طباعة الأعمال الكاملة لأنسي الحاج في القاهرة

10-04-2007

طباعة الأعمال الكاملة لأنسي الحاج في القاهرة

ومَنْ ذا بمصرَ من الشعراءِ/ ولا يحتمون بأُنسي الحاج؟ أما الشعراءُ المصريون الذين أقصد، فالجدد التسعينيون وما قبلهم وصولا إلى المجددين من جيل السبعينات. مع الاعتذار طبعاً للمتنبي مرتين. مرةً لأني غيّرتُ عَجُزَ بيته الشعري الذي يشاكسُ مصر، وبعضَ صدرِه، ومرةً لأني توسّلتُ ببيته هذا، وهو من هو من فحول شعراء العمود، لأُبدي امتنانَ الكثير من شعراء مصر لكبير "الملاعين" ممن شقّوا طريقا شعريا مغايرا لطريق أبي الطيب المتنبي. أقول "مغايراً" ولا أقول "مضاداً". أولا لأن التراث لا يُضاد، وثانيا لأن كليهما فنّ، والفنّ لا يضادّ الفنّ، قياسا على "الحقّ لا يضادّ الحقّ، بحسب ابن رشد. وكيف لا نعتذر للمتنبي وقد هجرْنا هيكله ورفعنا عصا العصيان في وجه ديانته كافرين بها واخترنا السيرَ في ركْب عصبة من الثوّار المارقين العاصين المنشقّين عن تراث السلف الصالح من رواد جماعة "شعر"، مثل يوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس والماغوط وشوقي أبي شقرا وغيرهم؟ ألم يقل فيه أنطوان معلوف: "صحيحٌ أن أنسي الحاج نافخٌ في مزمار نبيّ ولكنّه ثائرٌ، وصحيحٌ أنه مترسل للحرية، لكنه التزم الكهانةَ في هيكل الشعر الحديث، وصحيح أنه بريءٌ، لكنه ممّن سفكوا دمَ الشعر التقليديّ ولم يغسلْ يديه من دم هذا الشعر الذي قد لا يكون صدّيقاً". أما نحن، شعراء مصر الجدد، فأقلّ حظاً من شعراء لبنان وسوريا، لأننا لم ننشأ في حضن آباء شعريين كهؤلاء الملاعين الثوار ليباركوا جنوننا الخاص، بل أن آباءنا من الشعراء المصريين سلفيو النزعة حتى النخاع. حتى هؤلاء الذين ثاروا على "القديم جداً" في وقت ما، غدوا الآن حماة القديم من دون "جدا". ومن ثم لن يعترفوا بنا كشعراء إلا بعد أن نغدو قرب النهايات ربما. ولهذا قلتُ ما قلتُ في عَجزِ بيت الشعر الذي استهللتُ به المقال. فمَنْ مِنْ شعراء مصر الجدد لم يحتمِ بأنسي الحاج، وبيانه التأسيسيّ عام 1960، من البطش السلفيّ الذي يمارسه ضدنا شعراؤنا الرواد الذين لا يزالون يتعبدون في هيكل العمود الفراهيدي أو في زاوية تفعيلاته الخماسية والسباعية، في أفضل الحالات!
أما المناسبةُ فإهداءُ الشاعر اللبناني الكبير أنسي الحاج، أحد حماتنا، الى مصر أعماله الكاملة، وصدورها عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في ثلاثة مجلدات، ربتْ على الألف صفحة. أنسي الحاج أشهرُ من أن نقدم نبذةً عنه، سواء الى القارئ المصري أم العربي، لكننا نفعل لكي نشير إلى البيئة التي احتضنته صغيرا فجعلتْ منه أحد كبار المتمردين الذين سيشقّون عصا الطاعة في وجه السلفية والتصنيم ليغدو من كبار الثائرين، في هدوءٍ، ضد هؤلاء المرتعبين المتطيّرين من المستقبل، المحتمين بأمن الماضي وجاهزيته. ولد أنسي الحاج عام 1937 لأبوين مثقفين، هو ابن الصحافي والأديب والمترجم لويس الحاج، وتعلم في مدرسة الليسيه الفرنسية في لبنان. بدأ بنشر أعماله وهو بعد صبيٌّ في المرحلة الثانوية، ثم دخل عالم الصحافة محترفًا قبل أن يتم العشرين من عمره فعمل في جريدة "الحياة" ثم "النهار" اللبنانية كمسؤول عن الصفحات الأدبية، ثم رئيساً للتحرير. وإليه يعود الفضل في إصدار الملحق الثقافي لجريدة "النهار" عام 1964. كما أنه أحد مؤسسي مجلة "شعر" عام 1957 مع يوسف الخال وأدونيس. أما في مجال الترجمة فقد أضاف الى المكتبة العربية العديد من الترجمات العربية لمسرحيات دورنمات وشكسبير وبريخت وكامو وغيرهم.
أجزاءٌ ثلاثة إذاً صدرت في مصر حديثاً هي محصلة إنتاج أُنسي الحاج الشعرية والتأملية الفلسفية الى حد الآن (باستثناء "كلمات كلمات كلمات"). الجزء الأول يشتمل على دواوينه الثلاثة الأوَل: "لن" 1960، "الرأس المقطوع" 1963، "ماضي الأيام الآتية" 1965. وبالطبع، التقدمة التأسيسية المهمة التي صدّر بها أنسي الحاج ديوانه "لن" الذي حمل على غلافه، للمرة الأولى في تاريخ الأدب العربي، عبارة "قصيدة نثر" وصدر عن دار "مجلة شعر" في خريف مطلع الستينات من القرن الماضي. الجزء الثاني يضم الدواوين الثلاثة اللاحقة: "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة" 1970، "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" 1975، "الوليمة" 1994.
أما المجلد الأخير فجمع كتابيه النثريين "خواتم 1"، و"خواتم 2" الصادرين عامي 1991 و1997 بالتتابع. ويمثلان تأملاته الفلسفية والوجودية التي جاء بعضها مكثّفاً وموحياً، وبعضها الآخر شارحاً محلّلاً. كتب الحاج هذين الكتابين إثر تشككه في موات "الكلمة" أو خفوت طاقتها في هذا الزمن الرقميّ الصارخ بعبثيته وبرمجياته، وهما محاولة منه للبحث عن لغة جديدة "تختصر كل شيء"، بتعبير رامبو، كما جاء في مقدمته كتاب "خواتم 1". والشاهد أن فارقًا هائلا يمكن رصده بين هاتين المقدمتين، مقدمة ديوان "لن"، ومقدمة كتاب "خواتم". هذا الفرق، الذي سنفصله لاحقا، جاء على مستويي الشكل والمضمون. أما المقدمة الأولى فكتبها الحاج عام 1960، وكانت، ولا تزال، تعدّ البيان التأسيسيّ الأول الذي دشنت به جماعة "شعر" عصراً شعرياً جديدا يحتفي بقصيدة النثر العربية ويؤسس لها، مطالباً السلفيين من المهاجمين أن يتحرروا من وطأة الطوطميات والتصنيمات والاستنامة الرخوة للجاهزية التي هي ضدّ للفن في جوهره، وأن يفسحوا المجال لغيرهم من الشعراء المتمردين القلقين الذين يفهمون أن الفنّ، كل فنّ، في جوهره العميق ثورة على القارّ المطمئن. وفيها شرحَ الفرق، والعلائق، بين النثر وبين الشعر، ثم بين الشعر وبين القصيدة. مبيّناً أن أواصر وروابط وتقاطعات كثيرة تربط بين الشعر والنثر، ويشهد لذلك التراثُ القديم. لأن كليهما، الشعر والنثرَ، حفر بقوة ونهل من حقل أخيه، ففي بعض الشعر نثرٌ مثلما نجد الشعر في كثير من النثر. فيما القصيدة شيء آخر غير الشعر. فالقصيدة هي العالم المغلق الذي يسعى الشاعر إلى خلقه من خلال الشعر. وتكلّم عن الأوزان الخليلية التي رهن السلفيون الشعر بها باعتبارها قالباً كان صالحاً لشاعر كان يصلح لها، وهي ابنة عالم يناسبها وتناسبه، لكن العالم يتغير وهو ما لا يدركه المحافظون المحتمون بالماضي. ثم راهن بقوة على قصيدة النثر باعتبارها ابنةً شرعيةً لهذا الزمن، خليقته وحليفته ومصيره. وأنها تحقق سعي الشاعر التوّاق إلى المطلق واللانهائي. وكان أنسي الحاج، في مقدمته العميقة تلك، ذا حدس سبّاق في ما يخصّ مستقبل قصيدة النثر بعد عقود من كتابته البيان. فكأنه يقرأ المستقبلَ، الذي غدا الراهنَ الذي نحياه الآن، باعتبار الزمن الذي كُتبت فيه هذه المقدمة عام 1960، حين تكلم عن راكبي الموجة الذين سيكتبون الخاطرة والنثر الفني ظناً منهم أنهم يكتبون قصيدة نثر، فيما أكّد أن قصيدة النثر عمل فنيّ بالغ الصعوبة وهي إنما "عمل شاعر ملعون". وطالب المحافظين بأن يعطوا هذا الوليد الغضّ الطريّ الفرصةَ لينمو بدلا من الحكم بوأده قبل أن يستوي على عوده، قائلا إن سنتين من عمر التاريخ لا تكفيان للحكم على جنس أدبي بالنجاح أو بالفشل ولذا فعلينا الانتظار قليلا. لكن الحاج لم يكن يعرف أن بلدا كمصر ستظل تعتبر قصيدة النثر كائنا لقيطًا (!) حتى بعد مضي قرن على ميلادها الفرنسي، وخمسين عاما على مولدها عربياً في لبنان، بل بعد مضي ما يقارب العقود السبعة، إذا ما اعتبرنا الإرهاصات الأولى الخجلى لها في عشرينات القرن الماضي عند حسين عفيف وغيره! كثيرةٌ هي الأفكار المهمة التي يجب أن نتوقف عندها حال الكلام عن مقدمة ديوان "لن"، ومن الصعوبة بمكان الوقوف عليها جميعها. على أني سأشير في الأخير إلى رأيه المهم حيث يقول: "في كلّ شاعرٍ مخترعُ لغةٍ، (...) الشاعرُ الحرُّ مطلقٌ، ولغةُ الشاعر الحرّ يجب أن تظلّ تلحقه، (...) الشاعرُ لا ينامُ على لغة".
أما مقدمة كتاب "خواتم 1"، التي كتبها أنسي الحاج في ربيع 1991، فقد نحت نحواً مغايراً تمام المغايرة عن المقدمة الأولى. فبينما كانت المقدمة الأولى تبشيرية مستقبِلَةً، بفرح، مولوداً جديداً طريَّ العود واعداً بالثبات والثبوت والنجاح، مؤمنةً بالقادم، مراهِنةً عليه، بدا لي في المقدمة الثانية أن ثمة مسّاً من الكفر بالقادم ويأساً من الرهان على أحصنة أثبتت شيخوختها أمام ماكينة عصر مبرمج آلي استهلاكيّ المنزع. أما الحصان الذي خيّب ظنّ أنسي الحاج فيه، بعد رهان طويل عليه، فهو "الكلمة". ينعي الرجلُ، الذي الحرفُ صنْعَتُه، الكلمةَ ويؤبّنها في مقدمة بدت لي عدميةً يائسةً كافرةً بالآتي. يقول: "هل أفلتتِ الظواهرُ والحقائقُ من محيط الكلمة وبات الواقعُ يُلمس خارج لغاتها؟ ألم تعد الكلمات تبلور الحقائق وتبدعها؟ هل حلّت الرياضياتُ محلّها؟ والإحصاء والحفظ الإلكترونيّ؟ هل أصبحت اللغةُ تَنْبتُ من اللغةِ لتُنجبَ لغةً دون أمل بأن تُفضي كل هذه اللغات إلى شيء خارج حلقتها المفرغة؟ (...) بين الأمية الجديدة، المقنّعة بحجج السرعة والتكنولوجيا والمدنيّة السمعية البصرية، والانحطاط العضوي الذي يفترس اللغة، تصل هذه إلى حافة الاضمحلال". عند هذا المقطع من المقدمة تلبّسني فزعٌ. فزعٌ مزدوج. فزعٌ وجوديّ وفزعٌ عمليّ. فأما الوجوديّ فيصيبنا حين نلمح اليأسَ في عيون القادة والزعماء ممن نعوّل عليهم أن يرفعوا عنّا اليأس والجزع. وهذا أنسي الحاج أحد حماتنا بدأ يفقد الإيمانَ بالكلمة وجدواها! ففيمَ نكتب نحن؟! وأما الفزع العمليّ فمرّده الى إيماني بحدْس هذا الرجل، فضلا عن حدس الشاعر الذي يمتلكه أصلا، وإذاً اللغةُ إلى زوال حقاً؟ ففيمَ وبمَ ولمَ نكتبُ نحن؟ ويتأكد لي حدس أنسي الحاج لأنه كتب هذه المقدمة "اليائسة" في مطلع التسعينات من القرن الماضي، ليكتب بعده بعقد كامل ديفيد كريستال، أستاذُ الألسنيات واللغويات في إحدى جامعات أميركا، كتابا عنوانه "اللغة والإنترنت" "The Language and the Internet" صدر عن جامعة كامبريدج عام 2001، أي بعد كتاب الحاج بعشر سنين، ويحمل مضمون مقدمة أنسي الحاج. متخوّفاً من اضمحلال اللغة الإنكليزية بفضل استشراء الرقمية ولغة الحواسيب والانترنت. على أن كريستال كان أكثر تفاؤلا وذهب إلى أن ذلك إثراءٌ للإنكليزية ولا خوف هناك، وهو إثراء من شأنه خلق لغة جديدة سمّاها "اللغة الثالثة"، باعتبار الأولى هي الإنكليزية الفصحى، والثانية هي الإنكليزية الدارجة. على أن تفاؤل كريستال لا يعنيني بقدر ما أحزنني تشاؤم الحاج باعتباره أحد عرّابينا نحن الشعراء الجدد الذين لا نقبل من حماتنا إلا أن يزوّدونا الأمل كما فعل في مقدمته الأولى عام 1960. هذا اليأسُ خليقٌ بالسلفيين الدوغمائيين الذين يقتلوننا كل يوم ولا يقبلون فينا عزاءً، بينما هو، اليأسُ، ترفٌ لا يمتلكه أصلا تنويريونا وحماتنا.
لكن، دفعاً لليأس من قلبي، ألا يحقُّ لي أن أناقض نفسي لأسأل: هل حقّاً يمرّ هذا الرائد الجميل بحال نكوص "إيمانيّ" وارتداد عن تبشيريته الأولى؟ هل يمدّ يده الآن ليستردّ منّا، نحن المحتمين به، منحته التي منحنا إياها قبل خمسين عاماً؟ هل يكفر بما جعلنا نؤمن به ويتركنا دون قِبلة نولّي شطرها وجوهنا؟ هل هذا هو الأقرب الى المنطق؟ أم أني لم أكن في تحليلي إلا أحاديةً، ضيقةَ النظر، فقيرة القراءة؟ لماذا لا يكون الشيئان اللذان ظننتهما نقيضين إلا وجهين لعملة واحدة؟ لماذا لا يكون ما بدا لي يأساً وكفرا إن هو إلا أحد ألوان تقلّب نفسٍ كبيرة يمتلكها شاعرٌ كبير ربّى عقلَه على تقليب الأمور على وجوهها التي لا تتشابه إلا لتختلف، ولا تختلف إلا لتتشابه؟ أليس الأبيضُ أسودَ في أقصاه، كما الأسودُ أبيضُ في أدناه؟ ألم يعلّمنا ماركس أن أقصى اليسار هو أقصى اليمين؟ مثلما علّمنا هيراقليطس أننا لا ننزل النهر الواحد مرتين؟ فلماذا أطالب الرجل بأن يقول الرأي ذاته لنصف قرنٍ؟ حتى ولو كان القائلُ بالنسبة الينا هو بروميثيوس السارق لنا شعلة التجديد؟ بل لماذا لا يكون الرأيان فيهما من الرهان على الجديد الشيء الكثير، حتى وإن بدت لي مقدمته الثانية عكس هذا؟ ثمة حجرٌ كريم اسمه "ألكزاندريت"، ربما نسبة إلى الإسكندر الأكبر، في كل ساعة من ساعات النهار يشعّ انعكاسات ضوئية ولونية متباينة تبعا لكمّ الضوء الساقط عليه وزاوية السقوط. أفليس الشاعرُ أشبه بهذا الحجر الكريم وخصوصاً إذا كان في حجم أنسي الحاج؟
هكذا اختلفت المقدمتان مضمونياً. ولو ظاهرياً. أما أسلوبياً فالمفارقة أن المقدمة الأولى التبشيرية جاءت إبلاغية إيصالية مباشرة لا مجاز فيها كثيرا. ربما لأن هدفها إيصال رسالة محددة تطوّب النصّ الجديد وتدفع عنه غلواء المحافظين. أما المقدمة الثانية اليائسة فجاءت شعرية إبداعية كأنما هي قصيدة نثر مطوّلة كتبها شاعرٌ حزين كمرثية في معبودته التي تحتضر على مرأى منه ومسمع: الكلمة. وأما المفارقة فمتأتية من أن الأولى كانت مقدمة لديوان شعري، بينما الثانية مقدمة لكتاب تأمليّ وجوديّ يقترب من الحكمية والفلسفة.
جاءت قصائد الدواوين الستة لأنسي الحاج على أنحاء مختلفة من حيث طبوغرافيا توزيع أسطرها على الصفحة. بعضها جاء مقطّع الأسطر مثل قصائد الشعر الحر حيث التقطيع السطري يلتزم إما اكتمال المعنى وإما تبعاً للإيقاع الموسيقي الذي يتغياه الشاعر، بينما اعتمدت قصائد أخرى الشكلَ الأفقيّ للقصيدة الفرنسية من حيث انتثارها على السطر الكامل كأنها قطعة نثر عادية.
أما المقارنة بين "لغة" مقدمة ديوان "لن" و"لغة" قصائد أنسي الحاج، أي المقارنة بين أنسي الحاج الناثر وأنسي الحاج الشاعر فتحمل المقارنة، وتشرح، رسالةَ الرجل كاملةً. الفارقُ بين لونين من الخطاب: أحدهما إيصالي إبلاغي عاقل، والثاني إبداعيّ بلاغيّ فنيّ محمول على كف الجنون. نرصد في الخطاب الأول رصانة اللغة واحتراما تاما للأجرومية اللغوية صرفياً وتركيبياً وحتى سيموطيقياً من حيث أدوات الترقيم وانتظامها وانضباطها بالمسطرة على ما نقول بالمصري. فلا ألاعيبَ لغوية ولا مجازات معقدة ولا خروجات على اللغة التبيانية التي "لا غبار عليها". بينما في الخطاب الآخر، الشعري، يبدأ الفن الذي "غبارٌ عليه أيُّ غبار". إذ نرصد التمرّد على انتظامية اللغة وسَوْساً لها واجتراحاً لرتابتها واختراقاً وتفجيراً لقانونها الأجروميّ الرتيب. هذا، وإن ظلّ ميزانها النحويّ والصرفيّ محترماً وسليماً، باعتباره عماد اللغة ونسغها الذي لا يُمسّ وإلا قُوّضت اللغةُ من أساسها. وهنا رسالة أخرى من أنسي الحاج الى قارئه، مفادها أن قصيدة النثر وراءها فكرٌ ورؤى ورسالةٌ ايديولوجية وإن طرحتْ عن ثوبها الايديولوجيات. قصيدة النثر ليست مجرد شكل جديد للقصيدة، وليست أيضا ثورةً على الوزن الفراهيديّ، بقدر ما هي ثورةٌ على صنمٍ أحاديّ الرؤية، فقيرها. صنمٌ اسمه "قداسة اللغة" وُضِع للعرب، أو وضعه العرب بأنفسهم لأنفسهم لكي يعبدوه. بينما اللغة براءٌ مما يصفون. إن المحبّ الحقيقي للعربية، وأنا إحدى المفتونات بها، لا بد أن يؤمن أن اللغة كائن حيّ يولد ويعيش ويتنفس ويموت أو تموت بعض خلاياها ليولد غيرها. أذكر في حوار بيني وبين القاص الإنكليزي جون ريفنسكروفت أني قلت له نحن كعرب نقدّس لغتنا فماذا عنكم أيها الإنكليز، وخصوصاً بعدما استبدلتم بالشكسبيرية القديمة لغةً حيّة معاصرةً أكثر حيوية وبساطة. فأجابني: "اللغة ليست مقدسة في ذاتها، لكنها تشبه شجرة الميلاد، هي رمز وحسب للقداسة، لكن في وسعنا أن نضيف إليها ونقصّ منها بحسب معطيات الضرورة". شعر أنسي الحاج، وقصيدة النثر بعامة، ثورةٌ على "الداء العربي"، بحسب عنوان كتاب شريف الشوباشي. الداء العربي الذي احترف الأحاديات والثنائيات وأغفل ما بينهما. الداء الذي يجعلنا نخلق صنماً من التمر لنعبده ناسين أننا صانعوه، ثم نلتهمه في ليلٍ بعيدا عن عيون الناس. الحبّ لا يعني العبادة. الحبّ في رأيي شيءٌ أرقى لأنه يقوم على نديّة صحّية تنعش الحبّ وتنزع منه الرهبة. حبّ اللغة لا يمنع اللعب بها واللعب معها، سوسها حيناً، والخضوعَ لسطوتها ودلالها حيناً آخر. سنرصد بجلاء هذا اللعب والتفجير اللغوي في شعر أنسي الحاج حين يأتي بجمل غير مكتملة كما في قوله:
"سأطبع كتاباً/ ليعرفوا أنكِ/ سأطبع كتاباً/ ليقولوا عندما يفتحونه:/ "كنا نحسبه شخصاً آخرَ"/ سأطبع كتاباً/ ليقولوا عندما يغلقونه:/ لم نكن نعرف أنه/ كنا نظن أنه/ سأطبع كتاباً/ لأن عينيك لأن يديك/ سأطبع كتاباً/ لأني لا أصدق".
هذه الجمل المبتورة لم تبتسر المعنى ولم تلغْه، بل كثّرته وأثرته. شيءٌ يشبه هدم الحائط الرابع في مسرح بريخت لكي يتفاعل النظّارة مع الممثلين. هنا القارئ سيكمل النصّ بدلالات لا نهاية لها. كأن لسانَ حال الشاعر يقول: أنا لم أعد نبيّاً أعلم الغيب، بل أنا حائرٌ مثلك أيها القارئ! مثلك أبحث عن المعنى، مثلك أسأل ولا أصل، وهنا مكمن جمالي كإنسان، مكمن اكتمالي هو النقصُ.
وفي قصيدته الجميلة "قبل أن يموت" يقول الحاج: "من الآن فصاعداً/ لا تضحكوا/ إن أخطأ فظنّ/ أن حبيبتَه/ هي حبيبتَه!". أما سرّ عبقريتها في رأيي فهي أن الجملة الأخيرة أيضا غير مكتملة. كانت تكتمل لو قال: "أن حبيبته هي حبيبته". فلو تأملنا تنضيد الأحرف لاكتشفنا خبر "أن" غير موجود. فكلمة "هي حبيبته" الأخيرة ليست خبر "أن" بل تكرار لاسم "أن"، والدليلُ نصبُها أيضاً بدلا من رفعها.
وفي قصيدة "يكتب ويقرأ" يقول: "كانت يدٌ/ كانت يدان/ كانت يدان صغيرتان/ لم تفعلا غير الظلّ/ والثلج/ والجمر/ (...)/ كانت عينان/ لم تفعلا غير السجن".
ليس سوى الشعر، وليس سوى شاعر جريء "ملعون" في وسعه أن ينسب الفعلَ "يفعل" إلى الظلّ والثلج والجمر، وهي أشياء لا "تُفعل" بل موجودة، أو في أحسن الأحوال "تُصنَع" لا تُفعل. والشيء نفسه منطبقٌ على مفردة "السجن"، الذي لا "تفعله" إلا "عينان" لا تراهما سوى عيني شاعر "غوّاص" يفهم المعنى الصحيح "الصحيّ" لمصطلح "تفجير اللغة"، بمعنى محاولة استخراج طاقاتها الخبيئة من خلال تراكيب طازجة جديدة لم يكشفها الأقدمون بعد، في لغة هي كـ"البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ" ينتظر غواصين جدداً لا يُسألون عن الأصداف.

 

فاطمة ناعوت

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...