ظاهرة الروائيات السعوديات

06-01-2007

ظاهرة الروائيات السعوديات

يُحصّلن الشهادات في جامعة المملكة أو في العواصم الغربية، يلتحفن بالعباءة والحجاب قبل الصعود الى الطائرة، يُمنعن من الجلوس خلف مقود السيارة ومن المشاركة في الانتخابات، حتى الصورية منها، يتم تزويجهنّ في مجلس رجال عائلي، يتفاقم شعورهن بالظلم ويتهافتن في كآبة الأيام... لا "هوية" لهنّ في مجتمع الرجال هذا، فإذا بهنّ مؤخراً يكتشفن الكتابة. يبدو أنهن وصلن اليها نتفاً، بضربات صغيرة من خلال تبادل الرسائل الالكترونية باسماء مستعارة او بواسطة "الثرثرة" غير المكشوفة ايضاً على الشبكة إضافة الى الرسائل النصيّة الصغيرة المغفلة بدورها على الهاتف المحمول. من يحكي يوماً دور الهاتف المحمول في تواصل الجنسين - من التحرّش الى اعترافات الغرام والقطيعة - حيث لا وجود لحيّز لقاء في مجتمعات محكمة الاغلاق؟
على شكل رسائل الكترونية تحديداً، أرادت المؤلفة الأكثر شهرة اليوم بين الروائيات السعوديات المبتدئات، رجاء الصانع، نقل سيرة اربع فتيات راغبات في تحقيق أكثر الأحلام تواضعاً: العثور على شريك حياتهن، زوج محبّ، النجاح في العمل وارضاء الله والأهل... لكن "بنات الرياض" (1) (الطبعة الخامسة خلال أقل من عام ونصف العام) المكتوبة باسلوب خفيف متعمّد واستخدام متمادٍ للّهجة السعودية ومشاكل فهمها وإدخال مكثّف للانكليزية الشائعة وللغة الانترنيت، هي قبل كل شيء حكاية خيبات.
قائمة حقيقية بأحوال النساء في مواجهة مشاكل مستعصية: هي تربي أطفال زوجها وهو بين ذراعي زوجة جديدة، طالب زواج هو نفسه يرفض التعرّف على الفتاة أو حتى رؤيتها قبل المراسم، زوجة تطلّق لأنها حملت سهواً من زوجها نفسه الذي كانت له خطط أخرى، بداية صداقة (الكترونية) مع شاب من مذهب آخر تذهب أدراج الرياح بمجرّد انكشاف الاختلاف... معاناة تنتهي بإحداهنّ الى الصراخ: "سأغادر هذا البلد الذي يعاملنا كالقطيع... لماذا العيش إذا كان يفرض عليّ ما ينبغي أن أفعل أو لا أفعل؟...". الراغبون في التلصص على الحميميات في مجتمع الممنوعات لن ينالوا مع ذلك مشتهاهم فهذا "الحدث" الأدبي الصغير يكتفي برسم حدود ثقافة نسائية "عاقلة"، تسبح في موسيقى الاستهلاك وفروض الصلاة وتوقعات الأفلاك والقراءات الصغيرة، وخصوصاً الشعرية الوجدانية منها...
نكتشف بسرعة، من الصفحات الأولى لرواية "الآخرون" (2) (في إشارة سهلة الى قول جان بول سارتر عن الجحيم) من توقيع صبا الحرز انه إذا كان يجب ترصّد حدث على هذا الصعيد فيجب البحث عنه في هذه الرواية الأفضل تركيباً والأكثر جرأة بما لا يقاس، وخصوصاً المتماسكة في لغة واسلوب ينجح في التعبير بإحساس فريد عن أحوال القلب والجسد ("جسدي يخونني، موجعة خيانة جسد لم أعتد منه الا ان يكون حيادياً، حتى في أسوأ تواريخه معي. حياديّ وخفيف بحيث لا اتذكر يوماً قد حملته واثقلني، ولا خلعته فتعثّرت به. لطالما كان صامتا في عز ثرثرتي، ويهز رأسه دلالة على فهمه. لطالما كان متجاوبا، يتساوى عنده الجوع والشبع، والالتصاق الحميم وصقيع التنافر. ولطالما اخذته على محمل الجد لانه هكذا، جيد معي وعادل") خارج كل غنائية يضجّ بها تقليدنا الأدبي.
وبدل الصورة الجامعة، نتابع السيرة المتخيّلة الذاتية لفتاة جامعية مصابة بداء الصرع تتعارك وسط علاقة سادية مازوشية مع إحدى رفيقات دراستها. ضمن حيّز كتابيّ متردد بين بعض الإثارة والتعبير عن تجارب مُعاشة كلياً أو جزئياً، يغرق السرد في عالم الحواس مع "خروقات" غير مسبوقة في الأدب العربي الحديث نحو عالم الحميمية حيث تنعقد وتنفكّ العلاقات على ايقاع عنف الغيرة النسائية والخيانات الصغرى أو الإباحية التي تبلغ حدود التصديق. للإحاطة بهذا العالم النسائي الشيعي الضيّق (إصرار على التأكيد المتكرر أن البطلة ورفيقاتها يعملن ضمن البرامج الخيرية التابعة لإحدى الحسينيات) تلجأ الكاتبة التي لم توقّع على الأرجح باسمها الحقيقي الى لغة بيضاء فجّة تتخللها بعض الصور التي لا تخفف من وهجها المباشر: "معها، اكتشفت جسدي، كانت تغريني ببطء، أشعلت لي شمعتين، همست لي بفضائح أقشعرّ لها بدني...".
"الأوبة"(3) لوردة عبد الملك (اسم مستعار ايضاً على الأرجح) أقصر مدى لكن أكثر ضراوة. تُقرأ دون توقف كأنها آه طالعة من حنايا جسد امرأة مُنتهكة. كتابة تدكّ بضربة ريشة قلم واحدة الممنوعات الدينية والجنسية. هكذا تصف الراوية ليلة عرسها: " خلع ثيابه وابقى عليه سروالا قطنيا ممططا ومائلاً الى الصفرة يصل الى حدود ركبتيه. لم يقدم لي كأس ماء ولا وردة. ولم أرَ شوكولاته ولا فاكهة. ولم أسمع منه كلمة ولا همسة. ولم يداعبني، ولم يلاطفني كما لمثلي أن تحلم او تتخيل. لكنه برك. هكذا برك كما يبرك البعير الاجرب، وبدأ يمطرني بقبل متلاحقة مجنونة على وجهي. يأكل فمي ويمضغ لساني، ويحف اسنانه باسناني واصابعه تعتصر تفاحتي بشدة حتى يبلغ الوجع العبقري رقبتي... لم يتركني الا مع آذان الفجر". تنتقم بجسدها وبكتابة مثيرة للأحاسيس، تجد لنفسها ولجسدها ملجأ بين ذراعي رجل تدعوه الى انقاذها "من إلههم وجنّتهم، من رجالهم ونسائهم، من هذيانهم وجحيمهم...".
أخيراً "جاهلية"(4) لليلى الجهني، وهي الوحيدة التي كانت أصدرت رواية سابقة، "الفردوس اليباب"، تحكي على خلفية الاستعدادات الأميركية للحرب على العراق قصة حبّ محكوم سلفاً. سعودية شابة تأمل في تحدي كل المحرّمات التي تبعدها عن الرجل الذي تحبّه، اسود بلا جنسية، "تكروني" ضحية كل أنواع العنصرية التي يزخر بها هذا المجتمع. يمضي زمن الرواية وهي تشهده يدخل في غيبوبة لا نعرف مآلها، نتيجة اعتداء من شقيقها الذي لم يتقبّل "إهانة" الشرف التي ألحقتها أخته بشرف العائلة.
سواء كنا أمام ظاهرة أدبية واعدة أو موضة تسلك درب الاستفزاز (أو الاثنتين معاً)، فان الروايات الأربع تكشف عن عالم موازٍ أو "تحت أرضي" يسخر من الممنوعات والرياء السائد. نتاج يذكّر بإمكانات اللغة العربية، الأدبية، ولمَ لا المحكية، في مواكبة شكل من أشكال الحداثة المواجِهة لمجتمع بطريركي مقفل.
يتبع... طالما هناك دور نشر مستعدة، في بيروت أو غيرها، لإصدار ما ترسله الأقلام المتمرّدة الصغيرة من الرياض.

(1) رجاء الصانع، "بنات الرياض"، دار الساقي، بيروت، 2005، 320 صفحة.
(2) صبا الحرز، "الآخرون"، دار الساقي، بيروت، 2006، 288 صفحة.
(3) وردة عبد الملك، "الأوبة"، دار الساقي، بيروت، 2006، 102 صفحة.
(4) ليلى الجهني، "جاهليّة"، دار الآداب، بيروت، 2007، 182 صفحة.

جبور الدويهي

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...