على طريق بيروت صيدا: إلى التراب نعود

15-08-2006

على طريق بيروت صيدا: إلى التراب نعود

سيارات كثيرة تطلّ منها الوجوه والفرش. الوجوه كثيرة، والفرش أيضاً. لكن، هذه المرة، تزيّن البسمات وجوه الناس، نساء وأطفالا ورجالا وشبابا، على الرغم من صعوبة المسير.
تجمع سيارة واحدة الكثيرين، والخطى بطيئة. هذه المرة، لا ضرورة للعجلة. ففي المرة السابقة، كان اسمهم نازحين. بالأمس، كانوا: العائدين.
تضيق الطريق كلما حان موعد جسر قصفته إسرائيل. لكن الطريق تستمر. الزحمة تكاد تكون خانقة. لكن القوى الأمنية قامت بطمر الحفر. ترى الناس يلتفون حول الفجوة في الناعمة، وفي الدامور أيضاً.
من الزحمة، تطل الأيادي. تصادف في اليد علم لبنان، تماماً كما يمكنك أن تصادف غطاء طنجرة قرر جار السائق أن يوجهه نحو الشمس. غطاء الطنجرة على طريق العودة حلّ بدلاً من العلم الأبيض على طريق النزوح. ولو لمح أحدهم دفتراً في يد صحافي يدوّن قصصهم، تجده يصيح باكتفاء: شكراً، ما عدش بدنا إعاشة، ضبوا الدفاتر، ضبوها. وكان الناس يبتسمون.
عند كل زحمة، تتموضع الكاميرات. ولأجلها، تطلّ صور السيد حسن نصر الله. وتصدح الحناجر بكلمات يبقى منها في فضاء المكان: نصر، بطل، مقاومة، كرامة، بيوتنا. فتجلس الحاجة زينب علي صويفي على ظهر البيك آب، فوق الحاجيات، وتنتظر. البيك آب معطّل، أما هي: من كفرصير وتهجرنا على الخرايب ومن بعدها على مدرسة في بيروت. ما شفناش من الناس إلا كل خير، الله يحمي لنا المقاومة والسيد حسن وأمّة محمد كلها. كلها، يا حاجة؟ تبتسم. وتكتفي من الكلام، قبل أن تستدرك: راجعين ع بيوتنا ومش عارفين شي. إلنا سوية بشباب المقاومة. وتراب الجنوب غالي علينا. إذا ما لقينا البيوت، منقعد على الأرض. الأرض ملكنا والتراب ترابنا.
بالأمس، اتجهت إلى بيتها لتستقر فيه، غير آبهة بحاله أو بالأمان الذي يحيط به. أما سائق حافلة البنزين أسامة نجيب الزواوي فلن يهدأ. مشواره الواحد يدوم 3 أيام، ولم يتوقف عن تنفيذه منذ بدء الحرب. ينقل البنزين من سوريا إلى كفرحتى وصيدا وعنقون والغازية، بحسب قوله. هو من عين قانا ولن يعود إليها في الوقت الراهن لأنه يخشى إمكانية عودة القصف. في خلدة، استلمت إبني. طلع بالكميون، وراح نزّله بصيدا، عند إختي. هكذا، على الطريق، يرى ابنه. وابنه يصيح من خلف مقود الكميون: بابا، رح زمّر.. بابا.. زمّرت.. بابا بدوّرها؟ بابا.... فالمركبة مركونة في أرضها، أرض السيارات المركونة حلّت في الناعمة، وفي الدامور، وعند الأولي أيضاً.
تكرّ الدواليب، وفجأة: تتجمد السيارات في مكانها. تقع الزحمة. ينعدم إمكان التقدم. يخرج سكّانها منها. لا شيء يتحرك. تسرق عينك تلك اليد التي تلوّح هناك بدفتر، استجداءً لنسمة هواء. ويلفتك الحاج الذي يمضع قطعة خبز فيها جبن، باستسلام ومتعة. ترى التفاصيل كلها في المشهد المشلول. لقد جبلت نار الشمس سيارات الناس في جسم واحد، عاجز عن الحركة.
من الحشد، يطل العصبي الذي يصر على فتح طريق من خرم أبرة. ذلك العصبي الذي يبحث في كل إمكانات السير ويعود في معظم الأحيان إلى حيث بدأ. وهناك الحربوق الذي يخترع أبعد طريق ممكنة، ليسلكها كونها تعج بالأشجار والنسيم، فيجد نفسه، بعد ساعتين، مجاوراً لسيارة عائلية جاورها قبل الحربقة، سيارة سلكت الصراط المستقيم، وتحمّلت الشمس، ووفرت البنزين. لكن سواد العائدين الأعظم التزم بالخط، وبتسليم. في ذلك التسليم، سرور. فالنوم في المدارس لم يكن بديلاً أهون. البيت، إن وجد أو لم يوجد، يقول الناس أنهم إليه عائدون. وهم يتميّزون بثقة لافتة، ثقة باستعادة الحياة السابقة، بعد إضافة عدد هائل من الأحزان على ألبوم الصور العائلي.
لافتات صنعتها الأيدي ترسم الطريق البديل. إقليم الخروب من هنا، ثم صيدا من هناك. بعضها كتب بخط اليد على كرتونة علّقت فوق خشبة، وبعضها استعار اللافتة الأساسية ليضعها في موقع لم يكن لها. للحظة، تجاور البحر، تشرف عليه من الشارع القريب. وفي اللحظة التالية، تصبح في الشوف، جبل وأخضر وواد وكوع. لبنان: ربع ساعة بين الجبل والبحر. وعلى طرف الجبل، ترى سيدة وزوجها، في حضن كل منهما إبن، يستظلون شجرة. وهناك، سيارة مركونة، يخرج الدخان الأبيض من جوفها، ويخرج دخان السيجارة من فمه.
عندما نزحوا، كانت الطريق سالكة لكن غير آمنة. كانت الرحلة سريعة، حد انقطاع النبض. وعندما عادوا، بدا الدرب شاقاً، لكن مقدوراً عليه. سلكوه وهم فرحون. من بعيد، أطلّت شاحنة صغيرة. لم يعجنها المشهد في ضوضائه. فعلى ظهرها، رُبط تابوت. لونه بني. فيه، سجيت ذكريات الأمس. ذكريات الأول من أمس، تحديداً.

سحر مندور

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...