تداعيات محاضرة بابا الفاتيكان في جامعة ألمانية (1-7)

19-09-2006

تداعيات محاضرة بابا الفاتيكان في جامعة ألمانية (1-7)

الجمل-محمد صفوح مرتضى: في جامعة (ريغيتسبورغ) جنوب ألمانيا، ألقى قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر –بنديكت- محاضرة حول مفهوم الإيمان في الكتاب المقدس والقرآن، وفي معرض تناوله العلاقة بين العقل والعنف في الديانة الإسلامية، استشهد البابا بنص من كتاب: (حوارات مع مسلم) للامبراطور البيزنطي مانويل الثاني (1350- 1425)م الذي قدَّمه ونشره في الستينيات عالم اللاهوت الألماني- اللبناني الأصل الدكتور عادل تيودور خوري من جامعة مونستر الألمانية، وفي المناظرة السابعة من هذا الكتاب يعرض الامبراطور مانويل الثاني، الحوار الذي أجراه بين عامي (1394 و1402)م على الأرجح مع محاور فارسي مسلم  حول موضوع الجهاد، قال البابا:
[ كان الامبراطور يعرف أن الآية 256 من سورة البقرة تقول: (لا إكراه في الدين) (البقرة 2/256).
وقال الخبراء: إن هذه واحدة من أوائل السور وتعود إلى الحقبة التي لم يكن لمحمد سلطة فيها، وكان مهدداً، لكن الامبراطور كان يعرف أيضاً وصايا الجهاد التي كانت بطبيعة الحال مُتَضَمَّنةَ في القرآن. وبدون أن يتوقف عند التفاصيل مثل الفرق في معاملة المؤمنين والكفار.
يطرح على محاوره بفظاظة مفاجئة بالنسبة إلينا، السؤال المركزي حول العلاقة بين الدين والعنف، ويقول:
(أرني ما الجديد الذي جاء به محمد.. لن تجد إلا أشياء شريرة وغير إنسانية، مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به عبر السيف).
ويفسر الامبراطور بعد هذه الكلمات القوية جداً ومن ثم بالتفصيل لماذا يكون نشر الإيمان بالعنف منافياً للعقل، فعنف كهذا مخالف لطبيعة الله ولطبيعة الروح، الله لا يحب الدم والعمل بشكل غير عقلاني مخالف لطبيعة الله.   الإيمان هو ثمرة الروح وليس الجسد.
من يرد حمل أحد على الإيمان فيجب أن يكون قادراً على التحدّث بشكل جيد، والتفكير بشكل سليم وليس بالعنف والتهديد، لإقناع روحٍ عاقلة لا نحتاج إلى ذراع أو سلاح ولا أي وسيلة يمكن أن نهدد أحداً بالقتل.
الجملة الحاسمة في هذه المحاججة ضد نشر الدين بالعنف هي:
(العمل بشكل منافٍ للعقل مخالفٍ لطبيعة الله).
ويعلق المحرر عادل تيودور خوري في هذا الشأن: بالنسبة إلى الامبراطور -وهو بيزنطي تعلم من الفلسفة الإغريقية- هذه المقولة واضحة. في المقابل بالنسبة للعقيدة الإسلامية (الله ليس مطلق السمو وإرادته ليست مرتبطة بأي من مقولاتنا ولا حتى بالعقل.
ويذكر (عادل تيودور خوري) في هذا الشأن كتاباً للعالم الفرنسي في الشؤون الإسلامية (روجيه أرنالديز) -توفي في نيسان/ ابريل الماضي- الذي قال: إن ابن حزم الفقيه الذي عاش في القرنين العاشر والحادي عشر، ذهب إلى حدّ القول: إن الله ليس ملزماً حتى بكلمته ولا شيء يُلزمه على كشف الحقيقة لنا.. ويمكن للإنسان إذا رغب أن يقوم بعبادة الأوثان].
نقتصر في هذه الحلقة على هذا الجزء من محاضرة قداسته لنستهل مناقشتنا له على ما صدر منه ومناقشتنا لمن تصدوا لالتماس التبريرات واجتراح التَمَحُّلات للخلوص إلى أن الإشكال يكمن في سوء فهم المسلمين لمقولة البابا وخطأ تأويلهم لها، وانتزاعهم لمقولته من سياقها، وقد تركّز دفاعهم عما انطوى عليه استشهاد البابا من إساءات للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وللإسلام على كون هذا الاستشهاد هو مجردُ اقتباس يتحمل مسؤوليتَه الامبراطور مانويل الثاني –صاحب الكتاب- الذي اقتبس البابا منه دون أن تترتب أيةُ مسؤولية على من ساق هذا الاقتباس ووظفه ضمن محاضرته، فهو سليم النية والطوية ولا يجب أن يتحمل أدنى تبعة جراء اقترافه مثل هذا الاقتباس!.. وعلينا –نحن المسلمين- أن نَغُضَّ الطرف عن الحقيقة الثابتة والشائعة التي تقول: (اختيار المرء هو جزء من عقله).
في هذه الحلقة الأولى من تداعيات ما صدر عن قداسته نتوجه بالخطاب إليه فنقول:
لسنا ممن هم مولعون باستجداء الاعتذارات ممن نرى أنهم أساؤوا بحق مقدّسات المسلمين أو غيرهم. وسلفك الراحل البابا يوحنا بادر من تلقاء نفسه بالاعتذار من اليهود والبروتستانت والمرأة والأرثوذكس وغاليلو وغيرهم إلى آخر السلسلة ممن طالتهم اعتذاراته فيما عدا المسلمين الذين لم يعتذر منهم صراحة عن الحروب الصليبية واكتفى بعبارة عامة مواربة، لا ترتقي إلى وضوح وصراحة اعتذاره من غير المسلمين.
إن فضيلة الاعتذار لا يجوز أن يُكره عليها إنسان لأنه يجب أن يكون دافعها من داخله وباقتناع تام منه، فإذا توفرت لدى قداسته القناعة بأن ثمة خطأ ما صدر عنه يتوجب أن يعتذر عنه، فإن قامةًً دينية باسقةً في مقام قداسته يجب ألا تكابر أو تتمحل للتملص من مسؤولية ما صدر عنه، كما يجب ألا يستجيب لكل من يطالبونه بالاعتذار ممن لم يمارسوا هذه الفضيلة ولو مرة واحدة في حياتهم.
تساؤلاتي ستكون محددة لقداسته، ولن أدخل في أية مماحكة تتصل باتهام المتعامل مع كلماته بسوء النية أو خطأ التأويل لأنني أربأ بنفسي أن أُتهم بتدني قدرتي على فهم ما قاله قداسته. إن إجابات البابا على تساؤلاتي هذه هي التي تحسم الجدل العقيم الذي لا نهاية له ولا ثمرة.
1- هل تعتبر قداستكم أن اجتزاءً من آية دون اعتبار لكامل الآية، ودون ربط الآية موضوع الشاهد بالآيات الأخرى ذات الصلة بموضوعها..  هل تعتبر ذلك طريقة سليمة لفهم دلالات آية ما أو تقرير موقف القرآن من الموضوع؟.. ومن هم هؤلاء الخبراء الذين حسموا الأمر في أن الصلاحية الزمنية لآية (لا إكراه في الدين) هي منحصرة في الفترة المكية حيث كان الرسول ضعيفاً وإذا وُجد في الدائرة الإسلامية رأي شاذ يقول بذلك هل يصح أن يعممه قداسته على كامل المسلمين الذين يؤمن معظمهم أن هذه الآية صالحة إلى آخر الزمان خاصة وأن آيات أخرى تتضافر معها لتعزيز حرية الإنسان في اختيار عقيدته لأن حساب الله يوم القيامة يرتكز على مبدأ حرية اختيار الإنسان لما يؤمن به فإذا سُلب الإنسان هذا الحق سقطت مسؤوليته عما أُكره عليه، ويعزز ذلك قول الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: (رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه).
2- هل تتبنى قداستكم مقولة أن الإسلام انتشر بالسيف؟ وما هي التفاصيل التي أشرتم إليها بما يتعلق بالفرق في معاملة (المؤمنين) و(الكفار) ولم يتسع المجال في محاضرتكم لشرحها؟
3- هل توافقون على مضمون اقتباسكم حول أن محمداً لم يأت بجديد وأنك لن تجد إلا أشياء شريرة وغير إنسانية لديه مثل أمره بنشر الدين الذي يبشِّر به بحدّ السيف؟
4- ما الذي تناهى إلى علمكم من تكريم القرآن والرسول للعقل وحضّ الإنسان على التدبر والتفكر، وما هي الصلة بين العقل والإيمان في الإسلام؟ وهل سمعتم بقول الرسول الكريم (لا إيمان لمن لا عقل له)؟.
5- هل مقولة ابن حزم التي استشهد بها الدكتور عادل تيودور خوري من كتاب العالم الفرنسي في الشؤون الإسلامية (روجيه أرنالديز) تصلح للاحتجاج بها على كل المسلمين حتى الذين لا يشاطرون الرأي ابن حزم المتأخر نسبياً (حيث ولد في القرن العاشر) وسنراجع المقولة في كتب ابن حزم للوقوف على مدى صحتها وعدم اجتزائها وعدم إخراجها من سياقها وذلك في الحلقات القادمة.
6- ما هي نظرتكم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وموقفه الإيجابي من السيد المسيح عليه السلام وأمه العذراء البتول عليها السلام وما ورد في القرآن الكريم من تكريم لهما وإعلاء لشأنهما، وتقدير المسلمين للسيد المسيح والسيدة مريم أمر لا يجهله جاهل. ألا يستحق هذا الإسلام وهذا الرسول والمؤمنون بالقرآن والرسول والمعترفون بالمسيحية ديناً إلهياً أن تنظروا إليهم نظرة التقدير وتحملوا لهم مشاعر المودة؟ فإذا كان اليهود الذين يعتبرون أن السيد المسيح هو المسيح الكذاب وأن أمه مريم قد حملت به سفاحاً وأنه ابن زنا –حاشى لله ذلك- وإذا كان اليهود يدعون في صلواتهم على السيد المسيح أن يمحو الله ذكره واسمه ويَسِمون أمه الطاهرة بالزانية، وإذا كانوا لا يعترفون بصحة الديانة المسيحية، وإذا كانوا.. وإذا كانوا.. إذا كانوا رغم كل ذلك قد نالوا منكم منذ لحظة اعتلائكم كرسي البابوية هذا الكمّ من الاحترام والتقدير حتى أنكم تبنيتم دعم وتأييد كل ما يدّعونه حقاً لهم ولو على حساب قتل العرب المسلمين والمسيحيين: الكاثوليك والأرثوذكس والإنجيليين ولو كان ذلك على حساب سجن أبنائهم وتهجيرهم واغتصاب أراضيهم وتدمير بيوتهم حيث لم تنبسوا ببنت شفة بحق ضحايا الصهيونية من عرب مسلمين ومسيحيين.
ألا يستحق الإسلام والقرآن الكريم والرسول محمد صلى الله عليه وأله وسلم والمسلمون أن تبادلوهم مودة بمودة واحتراماً باحترام، ولا أقول اعترافاً باعتراف، فهذا  رهن ضميركم ومبلغ علمكم ودرجة إنصافكم ودقة ميزانكم.
أسئلة ستة أتمنى أن يجيب عليها قداسته وأرجو ألا يخيب أملي وستكون إجابته عليها حاسمة لكل الجدل حول ما تفوّه به في محاضرته في الجامعة الألمانية.
لأن المسلمين لا يبرؤون قداسته من تبعات اقتباساته الموجّهة سلباً ضد الإسلام والقرآن والرسول الكريم ولا يسلمون بصحة الأحكام التي أطلقها على الإسلام وعلى النبي (ص) ويرون أنها أحكام لا تحمل ذرة من الحقيقة سواء صدرت منه بالأصالة أم نقلها غبطته بالوكالة عن آخرين.
إن التلكؤ في إصلاح ما أُفسِدَ وتدارك تداعياته سيُحَمِّل قداسته مسؤولية تاريخية وسيحمِّل أتباعه من الكاثوليك في العالم وخاصة العالم العربي والإسلامي فضلاً عن المسيحيين غير الكاثوليك تداعيات آثار التفجير الذي صدر عن قداسته ولن يخفف من ارتدادات الهزة التي تسببت بها كل محاولات المناورة والمداورة والتبرير الصادرة عن المتحدثين باسمه أو رجال الدين التابعين للفاتيكان في العالم العربي والإسلامي والعالم أجمع، وليكف هؤلاء عن العزف على وتر خطأ المسلمين في التأويل وسوء فهمهم لمراد قداسته لأن ذلك سيجعل قداسته مديناً باعتذار ثانٍ لعلماء ومثقفي المسلمين من قبل المغرمين بطلب الاعتذار بسبب استخفافه بعقول المسلمين وطعنه بحسن فهمهم واتهامه لحسن نواياهم ومصداقيتهم، فقط من أجل أن يُنقل الإشكال من دائرة ما تفوّه به قداسته إلى دائرة المتلقي لكلامه.
 أدعو قداستكم إلى أن ترفضوا الاعتذار من كل من يطلب منكم أن تعتذروا عما صدر عنكم  لأن هذا الاعتذار لا يمحو آثار الطعنات النجلاء بمقدسات المسلمين ورسولهم الكريم. إذا كنتم تتبنون المقولات التي سقتموها في محاضرتكم بالواسطة لتكن لديكم الجرأة لتعلنوا ذلك وأنا أول من يحترم صراحتكم حتى لو كانت جارحة ولتُلغى كل الكواليس ولتسقط كل الأقنعة من مسارح الحوار الإسلامي- المسيحي، كيما نواجه عقدنا في الجانب الإسلامي وعقدنا في الجانب المسيحي مواجهة سافرة بلا أعمال تجميل ولا تدليس ولا تكاذب متبادل  ولتُشَكَّلَ لجان على مستوى عالٍ من المختصين مسيحيين ومسلمين لدراسة ما يتفق عليه لتعزيزه وما يختلف حوله للتفاهم بشأنه. فقد آن الأوان لكي يضع كل منّا نفسه أمام المرآة ليقدّم نفسه على حقيقته كما يظهر تماماً في المرآة، ولقد آن الأوان أيضاً لكي نتعامل مسلمين ومسيحيين بكل شفافية وكل مصداقية لمصلحة الإيمان المشترك الذي يجمعنا ولضرورة التعايش معاً في المجتمعات التي تضم مزيجاً من المسلمين والمسيحيين الذين يتشاطرون المواطنة في عشرات الدول من أجل أن يحقق كل مسلم وكل مسيحي غاية وجوده ويجسد تعاليم عقيدته حتى لا نفقد احترامنا لأنفسنا ولا ثقة الأجيال القادمة بنا.
وريثما تصلنا إجابات قداسته على أسئلتنا فإننا نعده أن يكون حوارنا موصولاً معه عبر الجريدة الالكترونية السورية (الجمل) على مدى الأسبوع، ونحن حريصون كل الحرص على لملمة الآثار السلبية لما صدر عن قداسته وأن نستفيد جميعاً من هذه المحنة التي نرجو أن نستلهم منها الدروس والعبر فعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.

 

الجمل

إلى الندوة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...