حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (11)

25-06-2007

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (11)

لم تصدق نبوءة السيدة مارغريت, فلا غبريلا نامت في سرير أيهم, ولا هو دعاها إلى ذلك.. كان يحترم الانثى فيها, وقبل ذلك, كان يحترم الذكر فيه, فالمثل الانكليزي يقول: (النقود تستطيع أن تشتري فراشاً, لكنها لا تستطيع أن تشتري نوماً) وقياساً عليه: (النقود تستطيع أن تشتري خاتماً مرصعاً بالماس, لكنها لا تستطيع أن تشتري قلباً).‏

غبريلا ليست جارية, وأيهم ليس نخاساً, ولا يتعاطى البيع والشراء مع النخاسين, وليس له ما للمحبين من لجاجة, أو الخلاف كخلق بين العاشقين, أو التمنع كشيمة المعشوقين, في لعبة الهوى, أو سكرة الاغتلام, طلباً للارتواء, عن طريق إغراء الجنس..‏

إنه ليس دونجواناً, ولا يريد أن يكونه, وليس الشاعر الانكليزي بايرون الذي قال: (ليت للنساء فماً واحداً إذا قبلته استرحت!)..‏

أيهم ليس ملاكاً أو شيطاناً, وغرابة الأطوار التي ألصقت به, حين هو جالس على حقيبة سفره, باطلة, لأنه فعلاً كان يفكر بالانتقال من بيت السيدة مارغريت أنداش, متنازلاً عن أجرة الشهر التي دفعها مقدماً, ومع أنه تاجر, يصدر إلى المجر الزيت والزيتون والفستق والحناء وغيرها, ويستورد منه أجبان القشقوان والانبذة والكونياك وبيرة ستيلا, ذات الشهرة العالمية وغير ذلك, فإنه كان قلقاً, مسهداً, يفكر بما كانت عليه بودابست وما آلت إليه, حيث باع المجريون بعد انهيار النظام الاشتراكي كل ما يملكون: من شركة ماليف للطيران, إلى مصنع البولمانات المجرية الشهيرة, إلى المخازن والمتاجر, باعوها إلى النمساويين والسويديين والالمان وغيرهم وصاروا أجراء فيها بعد أن كانوا اصحابها.‏

صاروا في زراعتهم الراقية, عبيد مزارع يملكها أصحاب رؤوس الأموال الغربيون, أضحوا عاطلين عن العمل, يقومون في البيوت بما كانت تقوم به الزوجات, وليس لديهم ما يشترون به الدواء لأطفالهم وأنفسهم, يتلهفون على الهجرة, صوت الغرب, ويتزاحمون بعشرات الآلاف, إذا ما كان هناك طلب أو حاجة للعمال في أي بلد, ولو في آخر الدنيا..‏

لقد فرحوا, بدءاً بزوال النظام القديم, وعضوا على السكين في ظل النظام الجديد, الذي جاء ومعه الضرائب الباهظة على الدخل والبطالة, والفقر..‏

وليس في وسع أحد أن يخلق نظاماً ثالثاً للمجر أو لغيرها: هناك نظامان: الاشتراكي الذي فشلت تجربته الأولى, والرأسمالي الذي يشد على خناق العالم, بقيادة سيدة هذا الكون, كما تدعي, أميركا!‏

استلقى أيهم على سريره, مفكراً بعمق في كل هذا, لم يؤات أيهم النوم, نهض من السرير, راح يدخن, راح يستعيد بعض ذكرياته القديمة, عن دراسته الكيمياء في جامعة بودابست, عاد إلى السرير, تقلب من جانب إلى آخر, تناول أخيراً حبة منومة, استغرق في سبات حتى الظهر, عندما أفاق على رنين الهاتف! كانت هذه غبريلا, تدعوه إلى تناول القهوة, متسائلة:‏

- هل أنت بخير؟ هل نمت جيداً؟‏

قال:‏

- أنا بخير, لكنني نمت قلقاً كما نمت أنت!‏

قالت:‏

- أنا لم أكن قلقة.. غفوت منذ وضعت رأسي على الوسادة.‏

- هنيئاً إذن.. لدينا مثل يقول (ويل الشجي من الخلي)!‏

- لم أفهم..‏

- ويل المشغول البال, من خالي البال!‏

- وبماذا كان بالك مشغولاً؟‏

- ليس بك على كل حال!‏

- عدت إلى الشقاوة!؟ نحن ننتظرك!‏

- ليس قبل ساعة من الآن.‏

- وماذا ستفعل في هذه الساعة كلها؟‏

- أقرأ سفر الجامعة في التوراة: باطل الأباطيل باطل, الكل باطل, الكل قبض الريح!‏

- وأي ريح قبضت؟‏

- الريح التي لا تقبض!‏

- ليس من ريح لا تقبض.. إذا ما كانت لك كف قوية!‏

- في هذه الحال استعير كفك يا سيدتي!‏

- التي في أصبعها خاتمك؟‏

- صدقيني أنني نسيت الخاتم وصاحبة الخاتم! من أنت؟‏

- أنا ملكة سيبيريا!‏

- وفي سيبيريا بيت الموتى.‏

- وفيها, أيضاً, الديسمبريون.. أنت معهم أم مع القيصر؟‏

- أنا مع القيصرة التي تنام باكراً!‏

- هذا لكي تسهر أنت!‏

- ماذا أفعل إذا كان التاجر مثلي, يسهر كي يراجع حساباته!‏

- وهل راجعت حساباتك بدقة؟‏

- راجعتها ووجدت أنني على وشك الافلاس!‏

- عن أي تجارة تتحدث؟‏

- عن تجارة النفوس الميتة لغوغول!‏

- الأصح عن بطل من هذا الزمان للشاعر نكراسوف.‏

- ولكن بطل الشاعر نكراسوف كان مراوغاً, فشاراً, بلا قلب!‏

- وهل لك قلب أنت؟‏

- قلبي مات منذ رأيتك, وسأمشي في جنازته بعد أن استحم!‏

- أنا لا استطيع أن افهمك على الهاتف.. بل على القهوة التي تنتظرك.‏

- شكراً على هذا اللطف, وعلى هذا الحديث الطويل والممل جداً..‏

اشربي القهوة وحدك, لأنها بردت, وأنا, كما أرغب أن تعرفي, لا أشرب القهوة الباردة.‏

- وماذا عن أصابعي التي بينها نار!؟ تبرد القهوة وهذه الأصابع مشتعلة؟‏

- آسف أن أقول لك, إن النار التي بين أصابعك ستنطفىء لذاتها, كما اشتعلت لذاتها, وإنني غير معني باشعالها أو انطفائها, لأنني, يا سيدتي, على مذهب بطرس الذي أنكر معلمه قبل صياح الديك.. مع السلامة!‏

كانت السيدة مارغريت على وشك الانفجار, فهذا الحديث الطويل هاتفياً أزعجها, وقد أشارت إلى ابنتها غبريلا, بكل الحركات الممكنة: أن كفى, ضعي السماعة على الهاتف, اقطعي المكالمة, دون جدوى..‏

غبريلا كانت تثرثر مع تاجر الزيت والزيتون والاجبان هذا, تأخذ وتعطي, في جدل طويل, لم تفهم إلا القليل منه, والمسألة لا تحتاج إلا إلى كلمتين, في دعوته إلى شرب القهوة, والجواب:نعم أو لا, وهذا يكفي سواء كانت القهوة باردة أم سخنة, وهذه النار, بين الأصابع, لا حاجة لها, إلا إذا أرادت أن تغريه بنارها, التي تشتعل في مكان آخر من جسمها, وبذلك تزداد ضعفاً أمامه, وغطرسة حيالها.‏

غبريلا ليس لها من التجارب, مع هذا المبندق الذي تجاربه وفيرة, جمعها من المواخير, ومن عاهرات شارع بينال في باريس, والشوارع الخلفية, حيث تقف القحاب المدربات على اصطياد الزبائن, الذين على شاكلته!‏

سألت السيدة مارغريت, والغضب ينبض بين حاجبيها, ابنتها غبريلا:‏

- هل كنتما, أنت وهو, تقرأان مزامير داود!؟‏

ضحكت غبريلا وقالت:‏

- ومعها نشيد الأناشيد لسليمان الحكيم!‏

- بلقيس, ملكة سد مأرب, خابت في بلاط سليمان, وأنت, يا ملكة جمال المجر, خبت في بلاط هذا الأزعر..ماذا أفدت من هذا الحديث الذي بطول الدانوب الأزرق؟‏

- تسليت, اسمعني معزوفة الدانوب الأزرق لشتراوس فانتشيت..‏

- وهكذا اشتعلت النار بين أصابعك.. وربما في مكان آخر..‏

- عيب يا أماه, أيهم ليس بأزعر, وأنا لست رخيصة كما تتصورين, هل نسيت كم دللك على العشاء ليلة أمس؟‏

- أنا لا انسى ولكن أريد أن أعرف الحديث الهاتفي الطويل الذي دار بينكما, كي استنتج ما يجب, فأحميك منه.. هل صعدت إليه, بعد أن نمت أنا؟‏

- لم أصعد, لأنه لم يدعني للصعود, وفي هذا ذكاء ونبل منه, الاحترام هنا, كان لائقاً, حضارياً, وإلا كان مبتذلاً, لو بعد العشاء, طلب مني أن أدفع ثمن العشاء من كرامتي.‏

فكرت السيدة مارغريت, على عادتها في البحث عن الخبث المفترض عند الآخرين, وبعد غوص في البحث عن هذا الخبث في ذاتها قالت:‏

- إذا اخذنا الأمور على وجهها السطحي, كان الذي تتفلسفين فيه مقبولاً, إلا أن أمك تعرف ألاعيب أبناء الحرام أمثاله.. إنه حاذق في اللعب وفي البلف, كما لون أنه على طاولة بوكر. لقد بلفك كما لو أنه لاعب بوكر برازيلي, يحتفظ بورقته القوية مستورة!‏

وبعد هذا الدرس القيم في البوكر, إلى أين من هنا؟ إنني أحب البرازيلي في البوكر وكرة القدم معاً..‏

كان لدينا لاعب كرة, قدمه من ذهب, هو بوشكاش, هرب من المجر ليتخلص من استنتاجات زوجته, التي تشبه استنتاجاتك في البحث عن الخبث عند الآخرين دون طائل.. إنني أحب أيهم لاعباً ماهراً في البوكر وكرة القدم معاً.. فماذا بعد؟‏

- اذهبي إلى البرازيل معه, وهناك تتعلمين لعب البوكر وكرة القدم على الأصول!‏

- سأذهب!‏

- وستندمين! أنا ذاهبة إلى غرفتي, العيش في هذا البيت أصبح لا يطاق, منذ حل فيه هذا الشيطان أيهم.‏

دخلت السيدة مارغريت غرفتها, أغلقت الباب عليها بضربة قوية, قفلته بالمفتاح, أخرجت زجاجة بالنكا من تحت السرير, ابتسمت لمرآها, أخذت جرعة طيبة, قررت أن تسكر, أن تعيش على هواها, أن تتجاهل هاجرها الدكتور أنداش نكاتتش, وابنتها غبريلا (هذه التي تشتعل النار, بين أصابعها كما تقول, وفي كل جسمها الفتي, الجسم الذي يتشهى الافتراع, على فراش هذا الساكن فوق تنبض الشهوة, بعد أن وقعت في غرامه, وهو يلهو بها كما يلهو بخوخة ناضجة, وبعد أن يتذوقها, أن يمتص ماويتها, أن تصبح قشرة دون لب, يرميها..‏

إنه يريد أن يقرف كل جارحة في جسد ابنتي, كل مسام فيه, كل استدارة في الصدر والأرداف, وأن يشرب الويسكي من معجة صرتها, ويزرع في رحمها بذرته النتنة, ثم يختفي كما ظهر, وهذا هو شأن التجار.. آه يا غبريلا, يا سلعة في يد تاجر, انحدر بك الشبق إلى درب التجار أيضاً؟.‏

الإنسان, في مرونة العقل, مراوغ, فإذا ثارت الشهوة, في عقب صاحبه, بررها العقل, قال لهذا الإنسان: (أنت على حق!) وإذا كتم هذه الشهوة,جحدها, قال له العقل المرن: (أنت على حق أيضاً) أبو العلاء المعري, الذي آمن بالعقل كإمام, في الصبح والمساء, كان على خطأ, فالإيمان بالعقل وحده, دون تجربة, غفلة من المعري كانت..‏

ليس ثمة إطلاق, ليس ثمة تعميم, حتى في الاشياء الصغيرة في النفس, التي تنقلب إلى اشياء كبيرة في التطبيق, السيدة مارغريت, التي يلذ لها التنصت إلى ما يجري في السرير, تأمل, في اللاشعور أن تكون هي في السرير, أن ترسل هي صرخات اللذة, لا أن تسمعها فقط, وحقدها على أيهم, أنه سيكون مع غبريلا في السرير, ودورها أن تتنصت, أن تسمع الصرخات, التأوهات, تصدر عن ابنتها لا عنها, ناظم حكمت قال:‏

»مللت سماع الأغاني, أريد, أنا نفسي, أن أغني هذه الأغاني), والسيدة مارغريت, ملت تأوهات ابنتها غبريلا, ترغب في سريرتها أن تكون هي في السرير, بدل ابنتها, وأن ترسل التأوهات, عندما يدور الماء في صلبها, بدل ابنتها, وهذا كان جارياً, مع عشيقها اندرياش زولتان, الذي طرده أيهم في المطعم, فماذا تبقى لها؟ أين تقذف بركانها ومع من؟‏

زوجها انداش هجرها وهي لما تبلغ سن اليأس بعد, فاستعاضت عنه بأندرياش, وهذا تكرهه ابنتها, وستطرده من البيت, فمع من تقضي لبانتها؟ هذا ما تفكر فيه السيدة مارغريت في غرفتها, حيث تشرب البالنكا بالقدر الذي تريد, ومع البالنكا, قبل أن تفقد وعيها, وتنطرح على فراشها أو على الأرض, خطر لها هذا الخاطر:‏

»أيهم شاب, وقوي, ويكفينا نحن الاثنتان, فهل تقبل غبريلا هذه الشراكة مع رجل واحد؟ وماذا تخسر إذا قبلت؟ البنت والأم, انثيان مع ذكر واحد, وفي بيت واحد, بغير ضجيج أو فضائح, وبهذا وحده تلبى الرغبتان, وهي, الأم, توافق على أن لابنتها الحصة الأكبر, ولها, هي المهجورة, الحصة الأصغر, وإلا فإن أندرياش سيبقى, وهذا الوطواط أيهم سيرحل!‏

المرأة تفهم المرأة, مارغريت تفهم غبريلا, غبريلا تفهم مارغريت, لكن ما يدور في الرأسين مختلف, فالتقاسم, مهما كان عادلاً أو جائراً, غير وارد, وهل يعقل أن يكون ذكر واحد لانثيين؟ الأم والبنت في وقت واحد؟‏

البنت ليس لها ما لأمها من تجارب, والأم الشبقة, الأوفر تجربة, ترغب أن تكون لها تجربة جديدة, مثيرة, مجنونة أو عاقلة, هذا لا يهم, المهم أن تتم التجربة, أن يكون هناك تقايض: اسلمك ابنتي, شريطة ألا تنساني, أنا الأم, وماذا يضير البنت, إذا هي ارتوت, أن تكون لأمها فضلة من هذا الارتواء؟‏

عرفاً, شرعاً, قانوناً, هذا لا يصير, إنه من غير المألوف, ولكن إلى متى نبقى أسرى المألوف؟ لنتحرج, في اقتراف هذا الإثم, لكنه إثم نادر, وندارته هي التي تغري السيدة مارغريت به »أيهم لنا, نحن الاثنتان, وإلا فلن يكون لك أو لي) هذا قرار الأم, وعلى البنت أن تتقبل قرار أمها, وأن تطيعها أيضاً!).‏

مصارحة؟ لا! ملاحظة؟ نعم! غبريلا لاحظت منذ كانوا على العشاء, وخلال الرقص, وعندما جاء أيهم ليشرب القهوة, قطع الشك باليقين, قال:‏

هذا يحدث يا غبريلا..نادر.. إلا أنه يحدث, البنت تحب والدها, الابن يحب أمه, أسطورة أوديب معروفة, وغيرة الأم من زوجة ابنها منتشرة, وإحدى القوادات قالت لي: »ابنتي تعرف أنني أنام مع هذا الرجل, ولم يكن لديها مانع أن تنام معه, هي أيضاً!).‏

ماذا نسمي هذا الشذوذ؟ حسب رأيي, وبقدر ما أفهم سيكولوجية الانثى, اسميها عقدة الجنس ثأرياً!) الأم تثأر من ابنتها, والبنت تثأر من امها, لأسباب عديدة, منها أن تكون امرأتان في بيت واحد, وكلاهما مطلقة, أو مهجورة, وهناك رجل واحد يحب, أو تحبه المرأتان في آن واحد, لما يتحلى به من كريزما, تعبر عن نفسها في صفات متعددة, الفحولة إحداها, وقبلها الكرم, النبل, المركز الاجتماعي, مغازلة الاثنتين, لافتراع الاثنتين بالتناوب.. الرجل يا مارغريت, قادر على الجمع بين امرأتين, بين ثلاث, ويلذ له أن يرى التنافس بينهما عليه!‏

سألت غبريلا:‏

- وأنت!؟‏

- أنا لا أعاني من الحرمان, هذا أولاً, ولا يلذ لي, حتى وإن كنت رجلاً شرقياً, أن أتزوج أكثر من امرأة, وأن أتسيد على زوجاتي وهن يتنافسن علي.. الحياة, في الشرق, تغيرت إلى حد ما, زمن الحريم ولى, وهذا ثانياً, وحيث يكون العلم, يتلاشى الجهل تدريجياً, وحيث يكون التقدم, ينزاح التخلف ببطء, وهذا ثالثاً, ولو قدر لك أن تزوري أي بلد عربي, تجدين الفارق, في تكون الأسرة, بين الاحياء الجديدة والاحياء القديمة, وهذا رابعاً.‏

- أنت من الاحياء الجديدة في بلدك؟‏

- أنا من المتعلمين في بلدي, ولشد ما ناضلت, بالجسم والكلمة, في سبيل التقدم الاجتماعي, وهذا واجب لا منة.. إنه, من حيث المبدأ, قاعدة, ولكل قاعدة استثناء, بل استثناءات.. هناك متعلمون, ومن يدعون التعلم, لكنهم في المحصلة, رجعيون, ليس على جباههم قطرة عرق واحدة, في سبيل التقدم الاجتماعي, ومن أجل العدالة الاجتماعية.‏

- لكنك تاجر, وأخلاق التجار مغايرة.‏

- أنا من عائلة فقيرة, ولم أنس فقري يوماً, وقد درست في المجر, يوم كانت اشتراكية, ولن أنسى هذا أيضاً, وقبل أن أكون تاجراً كنت مناضلاً, في الجامعة وبعد التخرج منها, وكنت مدرساً قبل اشتغالي بالتجارة, ولست مع الذين يضعون التجار كلهم في سلة واحدة, وقد تشربت روح العلم, قبل أن اتشرب روح الربح والخسارة, ولعلمك أقول إنني رأيت تجاراً شرفاء أيضاً!‏

- أنت مندفع!‏

- وبقوة, لكنني لا ألقي بنفسي إلى التهلكة, ولا أشرب من بئر وأرمي فيه حجراً.‏

- وماذا بشأن أمي؟‏

- عندما كنا على العشاء, كانت تدوس على قدمي من تحت المائدة, وأثناء الرقص أبدت بعض الغنج, كأنها صبية لا تزال, وقالت كلمات مبطنة لم استجب لها.. إلا أن علي أن أكون شريفاً فلا اغش.. أمك لا تعرف أنك تحبينني.‏

- ومن قال إنني أحبك؟‏

- عيناك!‏

- وماذا بشأن أمي الآن؟‏

- علينا أن نعالج موضوعها بروية وحكمة.‏

- إنها تكرهك جداً!‏

- والكره, كما يعرف كل الناس, في كل البلدان, هو الوجه الآخر للحب.. ثم هناك أمر في غاية الأهمية: أمك تشعر بالظلم, بسبب الهجر الذي يحول بينها وبين الزواج, وقد كان لها عشيق هو اندرياش زولتان, لكنه في تطفله علينا, وتذلله أمامنا, وقبوله المال كي يأكل, سقط في نظرها..‏

إنها, الآن, بحاجة إلى زوج, وهذا غير وارد في الكثلكة, وهناك حلان: إما أن يعود والدك إليها, وإما أن تتخذ لها عشيقاً جديداً, ومن النكد أنها ظنت أنني سأكون العشيق الجديد!‏

- وماذا ستكون إذن؟‏

ابتسم أيهم وقال:‏

- مجرد جالس على حقيبة سفره, كالوطواط في الظلمة.. هل عرفت الآن, أنني كنت بعيد النظر؟ ولماذا كانت مجافاتي لك, عندما صعدت إلي, والسكين في جيب معطفك!؟ حدست, منذ رأيتك, أن الأنوار التي أشعلتها في الشقة, لن تنطفىء ثانية, وأنك لن تصعدي إلي, لأن البراءة الأولى, التي في قلبك, سفتها الريح, كما الرمال في الصحراء, وأن شيئاً ما تغير في ذاتك كما في ذاتي, وأنك لن تكوني في سريري, ولا أريد, أنا الآخر, أن تكوني في سريري, إلا في إطار من الحب المقدس, والطقس المقدس, الطقس الذي يجمع بيننا, كزوجين!.‏

بهتت غبريلا للحظة, تلألأت الغبطة في كل جوارحها, كانت تتوقع اعترافاً كهذا سواء بالحب, أو الرغبة في الزواج, هذا الرجل الذي أمامها, والذي قال عن نفسه إنه رجل غير عادي, تصرف, فعلاً, كرجل غير عادي: »إنه, كما وعد, لم يدخل من النافذة, دخل من الباب, ودون لف أو دوران, افصح عن حبه, عن نيته في الزواج, عن دخولي سريره كأميرة وليس كجارية!.‏

نهضت والدموع المستدرة بالفرح من عينيها, تنقطر, لؤلؤة لؤلؤة, على وجنتيها الموردتين, فتحت ذراعيها, احتوت حبيبها, قبلته في فمه, وخديه وعنقه وقالت:‏

- كم راودتني, حيالك, الهواجس, وكم ظلمتك, يا أعز الناس عندي, في قلبي وعقلي, ومشاعري كلها, وحتى بعد أن أهديتني الخاتم, قلت في نفسي: »إنه يحاول اغرائي!).‏

قال أيهم:‏

- كنت أحزر كل هذا, أتوقعه, لذلك نهضت عن حقيبة سفري, بعد نزولك من عندي, علقت ثيابي, وقلت في نفسي: »هذا بيتي!) وآمل أن يكون بيتنا المشترك, وبذلك نتجاوز محنتنا بوالدتك, وتتجاوز هي, مع الأيام محنتها بنا!.‏  /يتبع/

حنا مينة

المصدر: الثورة

 

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (10)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (9)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (8)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (7)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (6)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (5)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (4)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (3)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (2)

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة (1)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...