المؤكد أن قوة المحاكم المستندة إلى المتطوعين لم تكن بكل المعايير متكافئة مع القوة العسكرية الإثيوبية، إذ لم تملك جيشا منظما ولا طائرات ولا دبابات باستطاعته أن يقف أمام الغزو الإثيوبي.

كل هذا ساهم في تراجع الحركة للاحتفاظ بقوتها بدل تبديدها في مواجهة محسومة مسبقا لصالح عدوها. وبهذا تمكنت الحكومة المدعومة من إثيوبيا من دخول العاصمة تحت دبابات وجنازر المحتل.

وكان ذلك يوما أسود للأمة الصومالية لم تمر بمثله في تاريخها باتفاق الكثير من السياسيين والمثقفين الصوماليين، ذلك أنه تحقق فيه حلم عدوها بالاستيلاء عليها وتفتيتها وإجهاض مشروعها الوطني والإسلامي الذي مثل حلما طالما أرادوا تحقيقه وبدا لهم قريب المنال عن طريق المحاكم.

وبرغم الشعور الحزين والمأساوي الذي تعيشه الأمة جراء ما حصل فإن على العقلاء منها البحث في الأسباب التي أدت إلى السقوط إلى هذه الوهدة، والتفكير في سبيل للخروج منها بدل التباكي على ما حدث.

إن ما وصلنا إليه ليس بسبب المحاكم وضعفها فقط بل بسبب قضايا أخرى أعمق وأعظم شأنا، وهي التي أبقت التناحر القبلي بين شرائح الشعب على مدى الستة عشر عاما.

وإذا أمعنا النظر نكتشف أن من بين هذه الأمور ما هو ذاتي يرجع إلينا، ومنها ما هو خارجي. ولكن كليهما مرتبطان، فالعنصر الخارجي يستغل عناصر الضعف الداخلية ليتسلل منها لتحقيق مآربه. لذلك علينا التركيز أولا على علاج الأسباب الذاتية لكي نفوت الفرصة على القوى الخارجية.
من الأسباب الذاتية أننا مجتمع منظم بشكل قبلي، ورغم وجود كيان أمة صومالية موحد الدين واللغة والعنصر في أذهاننا فإن ذلك لم يرقَ إلى وعينا، ولذا فإن تصرفاتنا دائما تنبع من منطلق قبلي ومصلحي وفي بعض الأحيان شخصي، ضاربين بعرض الحائط كل مصلحة للوطن والأمة التي نتغنى بها.

فهناك حزازات بين القبائل تم إذكاؤها عبر العصور منذ عهد الاستعمار وعهد دولة ما بعد الاستعمار وترسخت خلال فترة الحرب الأهلية بالتصرفات اللاأخلاقية واللاإنسانية في بعض الأحيان. والتعافي من هذه الحزازات سيستغرق وقتا طويلا، ولكن علينا البدء بوضع برنامج لاجتثاثها لأنها هي التي تمكن الأعداء منا حيث تعاملنا كقبائل وليس كشعب.

ورغم هذا فينبغي ألا ننسى نقاط القوة الإيجابية التي يتمتع بها الشعب الصومالي والتي قلما يمتلكها شعب آخر، والمتمثلة في الوحدة الدينية واللغوية والقومية التي ينتمي إليها معظم أفراد الشعب الصومالي دون تهوين من الأقليات التي لا تشكل خطرا إثنيا بل هي منسجمة مع الأكثرية الغالبة بسبب العوامل الدينية والثقافية المشتركة.

وكذلك الوحدة الجغرافية التي تمثل ثقلا إيجابيا في منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا إذ تحتل رقعة كبيرة متواصلة جغرافيا، وإن كانت مفصولة بالحدود السياسية. ولا شك أن هذه العناصر تشكل النقاط التي يريد أعداؤنا تبديدها والقضاء عليها.

وعلى ضوء ما سبق فإننا بحاجة إلى وضع رؤية مشتركة تنطلق من المتفق عليه بين الصوماليين تشكل نواة لحركة وطنية تصوغ أجندة وطنية يتفق عليها، وتضم جميع الأطياف الصومالية والقبائل في مؤسساتها المختلفة ليس كاعتراف رسمي بل واقعي لنزع فتيل أي حزازة يمكن أن تثار.

ينبغي أن تشارك في إنشاء هذه الحركة التنظيمات الاجتماعية والمدنية والطلابية في المهاجر والداخل. وأن تضم الشخصيات البارزة من اتحاد المحاكم ولا سيما أولئك الذين يتمتعون بحس وطني وتمكنوا من الخروج من الصومال إلى اليمن أو دول الخليج، كما أن عليها أن تسعى إلى ضم الإسلاميين والوطنيين الذين لم يرتبطوا بالمحاكم. ويجب أن تسعى هذه الحركة إلى استكمال المشروع السياسي الذي بدأته المحاكم.

وأيا كان الأمر فلا أرى أن الحكومة المدعومة من الاحتلال يمكن أن تكون جزءا من الحل لأنها حكومة عميلة لعدو الأمة إثيوبيا، وهي بذلك فاقدة للشرعية ولهذا فلا ينبغي وضعها في الحسبان.

لكن ذلك لا يمنع استقطاب بعض الوطنيين منها والذين عارضوا الاحتلال، ولا سيما من أعضاء البرلمان وعلى رأسهم رئيس البرلمان الانتقالي شريف حسن آدم.

ولا بأس من أن يكون المثقفون والدبلوماسيون الصوماليون الوطنيون الذين لهم وزنهم دوليا هم من يصوغون المشروع بعد لقاءات ونقاشات جادة مع الفعاليات الأخرى ولا سيما النسائية والطلابية.

ويتم الاتفاق مبدئيا على نقاط أساسية محددة من بينها: المطالبة بسحب القوات الإثيوبية بأسرع وقت ممكن، وتعديل اتفاقية نيروبي لما يحقق المصلحة الوطنية سعيا لإعادة تكوين الدولة ومكوناتها الأساسية، وصياغة ميثاق وطني ينظم علاقات التمثيل السياسي للبلاد، آخذا بعين الاعتبار تجربة حركة وحدة الشباب الصومالي في النضال من أجل الاستقلال حيث تمكنت من طرح مشروع وطني، وتشكيل مجلس يستوعب الجميع ويمثل تطلعاتهم رغم حدة الاختلافات بين القبائل حينها.

وينبغي اختار شخصية ذات مصداقية وطنية وإسلامية يقتنع بها الشعب الصومالي بشتى فئاته لرئاسة مثل هذه الحركة. ويكون من أوائل مهماتها كسب الرأي العام المحلي والأفريقي والعربي والدولي، ولذا فعليها أن تصوغ خطابا موزونا وأن تكون مواقفها مدروسة.
ولا شك أن هناك فرصا في الوقت الحالي لنجاح مثل هذا المشروع نظرا إلى الاستعداد النفسي للصومالين، إذ أن قلوبهم تهفو لقيادة تجسد طموحاتهم. وينبغي الاستفادة من النشاط المحموم الذي تشهده المهاجر الصومالية لتدارس الأمر مما يؤكد أن الأمة تمر بحالة مخاض والجميع في انتظار المولود، ولا شك أن أكثريتهم سيتبناه ويدعمه.

ومن هذه الفرص أيضا أن الحكومة المدعومة من إثيوبيا لم تتمكن من السيطرة الفعلية على العاصمة، وتواجه هجمات شبه يومية من المقاومة.

إضافة إلى وجود اهتمام من المجتمع الدولي بالوضع في الصومال الذي وصل إلى قناعة أن ما قامت به إثيوبيا لا يمكن أن يقود إلى الاستقرار في المنطقة، ولهذا يسعى إلى إيجاد مصالحة وطنية بين الحكومة المدعومة إثيوبيا والمحاكم الإسلامية، وكذلك الاهتمام العربي الذي هو بمجمله مستاء مما قامت به إثيوبيا وإن لم يعلن ذلك رسميا.

وكما هو معلوم فإن كل أزمة تشهد مصالح متضادة إقليمية ودولية، وفي الحال الصومالية فهذا واضح للعيان ولا يحتاج إلى شرح كبير، فينبغي على الحركة المنشودة معرفة كيفية توظيفها لخدمة وتحقيق المشروع الوطني الذي تنادي به.

ولعل هذا يكون فرصة لإعادة تكوين حركة أكثر نضجا من المحاكم، ونقول حينها "رب ضارة نافعة".

محمد الأمين محمد الهادي

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...