داعش والاستخبارات الفرنسية

16-01-2015

داعش والاستخبارات الفرنسية

في تشرين الأول أكتوبر من العام ٢٠١١ زارت لجنة تحقيق فرنسية مستقلة سورية,للاطلاع على حقيقة ما يحصل على أراضيها. ضم الوفد الصحفي الشهير ريشار لابفيير ومدير مركز الدراسات الأمنية التابع للقطاع الخاص الباحث المعروف"أريك دونوسيه" ورافق الرجلان الوزيرة الجزائرية السابقة، والمعروفة في فرنسا على نطاق واسع بعملها الإنساني، السيدة سعيدة بن حبيليس. شارك اللجنة في تحليل المعطيات التي حصلت عليها من جولاتها الميدانية في سورية الخبير في شؤون الشرق وسورية خصوصاً، الصحفي العربي الأشهر بين الفرنسيين الاستاذ ماجد نعمة.

خلال أسبوعين قضتهما لجنة التحقيق في سورية, زار أعضاؤها معظم المحافظات الملتهبة, والتقوا معارضين وموالين, وشخصيات دينية وأهلية من كل الأطراف والفئات.

بعد شهر من عودة اللجنة إلى باريس عقدت مؤتمراً صحفياً في إحدى القاعات العامة التابعة لبلدية المدينة, وقدّمت خلاله للإعلام وللباحثين والخبراء تقريراً مفصلاً موثقاً بالوقائع والصور والاعترافات والاقوال والتصريحات التي تدعم الخلاصات التي توصلت إليها اللجنة.

خلاصة القول أن الجماعة الصغيرة عددياً تلك أنجزت ما يمكن اعتباره أول فضيحة للسياسة الفرنسية الرسمية في سورية، حيث أرسلت تلك الخلاصة إلى معظم أعضاء البرلمان والحكومة, وإلى الرئاسة في فرنسا، وإلى أبرز الصحف والمجلات والفضائيات. لكنها لم تحظَ بما تستحق من اهتمام ونقاش, لا بل جرى التعتيم عليها, وأحبط البرلمانيون المناصرون للرئيس مقترحاً لمناقشتها, ولمناقشة من أنجزوها,لتقييم السياسة الفرنسية تجاه الإرهاب في سورية.

عمل اللجنة لم يعجب الرئيس الفرنسي ولا من جاء من بعده, لأنها توصّلت ميدانيا إلى حقائق تخفيها السلطات الفرنسية عن الشعب, وهي " أن البذور التي نبتت في سورية عبر الثورة ليست سوى المقدمة التي توازي الاحتلال الأميركي للعراق,أو الصعود الميليشاوي للقاعدة في ليبيا" .

اللجنة نفسها كانت قد زارت ليبيا وتونس قبل زيارتها لسورية.

اللجنة المستقلة تلك وصلت إلى دمشق على أمل اللقاء بمعارضين سلميين في المدن والأرياف السورية، فكان أن تعرضت مناطق عديدة لهجمات إرهابية أثناء وجودهم فيها. في تلك المرحلة كانت السلطة السورية ترى أن من مصلحتها عدم الإعلان عنأعمال العنف الطائفي التي كان المتظاهرون والمعارضون المتطرفون يقومون بها. زارت اللجنة حمص لتفحص الكرنفال السلمي, الذي كانت قنوات فرنسا التلفزيونية وإعلامها يتحدث عنه، لكنهم ما وجدوا سوى كتائب مسلحة قتلت مسيحيين ودمرت كنائسهم,وقتلت مسلمين سنة لأنهم يخالفونهم الرأي بما يخص التغيير ووسائله, وقتلت مسلمين علويين, وخطفت نساءً ورجالاً منهم لتهجيرهم من مدن مختلطة, ولترهيبهم كي يهجروا بيوتهم في أحياء مختلطة أو في مدن يتواجد فيها تنوع ديني.

كان كل ذلك يحصل وسط تعتيم شامل على جرائم الإرهابيين، حتى من قبل السلطات السورية التي لم تكن تريد تحويل الصراع إلى عمليات تذابح طائفي.

زارت اللجنة قيادات معارضة تخشى زيارة شوارع المناطق التي للمتظاهرين "السلميين" نفوذ فيها، وحين سألت عن السبب قيل لهم أن "السلفيين" يقتلون المعارضين العلمانيين ويستتيبونهم.

لم ترضَ السلطات الفرنسية أن تأخذ بتوصيات لجنة تحدثت عن " النظام الاستبدادي المطلوب تغييره لمصلحة سلطة تشاركية تصالحية ديمقراطية ترضي كل فئات المجتمع السوري"
لم يُرضِ التقرير سلطات دمشق لأنه وصفها" بالاستبدادية التي تمنع حرية التعبير عن الرأي المعارض"ولم يُرضِ التقرير الرئاسة الفرنسية لأنه وصف المتظاهرين السلميين"بالقلّة الغير فاعلة, والعالقة بين سندان السلطة الرسمية وبين سلطة المسلحين المتطرفين الأكثر عدداً والأكثر شعبية والأوسع انتشاراً وتمويلاً وتنظيما".

غضبت الرئاسة الفرنسية لأن اللجنة تلك عادت بصور فيديو موثقة لما قاله قادة المسيحيين الأعلى, والأكثر تمثيلاً دينياً ومدنياً في سورية, عن إرهاب يخشون منه,وعن تهجيرهم في حينه من أحياء كاملة, وعن حملات تهديد وخطف تنفّذ ضدهم في القصير وحمص وحماة, وفي أحياء وقرى قريبة من حلب ودمشق.كما غضب وزير خارجيتها من طرح اللجنة الذي يرى "أن مستقبل سورية مع المعارضة سيكون مشابهاً لمصير الصومال أو افغانستان أو العراق, لأن البديل ليس سوى تنظيمات الإرهاب الوهابي"

رفضت السلطات الفرنسية التعاون,أو حتى القبول بنقاش موضوعي يتعلق بالمصلحة الفرنسية العليا مع اللجنة المستقلة تلك.

لكن أكثر ما أغضب السلطات الفرنسية, وجعلها ترى في أعضاء اللجنة أعداء لها هو:
* الإرهاب هو خصم الدولة السورية التي تعاني من نقائص بينها غياب الحريات, وغياب الديمقراطية, والتعامل العنيف في أحيان كثيرة مع متظاهرين سلميين, يتحشد في وسطهم مسلحون متطرفون باسم حماية التظاهرة, لكن الواقع هو أن المسلحين يستغلون المتظاهرين لافتعال معركة مع الأمنيين لإيقاع قتلى مدنيين بشكل عمد.

* فرنسا والدول التي تدعم الثوار إنما تدعم البذور الأولى لتنظيم القاعدة في سورية, فأغلب الجماعات المؤيدة للثورة لا تخفي ميولها المتشددة, ولا ترى في تنظيم القاعدة عدواً بل حليفاً مرغوباً بحضوره.

كان من المفترض أن يرافق اللجنة تلك رئيس سابق للمخابرات الفرنسية, لكن الرجل تراجع في المرحلة الأخيرة من التحضيرات, واتصل بمنسق الزيارة معتذراً ومبرراً تراجعه قائلاً:
" الإعلام الرسمي والخاص كما السلطة في فرنسا سيحرقون سمعتي إن قلت الحقيقة التي أعرفها عن سورية"

لم يكن هذا التقرير المنبوذ من قبل السلطات الفرنسية الإشارة الوحيدة إلى ما سيحصل في المستقبل, بسبب دعم السلطة الفرنسية للإرهاب في سورية.

بحسب تقريرين نشرا في مجلة "أفريك آسي" الفرنسية بفارق يقارب العام، فإن السلطات الفرنسية عانت من مشاكل داخلية في أجهزتها الأمنية، ففي الوقت الذي كانت الأجهزة المحترفة, والضباط المختصين بمكافحة الإرهاب يقاتلون لمنع السلطة في بلادهم من تقديم العون للإرهابيين في سورية ، كان غيرهم من المسيسين والتابعين لأصحاب النفوذ السياسي يتعاملون مع الوضع السوري وفقاً لمصلحة الرئاسة الفرنسية الراغبة في إرضاء الأميركيين بغباء تسبب في تعريض مصالح فرنسا وأمن مواطنيها لمخاطر العمليات الإرهابية التي شاهدنا نماذج مأساوية لها في فرنسا قبل أيام.

الكلام الذي نشرته المجلة في تقريرين حظيا بانتشار واسع في فرنسا, نشر آخرهما في عدد " أفريك اسي" ليوم الثاني من شهر تموز – يوليو ٢٠١٣ ويقول التقرير الذي كتبه الباحث الاستقصائي هنري سيليفان:

" نجت باريس من فاجعة كانت ستقع في مترو المدينة,على يد إرهابيين من جماعات الإرهاب. فقد كان الإرهابيون المتطرفون قد جهزوا لعمليات متوازية في مترو باريس, وفي مواقع فرنسية أخرى, لولا أن حذرتهم الاستخبارات السورية بعدما حصلت على معلومات مفصلة عن العمليات الإرهابية تلك من معتقل سقط بيد أحد قادتها أثناء عملية اعتقالات واسعة لخلايا متطرفة في العاصمة السورية دمشق"

يبدو في ذلك الوقت كما الآن أن الارهابيين استفادوا من التسهيلات الممنوحة لهم لإرسال مقاتلين إلى سورية, كي يخططوا لعملياتهم في فرنسا في منتصف عام ٢٠١٢.

وكشف تقرير المجلة الفرنسية أن "السلطات السورية,وعلى الرغم من العمل الفرنسي الأمني الساعي لإسقاطها ومحاربتها,إلا أنها قدمت نتائج تحقيقاتها مع قيادي إرهابي مسؤول عن الخلايا في أوروبا, وعن المساعدة في إقامة بنية تحتية متطورة للإرهاب في دمشق".

وقال التقرير الفرنسي ذاك "إن الضباط الفرنسيين المكلفين بمكافحة الإرهاب يعيشون أياماً عصيبة, بعد قيام جهات أمنية فرنسية مكلفة بمساعدة المعارضين السوريين, بتقديم أسلحة ومتفجرات, ووسائل الاتصال المتطورة إلى تنظيمات سورية لها علاقات قوية مع تنظيم القاعدة"

واعتبر قيادي أمني فرنسي في حديث خاص مع المجلة الفرنسية "أن المخابرات الفرنسية تتصرف كمن يطلق النار على نفسه، فبدلاً من العودة عن خطأ دعم الإرهاب, قمنا بمكافأة الرجل الذي ساعد على كشف الهجمات المخطط لها من قبل الإرهابيين في باريس عبر وضع اسمه على لائحة العقوبات الفرنسية ثم الأوروبية".

التقرير الفرنسي كشف"أن العقيد السوري حافظ مخلوف هو من كشف العمليات, كونه في ذلك الوقت كان من المسؤولين عن أمن العاصمة السورية" وقالت المجلة الفرنسية أيضاًأنه العقيد مخلوف " كان قد تلقى وساماً معنوياً وتكريماً خطياً ، من شركة (Sanofi Aventis) لصناعة الأدوية في العام ٢٠٠٩، بمعرفة السلطة الفرنسية وبموافقتها، حيث جرى تكريمه بكتاب يعترف بفضله الشخصي, وبفضل الاستخبارات السورية التي ينتمي إليها, بعد كشفه أكبر وأخطر شبكة لصناعة وترويج الأدوية المعالجة للسرطان عند الأطفال, والتي تنتجها الشركة في فرنسا . عمل أدى في حينه إلى إنقاذ حياة مئات الأطفال الفرنسيين من الموت بالأدوية المزورة,كما أنقذ حياة آلاف المرضى في الشرق العربي وإيران وتركيا.

كافأت فرنسا الرجل الذي وقف خلف كشف الخلايا الإرهابية التي كانت تخطط لتفجير مترو باريس بأن وضعته على لوائح العقوبات الأوروبية، الأمر الذي أفقد قادة فرق مكافحة الإرهاب الفرنسية صوابهم, فأعلنوا في تصريحات منسوبة لهم عن سخطهم ورفضهم لتعاون سلطات بلادهم مع المعارضين السوريين القريبين من القاعدة.

تقرير هنري ساليفان في "مجلة أفريك اسي" كشف أن الاستخبارات الفرنسية ليست على رأي واحد في الموضوع المتعلق بالإرهاب في سورية، والمحترفين الأمنيين في فرنسا, العاملين في خدمة هولاند, ومن قبله ساركوزي, كانوا قد رفعوا الصوت بوجه الرئيسين مطالبين بتبديل السياسات الفرنسية.

التحذيرات التي أطلقها الأمنيون الفرنسيون عبر المجلة الفرنسية تلك في تموز ٢٠١٣ لم تمنع سقوط ضحايا فرنسيين برصاص الإرهابيين, الذين تغاضت فرنسا عن محاربتهم فوق أراضيها, على وعد من قطر والسعودية بتوجيه قواهم إلى محاربة الأسد في سورية, وإلى محاربة النفوذ الإيراني في العراق. لكنه تقرير يمكن أن يقدم لأي جهة تبحث عمن هو المسؤول عن خسائر بالأرواح تعرضت لها فرنسا مؤخراً. التقرير الفرنسي ذاك يثبت بالدليل, ومنذ عامين أن الرئاسة الفرنسية لم تستمع إلى تحذيرات الأمنيين, لا بل إن وزير خارجية فرنسا قال في أحد مؤتمرات دعم المعارضة السورية " إن جبهة النصرة تقوم بعمل جيد ضد الأسد".

الإرهاب شبّ عن الطوق, وضرب في باريس, وربما سيضرب في عواصم أخرى، فهل دعمت فرنسا في سورية رجال الإرهاب الوهابي الذي يعتدي حلفاؤهم الفرنسيين على مواطنيها ؟

وهل وصلت أسلحة سلمتها فرنسا إلى الإرهابيين في سورية إلى يد رفقائهم على الأراضي الفرنسية؟
محضر لقاء يتضمن اعترافات فرنسية بدعم الإرهاب أحد كبار الأمنيين في الجزائر زار فرنسا لأسباب خاصة, لكنه التقى بنظرائه من مسؤولي الاستخبارات الفرنسية المكلفين بمهمات شرق أوسطية وفرنسية ، وإليكم مختصر عما دار بين الضابط العربي والضباط الفرنسيين الذين التقى بكل منهم على انفراد.

حصلت زيارة الضابط الجزائري إلى فرنسا في صيف العام ٢٠١٣، حيث التقى على التوالي بـ :
* فنسنت دوريفيليه: الذي كان في حينه (وربما لا يزال) مسؤولاً عن نشاط المخابرات الفرنسية في الشرق الأوسط
* انياس فافييه: مدير مركز الدراسات الإستراتيجية في وزارة الدفاع الفرنسية.
خلاصة كلام المسؤولين الأمنيين الفرنسيين هو التالي:
* الفرنسيون أخذوا قراراً لا رجعة فيه, بتزويد المسلحين السوريين بما يحتاجون إليه من أشدّ الأسلحة تطوراً في الترسانة الفرنسية, بغض النظر عما يمكن أن يقوله أو يتصرف به الأميركيون إعلامياً حول هذا الموضوع. (رفض علني وتنفيذ فعلي مدروس(

الجزائري حذر الفرنسيين "من انقلاب الإرهاب السوري على فرنسا, كما حصل مع بن لادن والأميركيين، لأن لا فرق فكرياً بين المعارضة السورية المتطرفة دينياً وتنظيم القاعدة، كما أن أسلحتكم تصل إلى تنظيمي النصرة والدولة الإسلامية, وإلى جماعات متماثلة مع القاعدة"

فكان جواب المسؤولين الفرنسين:
" ليس مهماًأين يصل السلاح في سورية ما دام سيستخدم لتقويض قدرات القوات الموالية للأسد، وما دام سيمنح المعارضة المعتدلة فرصة السيطرة على المزيد من الأراضي في سورية, وما دام سيساهم في عمل إنساني, هو حماية المدنيين في مناطق المعارضة من الجرائم التي قد يرتكبها الأسد إذا استطاع إنزال الهزيمة بقوى المعارضة المسلحة"

الفرنسيون أضافوا:" نحن نحرص على أن يصل الدعم الفرنسي إلى أيدي المعتدلين,وإلى القوى التي لا تعتنق الأفكار المتطرفة، لكن لو حصل ووصل إلى أيدي المتطرفين بالخطأ فإنه سيكون مفيداً في تقويض سلطات بشار الأسد"

سأل الجزائري محاوريه: "هل تصدقون أن في سورية تنظيمات معتدلة يمكنها الوقوف بوجه التنظيمات المتطرفة" ؟
لم تذكر التسريبات من ذاك الضابط الجزائري الذي تقاعد قبل أسابيع ما إذا كان محاوراه الفرنسيان قد قلبا شفّتهما السفلى, وأصدرا ذاك الصوت الشهير عند المتحدثين بالفرنسية في عرينها، والذي يعني " لا آبه"
الضابط الجزائري الذي تحدث عن دور السعودية وقطر في تمكين الإرهابيين من حكم تونس وليبيا, وسعيهم لتقويض الأمن والسلام في الجزائر عبر دعم التنظيمات المتطرفة، والذي ذكّر الفرنسيين " بسابقة التسليح القطري للإرهابيين في مالي خاصة وفي أفريقيا عامة"، يقول عن اللقاء ذاك بأنه " كان دليلاً على تورط فرنسا فيما لا تحمد عقباه, حتى على الأمن الجزائري نفسه".

أثبتت التجربة الباريسية المؤلمة والعنيفة أن وجهة نظر الرئاسة الفرنسية كان غبية في عدم استجابتها لكلام المخلصين لمصلحة فرنسا في الاستخبارات الفرنسية.

لم تكن تمنيات السياسة الفرنسية صحيحة، فالأسد لم يسقط, والإرهاب ارتدّ عليهم وضرب في عقر دارهم.



خضر عواركي: الديار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...