حنا مينة: النار بين أصابع امرأة 3

23-04-2007

حنا مينة: النار بين أصابع امرأة 3

الابن يحب امه اكثر والبنت تحب اباها اكثر, من هنا يتوجه الراهب, في صدق محبته, الى العذراء مريم, وتتوجه الراهبة, في صدق محبتها الى يسوع الناصري, او يتدربان على ذلك رويداً رويداً, تأسيساً على ذلك, كانت غبريّلا تحب والدها انداش تكاكش اكثر, دون ان تدري لماذا, لكنها في اللاشعور, عبرت عن ذلك موسيقياً, عبر تأليفها مقطوعة موسيقية على البيانو, موجهة نحو الذكر, من غير تحديد صفته, نسبته , قرابته, او اي شيء من هذا القبيل , ولاشك ان امها السيدة مارغو, مارست مثل هذا الاحساس نحو والدها في صباها, وربما بعده ايضا, لذلك كان عليها ان تسر لان ابنتها غبريّلا , في الطابق الاعلى , تمارس لعبة الجنس مع هذا الغريب الذي اسمه ايهم, فتتلقاها , وهي تعود خارجة من سريره , بترحاب غامر انما الذي حدث ان غبر يلا وجدت امها منطرحة على مقربة من الباب, داخل البيت, تسافر بعيدا مع ذكرياتها اذا ماكان سكرها , الذي شمت منه رائحة الخمرة, قد سمح لها بتداعي الذكريات على اي نحو.‏

تخطت البنت جسد الام, بحذر شديد, كيلا توقظها من سكرتها الملعونة, التي عرفت مثلها غبر يلا حين كان يهجرها عشيقها غابور مولينار , فالايقاظ من السكر, قبل الاوان, يسبب وجع الرأس بسبب الخمار, وهي لاتعرف, او لم تسمع , بأن الخمار يداوى بملعقة صغيرة من مسحوق الكزبراء اليابسة وبعد تخطي جسد الام, توجهت البنت الى داخل الصالون, حيث كانت على تربيزة قرب مقعد الام المعتاد, زجاجة نبيذ توكاي الفاخر فارغة وعلى السجادة تتمدد زجاجة نبيذ ريزلنغ, وهي فارغة ايضا, وهذا دليل لايدحض , على ان الام تعمدت السكر , مدفوعة بتوترها الشديد, ذي الوجهين: الاول هو الخوف على غبريلا من اذى هذا المعتوه الذي اسمه ايهم قمطور, والثاني غيرة الانثى من الاثنى, وهي تتصور ان ابنتها عارية في سرير ايهم المعتوه, ومع العته تكون الفحولة في اوج ازدهارها, وهذا ماانعكس سلبا على الام التي في غريزة الجنس عندها , لاتزال بقية من رغبة شهاء الى الرجل وقد قدرت البنت التي تعرف نوازع امها جيداً, ان هذه الام انصتت طويلا الى ايما حركة تصدر عن السرير الذي فوق , عساها تسمع الصرخات الصغيرة المعتادة.‏

حاولت غبر يلا ان تنام , تقلبت في السرير, اغمضت عينيها ابتهلت الى السيد المسيح ان يؤاتيها الرقاد, راحت تعد من الواحد الى المئة , كررت العد ثلاث مئة , اربع مئة , خمس مئة , لعنت الشيطان , تفت عليه, طردته من ذاتها, نهضت , ركعت امام ايقونة العذراء , توسلت اليها ان تساعدها في اخراج هذا الشيطان المسكونة به, خرجت الى الشرفة, عادت الى غرفة نومها , انتقلت منها الى غيرها, عبرت الصالون الى حيث تغط امها في سبات عميق بذلت كل جهدها لنسيان كلمات ايهم:(عندما ستحاولين النوم , لن يكون نومك هنيئا .. تعرفين لماذا ؟ لاني قدرك, وانت لست قدري, فتذكري انك قابلت اليوم رجلا غير عادي, وعندئذ لايأخذك الندم).‏

فكرت بهذه الكلمات التي لها طنين في اذنيها , خافت كثيراً هذا الطنين, سدت اذنيها كان الطنين داخلها , لافائدة , لامهرب , لاسبيل الى النسيان , فالوجه , بعينيه المكهربتين , يرتسم في الفضاء من حولها , وكلماته النافذة الواثقة , المتحدية , الغريبة, اقلقتها , نفذت كالسهم في كبدها , جرحت هذا الكبد, دون ان تقوى, حتى في كبرياء انوثتها ان تجمد وقع هذا السهم في السويداء من قلبها , استعادت , برغمها قول ايهم:(انا قدرك, وانت لست قدري) لماذا هو قدرها, ولماذا هي ليست قدره؟ هناك عنجهية في هذا القول هناك تهديد, هناك وعيد, هناك مدعى في انها ستكون له وانه لن يكون لها وفي هذا اذلال لكرامتها فلماذا تعمد اذلال كرامتها؟ هل لانه انسان غير عادي كما زعم وهي انسانة عادية في نظره كما يتصور ؟ لا انه مخطىء, وغد, مخبل, يجلس على حقيبته دون ان يفتحها , بقصد ان تكون له , ثم يفتحها , وهذا لن يكون , ستكتب في دفتر يومياتها انه لن يكون ابداً لن يكون ,من المستحيل ان يكون ونبوءته في انها ستكتب كل هذا في دفتر يومياتها لن تتحقق , اليوميات لن تكتب , لتذهب اليوميات الى الجحيم , من غير ان تتدنس بكلمات عن فاجر, متهتك , غامض, مأفون , وحش , قال لها:(قد تعودين فلاتجدينني لانني اكون قد غادرت هذا المنزل.. اذهبي, اغلقي الباب وراءك, ولن انهض عن هذه الحقيبة لوداعك , كما يليق بالرجل المهذب.. وهذه السكين التي في جيب معطفك قد تفيدك في تقشير البصل, لذلك لاتلقي بها من النافذة كما تتبجحين).‏

خطر لغبريلا ان تحمل السكين في يدها, لا في جيب معطفها, وتصعد اليه لتطعنه بلا رحمة هذه المرة, وسيراها داخلة والسكين في يمناها بلا مبالاة, سيهزأ منها , يفتح صدره, كما المرة السابقة قائلاً:(اطعني هنا , في الجهة اليسرى , حيث القلب مباشرة) وعندئذ تطعن, وليكن مايكون..تطعن؟ ولم لا اذا كان التصميم منضفراً؟‏

غبريلا امرأة , والف ويل للرجل من انتقام امرأة , شرط ان تكون هذه الامرأة راغبة , قادرة على الانتقام فعلا, لامترددة خائفة من البريق الومضي في عيني الرجل, خائفة منه وعليه, لسبب بسيط:انها في لعبة خبث اللاشعور, تريده , تتمنى ان تكون له, وهو , كما يبدو , يعرف, استقراء , انها فعلاً كذلك, ومن اجل هذا لايهتم , لايكترث, تتربع دائرة وقاحته , على افتراض انه وقح, وهذا لم يثبت بعد, والكلمات التي قالها تعبر عن وقاحة , لكنها تعبر ايضاً عن ضجر, ملل, قلق , لااحد يعرف سببه.. انه جدير بالشفقة, بالانعاش النفسي, بالتنفيس الكبتي, لابالقتل, حتى لو كانت غبريلا تنوي قتله فعلا, لامسرحيا.‏

فجأة رن جرس الباب, تابع الرنين بلاجواب, الضوء مشتعل, والبال لا يفتح, غبريلا, في مثل هذا الوقت من الليل, تكون , عادة , على موعد, وموعدها مع عشيقها غابور مولينار, بمعرفة امها, ورضى هذه الام, والسكوت الذي هو تواطؤ بينهما, لان للام عشيقها ايضاً, وبمعرفة البنت ورضاها, وفي هذا التقابل الحائز على موافقة الطرفين, يغدو التستر غير ذي اهمية , يصبح , في الاغتلام الشذوذي, احد المكاسب, فالام يلذ لها ان تسمع فحيح ابنتها في سرير الخنى, والبنت يطيب لها ان ترى من ثقب القفل, والضوء ينير الغرفة, كيف تتعاطى امها الجنس, والمهارات التي اكتسبتها من قراحتها في هذا المجال.‏

الليلة كان مزاج غبريلا سيئاً ,رافضا كل رؤى الشهوات الحمر, فالام مارغو منطرحة وراء الباب من الداخل لاتزال, والمعتوه ايهم قمطور يعتقد حقيبة السفر, كعلامة على انه قد يغادر هذا المنزل في اية لحظة, والسكين التي طعنتها تريح امرأة موتورة اضحت نافلة, والعشيق غابور مولينار لاينفك يضغط على جرس الباب كي يفتح له, والعشيقة غبريلا تمشي نحو الباب متثاقلة الخطى , دون ايما ترحيب معتاد بالعشيق الوله, وعلى شيء من قرف في طلته عليها, تستشعر تعبا جسديا, وتوعكا نفسيا, ينفيان ان تكون له , كما اعتادت ان تكون له, فالليلة زهد من زهد, وبكل شيء, وسيكون جسم غابور ثقيلا , خشبياً, لو تمدد فوقها بغية الافتراع.‏

سألته غبريلا وهي تفتح الباب:‏

ماذا جئت تفعل؟‏

اغلق غابور الباب وراءه , اندفع الى الصالون ليرى من هناك, ولما لم يجد احداً, ورأى جسد مارغو مرميا كشلو وراء الباب, بدت عليه دهشة يخالطها الاستغراب, حذر ان هناك امرا غير عادي, فاتجه الى غرفة نوم غبريلا يتشمم السرير كاحد كلاب البوليس المدربة , لم تكن ثمة رائحة عطر, او رائحة جنس, كل ماهنالك ان الغطاء منشمر, والفراش مشوش, والوسادة منحدرة عن موضعها , في احد طرفيها , مما يشي بان احدا كان نائما, غبريلا او سواها, ولانه ليس من عادة هذه الاخيرة ان تنام باكرا, وان تستيقظ بسرعة من نومها, راسمة تكشيرة تنم عن قلق تعانيه.‏

كان غابور اصلع الرأس, الا من شعر حول الفودين, ضخم الجثة, مشعر الصدر, له شارب ينحدر على طرفي الفم, ونظرة شريرة, على شجاعة خرقاء, يتسم بها الذين يؤجرون انفسهم كفتوات للكابريهات , او الحرس الشخصي لهذه العاهرة او تلك, والذين يشتغلون ليلا وينامون نهارا , وانه يعتاش بغير عرق جبينه, ولديه الاستعداد لجميع المغامرات الشائنة, ومن خريجي السجون في جرائم متعددة, متنوعة, وكل مايمتاز به فحولته, وسيطرته على المرأة التي تقع في شباكه ذات الفتحات الضيقة, التي لامهرب منها حتى لسمكة بالغة الصغر.‏

جلس في صدر الصالون, مربد الطلعة,حانق النظرات, مضطرب الحركات, يتوسل اي كلمة تصدر عن غبريلا لينفجر, الا ان غبريلا لزمت الصمت, محتقنة بدورها متقاعسة عن اداء مايعتبره واجبها, في تقديم النبيذ او الكونياك او الفودكا, مع الطعام الذي يؤكل معها, غير ابهة به, او راغبة في اثارته, عسى ان يهدأ وينصرف بسلام.‏

قال بصوت اجش من الغضب :‏

ماذا بها امك, ولماذا تنطرح كقتيل عند الباب؟‏

لانها شربت نبيذاً اكثر من المعتاد‏

واين كنت انت وهي تشرب؟‏

كنت نائمة‏

مع من ؟‏

مع نفسي‏

انت لاتنامين مع نفسك ياعاهرة!‏

انا لست عاهرة, وانت لست زوجي لتحاسبني.‏

انا عشيقك, والعشيق اعلى مرتبة من الزوج‏

الزوج هو السند, وهو الاغلى على قلب زوجته.‏

وهل انت زوجة؟‏

زوجة وبرغمك, فاحترم البيت الذي أنت فيه او اخرج منه اذا لم تحترمه.‏

تطردينني؟‏

سمعت ماقلته.‏

رفس الطربيزة التي امامه, فك قشاط بنطاله, صرخ مرتعدا من غضب‏

هيا الى الفراش اولا, وبعد ذلك ادي واجبك على الشكل الملائم والمعتاد, والا قتلتك كما تقتل الكلبة.‏

قالت غبريلا هادئة:‏

زمن الفراش ولى , وانت لن تستطيع قتلي, فهناك بوليس وقانون, وهناك اظافري الحادة هذه.. فاحذر مغبة طيشك, ولا جعلتك تندم.‏

رد بهدوء مماثل, ينطوي على استخفاف:‏

قلت لك قومي الى الفراش, يعني قومي الى الفراش, دون مكابرة او استفزاز, انت بحاجة الى الابتراد, الى الترويض, كي يرجع عقلك الى رأسك.‏

صرخت غبريلا بأقوى ماتستطيع:‏

اخرج من هذا البيت, اذهب الى العاهرات اللواتي تحرسهن مقابل المال ايها القواد, والا لممت عليك الجيران, ومعهم رجال الامن, انني اقصد ما اقول تماما, ولدي ما ادافع به عن نفسي..‏

تراكض الجيران على الصراخ, كان بينهم بعض الرجال, وكانت غبريلا تنتضي سكينا, وفجأة دخل رجل غريب, تتبدى القوة والبأس على محياه, تقدم بخطوات ثابتة, جريئة, واثقة من غابور مولينار وقال له:‏

اعطني هذا القشاط وتفضل بالخروج سالماً, انا عربي, اسكن الطابق الاعلى, وهذه جارتي, ومن عادة العرب حماية جيرانهم , وانا اكلمك بالمجرية.‏

لا باليونانية أو الأوردية, فكن عاملاً, روْ القشاط الى موضعه, ولا تلجأ الى أي حيلة أخرى, لأنني صاحب تجارب, وخبرة, بكل اصناف ألاعيب الذين من أمثالك, فاذا لم تصدق, حاول أن ترفع يدك علي,أو على غبريلا, أو أمها المسكينة, التي قطعت عليها نومها, فهبت مذعورة وهي تصرخ خوفاً على ابنتها ونفسها, وماذا كانت النتيجة؟ تقاطر الجيران لمعرفة ما يجري, وبينهم رجال أقوياء, وأنا, نزيل هذا البيت أشكرهم على نخوتهم, وأتكفل بك وحدي.‏

قال غابور مولينار:‏

-انت , يا سيد, تتدخل فيما لا يعنيك, فإذا لم تنسحب الى المكان الذي جئت منه, فكان لي معك قول آخر.‏

رد أيهم قمطور:‏

- وما هذا القول الآخر الذي تهددني به؟ قوة ذراعك؟ سكينك؟ مسدسك؟ كل هذا لا ينفع, فإذا لم تصدق جرب تر.‏

رفع غابور القشاط وهوى به على رأس أيهم, فكانت الضربة أليمة, لكن أيهم أمسك بالقشاط, في الضربة الثانية, وانتزعه بقوة, دون أن يضرب غابور به, بل ألقاه تحت أقدام الحاضرين قائلاً:‏

- والآن؟ اشهر سكينك أو مسدسك؟‏

- انا لا أحمل سلاحاً.. حين يأتي المرء الى منزله لا يحمل سلاحاً, هذا منزلي, وغبريلا عشيقتي, فما دخلك أنت؟ قل لي إنك العشيق الجديد لهذه الفاسقة غبريلا, أرفع لك يدي بالسلام واخرج.‏

-غبريلا ليست عشيقتي, لأنني استأجرت الشقة التي فوق هذا اليوم ظهراً, ولم أفتح حقيبة السفر بل أجلس عليها, معتزماً الرحيل عن هذا البيت في أي لحظة.. لكنك أنت, وسواء غادرت أم أقمت, لن تدخل هذا البيت بعد الآن.. اجلس, فكر على مهل, اعتذر واخرج..‏

-سأفعل ما دام الامر كذلك, لكنني سأعود.. إنني احب غبريلا, وهي عشيقتي وسأتزوجها ايضاً.. فماذا بقي؟‏

صاح صوت من على العتبة:‏

-الذي بقي أن ترفع يديك الى أعلى أنت هنا ونحن نبحث عليك.. حظ طيب طبيب إذن يا غابور مولينار, يا قاتل العاهرة جوجا التي كنت تمثل دور حارسها, وأنت تبتزها في الحقيقة.. ارفع يديك والا اطلقنا عليك النار.. أنا ضابط الأمن الجنائي زولتان افينار , الذي يتعقبك منذ مدة, بينما أنت هنا, شكراً للرجل المجهول الذي هتف إلينا أن في هذا البيت شجاراً مسلحاً.. لا تحاول الهرب من النافذة, البيت مطوّق برجال الامن!‏

أجاب غابور بوقاحة:‏

هذا بيتي..‏

ردت الأم مارغو:‏

فشرت.. أنت تفرض نفسك على هذا البيت بالقوة.‏

أنت قوادة وابنتك عاهرة, ولن أرد عليكما, لكنني أطلب إبراز أمر النيابة العامة بالقبض علي.‏

اقترب منه ضابط الأمن الجنائي زولتان وقال:‏

هذا هو أمر النيابة يا غابور؟ فماذا بقي؟ الذي بقي أن نضع القيد الحديدي في يدك دون مقاومة..‏

قال غابور:‏

ضعوه كيفما شئتم.. لكني لم أقتل جوجا, وسأثبت هذا للنيابة..‏

عندما تثبت ذلك سنطلق سراحك..‏

لي طلب آخر, هذا الرجل العربي اعتدى علي.‏

صاح الحاضرون:‏

هذا كذب, ونحن الشهود, سنذهب الى المخفر, ونفضح ضربك له, دون أن يرد لك الضربة بمثلها, ونحن نعجب لذلك.‏

بعد وضع القيد في يدي غابور, طلب الضابط زولتان من أيهم أن يأتي معهم الى المخفر, لإظهار الحقيقة ليس إلا, فتطوع بعض الرجال من الحاضرين وذهبوا هم أيضاً, ولم يطل التحقيق مع أيهم, ولم تكن ثمة حاجة للتحقيق أصلاً, ومع ذلك نظم محضر, حسب الأصول, ثم كان الاعتذار واطلاق السراح, وفي شقة غبريلا وأمها تم التعارف وشرب القهوة, وعاد أيهم الى شقته لاليجلس على حقيبة السفر, بل ليفتحها, ويعلق ثيابه في الخزانة, ويستسلم تعبا الى النوم.‏

السماء لا تتدلى منها حقائب فيها الأعاجيب السبع, وسور الصين العظيم بعيد جداً, وكذلك برج بابل, ومع ذلك تحدث, في عام, أو عقد, أو قرن, أعجوبة ما, والسيدة مارغو التي زايلها خمار السكر, ركعت أمام ايقونة العذراء مريم,مضمومة الكتفين على الطريقة البوذية, مغمضة العينين ورعاً, متمتمة بصلاتها المعتادة, ومطلعها( السلام عليك يا مريم, يا والدة الإله) وختمتها, بعد الدعاء وطلب المغفرة, بقولها( نجنا من الشرير, آمين) ثم استدارت نحو ابنتها غبريلا قائلة:‏

اليوم, ليلاً, حدثت أعجوبة.. شكراً لله أن الدماء لم تسل, وأن هذا البيت لم يتدنس, ولم تهتز أركانه, وأننا نجونا, أنت وأنا, بشفاعة القديس بولص, جزيل الاحترام.‏

اضافت:‏

خفت عليك, يا صغيرتي مرتين : الأولى انك رجعت سالمة من الطابق الفوقي دون ان يمسك المستأجر الجديد بأذى, والثانية أنهم قبضوا في الوقت المناسب على هذا المجرم غابور مولينار...‏

لزمت غبريلا الصمت, فتابعت الأم:‏

كنت أكرهه, المجرم غابور هذا, وكنت أخافه.. مجرد رؤيته كان يجعلني أرتعد, كما لو أن برداء أصابتني, لكن ماذا بيدي أن أفعل, بعد أن التقطت هذا الأفاق من الشارع؟‏

واصلت غبريلا صمتها, غير معنية بما تقوله أمها, وواصلت الأم غابور كلامها من غير أن تنتبه الى أن ابنتها في وادٍ, غير الذي هي فيه, وأن هراءها يدعو الى السخرية والإشفاق, وحديثها عن أعاجيب السماء مستهلك, لأنها ترى, حتى في الحدث التافه, أعجوبة ما, وهذا لا يمنعها من السكر, ومن التقاط عشيق من الشارع, هي الأخرى, وأن التستر المتبادل, المتقابل, أصبح لعبة فاوست الذي تحدث عنه غوته, والمهزلة التي تتابع في هذا البيت فصولاً, آن لها ان تتوقف, بعد الذي جرى هذه الليلة, وهي غبريلا من سيوقفها بطريقة ما, حتى لا تمعن أمها من السكر, والغياب عن الوعي, والثرثرة التي لا تنقطع, والتنصت عليها بينما تكون في السرير مع غابور الذي كان عشيقها, بالرضى بدءاً, وبالعنف بعد البدء, وبالتهديد الدائم بالقتل, والابتزاز الذي ليس له حد!‏

وأمام صمت غبريلا, واصرارها عليه, توقفت السيدة مارغو عن الكلام, ريثما تعطي الحبوب التي تتناولها تأثيرها المطلوب, وتعد فنجانين من القهوة,ويتبدد, تدريجياً, خوف صغيرتها, من هرب غابور, والعودة اليها للانتقام منها قتلاً, الأمر الذي يتطلب إغلاق الباب والنوافذ باحكام, واقتناء مسدس للدفاع عن النفس عند الضرورة.‏

كل هذه الهواجس, والإرهاصات بالشر المقبل, وكيفية الاحتياط لها, أفضت بها السيدة مارغو الى صغيرتها غبريلا, وهما تشربان القهوة, ولم تنس, من باب الانصاف, أن تذكر غابو مولينار, الذي كان شجاعاً وفحلاً, وكان يناديها بالاسم المحبب: ماما!‏

تفرست فيها غبريلا باحتقار, وهذا لم تكن تفعله قبلاً, وسألتها بنبرة حنق:‏

ما أدراك أن هذا المجرم غابور كان فحلاً؟ هل كنت تتنصتين علينا, أم تريننا من ثقب الباب؟‏

أوه صغيرتي أنا لم أفعل هذا ولا ذاك, إنما كنت أستنتج رضاك عن فحولته من إشراق وجهك بعد مغادرة السرير.‏

هذا غير صحيح.. كنت ترهفين السمع وأنت تنظرين إلينا من ثقب الباب, والدليل على ذلك أنك أخفيت مفتاح الغرفة.. هذا سلوك شائن, لا يليق بأم.‏

-الأم تغتبط حين تكون ابنتها سعيدة.‏

-أنا لم أكن سعيدة, لا به ولا بفحولته ..‏

- المرأة تلذ بفحولة الرجل دائماً..أنا مثلاً..‏

قاطعتها بجفاء:‏

-أنت كنت تلذين مع هذا السافل تيودور, أكثر مما تلذين مع زوجك الذي هو أبي, ولكن أليس من العيب أن يجري حديث بين الأم وابنتها حول موضوع كهذا؟‏

قالت مارغو:‏

حسب علمي أن الأم وابنتها تتصارحان من حين الى حين, كي تفيد البنت من خبرة الأم, فلا تقع في الخطأ الذي وقعت فيه أمها.. إني ام صالحة, أصوم وأصلي, وأدعو لك بالخير.‏

- وأنا أرفض دعاءك ولو بالخير.‏

- هذا جحود يا غبريلا, ما كنت أتوقعه منك.. أما بالنسبة الي فانني معذورة.. هجرني والدك بعد أن ولدت بقليل, فماذا كان علي أن أفعل وأنا في الخامسة والثلاثين من عمري, إني في عز نضوجي الأنثوي!؟ أتزوج؟ هذا غير ممكن الكثلكة وأنت تعلمين!‏

الذي أعلمه أن والدي كان غير سعيد معك... لذلك هجرك.‏

وماذا فعل هو في المقابل؟ اتخذ له عشيقة, وربما عشيقات... هل هذا من العدل؟‏

صاحت غبريلا يامها:‏

الى أين تريدين الوصول, ونحن في الفجر, بعد كل الذي لقيته من ذلك المجرم غابور مولينار؟‏

انبرت الأم:‏

الى الاطمئنان بأنك لن تقعي في مصيدة رجل أكثر إجراماً, يسكن فوقنا!‏

الذي يسكن فوقنا ليس مجرماً‏

المعتوه مثله مجرم, لكننا لم نكتشف اجرامه بعد... ألا يزال جالساً فوق حقيبة سفره, دون أن يتزحزح عنها, ودون أن يشعل الضوء؟‏

إنه حر فيما يفعل, هذا رأيي, وهو شهم, وأنت رأيت شهامته عندما نزل الدرج راكضاً, ليوقف المجرم غابور عند حده, ويمنح أذاه عنا.‏

هو فعل ذلك؟ هذا عجيب!‏

نعم هو الذي فعل ذلك, وهو الذي قال لغابور: (أنا عربي, والعربي يرد الاذى عن جاره!).‏

أنا لم أسمع حرفاً مما تقولين.‏

كنت نائمة, ولما أفقت كنت مخمورة, بينما كان هو يتلقى ضربة موجعة من قشاط مولينار, ثم يمسك, في الضربة الثانية, بالقشاط وينتزعه, متحديا المجرم أن يشهر سلاحه علي.‏

وبعد ذلك؟‏

الذي بعد ذلك تعرفينه...‏

/يتبع/‏

حنا مينة

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...