عن الإنسان والمقدس

13-06-2011

عن الإنسان والمقدس

"من يلعب دور الله، يلعب في الوقت نفسه دور الشيطان"  شكسبير

رافقت فكرة المقدس الإنسان منذ البدايات الأولى للمجتمعات البشرية، إلا أن الصورة التي اتخذتها على أيدي المدافعين عنها وحماتها، خاصة في العصر الحديث، جعلت منها فكرة أبعث على الإرعاب والتخويف منها على التأمل والفهم العميق للطبيعة والإنسان. وهذه الصورة المفروضة عبر التاريخ هي جزء من علاقة وطيدة ومتجذرة بين المقدس والدنيوي، مع أن أول ما تستدعيه لفظة المقدس هي تعارضها مع الدنيوي، ميتافيزيقيا، ولكن هذا التعارض عندما يبنى على الوقائع يصبح تكاملاً وتعاضداً، ولا يسير إلى حد التنافي.
حول هذه الموضوعات وغيرها يتمحور كتاب "الإنسان والمقدس" لروجيه كايوا الصادر حديثاً عن المنظمة العربية للترجمة (2010). الكتاب الذي صدر في طبعته الفرنسية الأولى عام 1939، أي منذ أكثر من سبعين عاماً، ما زال يحتفظ براهنية وحضور، باعتباره أحد المراجع الكلاسيكية في ميدان الدراسات الاجتماعية الفرنسية. وتؤكد ترجمته العربية المتأخرة على فداحة النقص الذي تعاني منه المكتبة العربية في الدراسات العلمية الجادة.


بحسب كايوا "المقدس في صورته الأولية البسيطة، يشكل طاقة خطرة، خفية على الفهم، عصية على الترويض، شديدة الفاعلية" ص 40 يصعب على من يستخدمها السيطرة عليها واتقاء خطرها. قوة جبارة لا تتحلل ولا تتجزأ تبقى كاملة غير منقوصة. تلك كانت هي الصورة في مخيلة الإنسان البدائي وهو يرى إلى الطبيعة بكل جبروتها وقوتها مقابل ضعفه وهشاشته. لكن مع تطور المجتمعات البشرية وولادة السلطة والملكية الخاصة، رشحت علاقة مميزة بين المقدس والدنيوي خاصة مع الانتقال من النظام الطبيعي البدائي إلى النظام الاجتماعي المعقد، فتولدت آليات اجتماعية عملت على تكريس وترسيخ بناء سلطة متكاملة تسعى إلى تأبيد سيطرتها من خلال استخدام وتوظيف المقدس اجتماعياً وهو الذي كان قد انتظم دينياً. فصار الدين بطقوسه ووظائفه ناظماً للعلاقة بين الدنيوي والمقدس عبر أمرين، حركة الذهاب والإياب، من خلال طقوس التنسيب والعبور بينهما للمريدين والاتباع الجدد، وأيضاً بناء فصل وتعارض مكين، على أساس أن المقدس عالم الممنوع والمرهوب والكمال الأبدي، في حين أن الدنيوي عالم المسموح والممكن والآيل إلى الزوال.


فنشأ التابو يرسم الحدود الثابتة ويشيد الأسوار بين المقدس والدنيوي وأي إخلال به يؤدي إلى فوضى تلحق أشد الضرر بالنظام الشامل، كوارث طبيعية وبيئية، وفيات، كسوف الشمس….
وصارت الذبيحة والزهد وسائل مقايضة يسعى من خلالها المؤمن إلى تأمين حظوة أو مكانة أو بركة أو قوة يدعم بها نفسه ويحطم بها أعدائه ويحقق النجاح الباهر وينتصر. والألم الذي يتولد من الحرمان أو العذاب الذي يرتضيه الزاهد في حاضره يقابله سعادة وهناءة مأمولة في كنف المقدس، أي ثمة مقايضة ومنفعة، ألم اللحظة مقابل سعادة الغد. فحتى يكتسب الإنسان الطهارة وولوج المقدس، عليه أن يتخلى عن مظاهر الحياة الدنيوية ويتفرغ للصوم والعفة والسهر والصمت إنها مقدمة التحول الفردي النفسي لديه حتى يكون قابلاًً للدخول في عالم ولادة جديدة.


وأيضاً نشأت عن علاقتهما ثنائيات مثل، الطهارة والرجاسة، الخير والشر، الكفر والإيمان، وهي ليست جواهر منفصلة مستقلة عن بعضها، بل إن إمكانية تبادل المواقع بينها مفتوحة تبعاً للدور والوظيفة، فيصير المنتهِك، المجرم، القاتل، النجس، من خلال اقترافه الفعل الأشد خطورة، خارج دائرة الدنيوي ليدخل في دائرة المقدس "ما هو مصدر نجاسة وسبب حظر يمكن أن يكون أيضاً مادة موجبة للتقديس . . . إن نجاسة المجرم هي التي تجعله مقدساً، بحيث يغدو من الخطر اغتياله مباشرة. لذا كانت المدينة بتركه له بعض الأطعمة، تعلن تنصلها من مسؤولية موته وتجيرها إلى الآلهة" ص 76. ويتموضع النجس والطاهر اجتماعياً على أساس أن المركز طاهر والأطراف نجسة ومدنسة، ففي هندسة المدن الحديثة يكون المركز متألقاً متوهجاً بالأبنية المنظمة والجميلة في حين تكون الأطراف هامشية، مهملة، تفتقد إلى أبسط الوسائل العصرية.


ربما كان التوظيف الأهم والأخطر للمقدس في السياق الدنيوي، يتمثل في السلطة، سواء لفرد أو لمؤسسة. ومستويات التطابق والمماهاة التي وحدَّت تقريباً بشكل كامل بينهما، جعلت من المقدس سلطةً ومن السلطة مقدساً، إذ لديها ذات التابو وآليات التحريم، وتختزن من العنف والقسوة ما يساير ويجاري غضب الطبيعة الجبار على الإنسان. "تبدو السلطة كالمقدس عصية، خارجية، تتخذ من الشخص مقراً مؤقتاً لها. إنها تُنال بالتنصيب والتنشئة والتكريس، وتُفقد بالخلع وانعدام الأهلية أو الفساد والظلم كما تحظى بدعم كامل من المجتمع الذي يشكل المؤتمن عليه الرابط بين جميع أعضائه" ص 132. تحاط السلطة وصاحبها بوظيفة جليلة تستقى مرجعيتها من قوى خارجية فوق بشرية، مؤلهة له، فنراه يعيش في حالة من العزلة والصمت محاطاً بأسوار من الإجلال والتأليه وكل ما يمسه يصبح جزءً منه لا يجوز لغيره التعامل به. وحتى عند الحديث معه، في بعض الحالات، فإنه يتم من خلف حجاب حتى تكتمل صورة البعيد القصي بقوته الإلهية. "إذ إن ما يمكن الخروج به، من كل تحليل استكمالاً لدراسة المقدس سيكرر نفسه كل مرة وهو يتلخص في وجود تراتبية وممارسة سيادة، وارتداء هذه التراتبية والسيادة طابعاً مهيباً، منيعاً، معطلاً، يجعل كل خطأ مرتكب تجاههما بمثابة فعل تدنيس" ص 129. ولذلك كانت ملاحظة دوركهايم ثاقبة، إذ يستحيل على هذين النوعين، المقدس والدنيوي، أن يتقاربا ويحتفظ كل منهما بطبيعته.


لم يعد المقدس حاضراً في المجتمعات الحديثة كما كان في المجتمعات البدائية، ثمة تراجع وتحول واضح في مظاهره التي عرف بها في البدايات. تحول في موضوعاته شكلاً ومضموناً، حتى صار كل ما يمكن أن نهبه كامل تفكيرنا وعواطفنا وأحاسيسنا وحتى حياتنا، المرأة، الوطن، والشرف… وبطبيعة الحال كان للتقدم والعلمي والثورات العملية والفكرية التحررية التي عصفت بالمجتمعات المعاصرة أكبر الأثر في ذلك. فالعيد قديماً كان مناسبة احتفالية جماعية تمثل ممارسات المحتفلين بها انتهاكاً شديداً للأعراف السائدة، فوضى شاملة، وفترة يتحرر فيها الناس من النظام العاتي للمقدس الجاثم فوق رؤوسهم، فيسمح بالتجاوزات والانتهاكات، لأن العالم حتى يستمر بحاجة إلى تجديد دوري لطاقاته وقدراته. فما الذي بقي من العيد في هذه الأيام؟ انسحب العيد في العصر الحديث من جذوره وتخلى عن مظاهره العنيفة وعن طاقته المهيمنة المنفلتة المقدسة لصالح أجساد باردة منضبطة بفعل القوانين والانظمة تسعى جاهدة إلى تمضيته، قدر الإمكان، بهدوء وسلام، لأنه أصبح فترة استجمام وراحة، وقت فراغ، وعطلة تتسم بالهدوء والسكينة على شاطئ البحر أو في الجبال.

ربما الحروب العصرية الحديثة بمظاهرها ونتائجها هي الأقرب إلى مفهوم العيد السابق. فيها يقتلع الفرد من فرديته ليصهر مع الجماعة ويشكل جسماً متجانساً تضيع فيه معالمه الفردية وتفاصيله الخاصة "تطالعنا الحرب بمجموعة ميزات خارجية بحت، تهيب بنا إلى أن نجعل منها الوجه الحديث والقاتم للعيد، فلا عجب إن جرت إلى الوعي، منذ أن غدت إحدى مؤسسات الدولة، طائفة من المعتقدات التي تميل على غرار العيد إلى الإشادة بها كما لو كانت مبدأ كونياً خصباً ومثمراً" ص 241. يمكن أن نذهب بالتحليل إلى مدى أبعد، ربما لم يعاصره كايوا تماماً (توفي في عام 1978)، وأقصد انتعاش وازدهار الحركات الدينية الأصولية بمختلف ألوانها وأطيافها، في الكثير من بقاع العالم وخاصة العالم العربي والإسلامي هي تحمل في داخلها الكثير من العنف وتعلن الحرب الشاملة ضد كل من يخالفها، تحت راية الدفاع عن مقدسها وإحقاق الحق الذي تحتكره لنفسها فقط دون غيرها. بغض النظر جزئياً عن الطبيعة السياسية لولادة ونشوء هذه الحركات إلا أن الصيغة "الحربجية" القاتمة التي تعتمدها، والحلول الاستئصالية التي تقترحها وطرق تنسيب وتربية الأعضاء المنتمين لها، يبدو أنها تتجاوز حتى الصيغ القديمة للمقدس الذي "يهب الحياة ويسلبها في آن واحد" ص 196. اللافت في هذه الحالة هي أن العلمانية التي قوضت أركان المقدس والتي يرفضها الأصوليون جملة وتفصيلاً ويجردون سيوف الحق لمحاربتها، هي التي منحتهم إمكانية أن يكون لتنظيماتهم الدينية مكان في المجتمع مع باقي الفئات والمؤسسات المختلفة عنهم، ضمن تصور عام يتيح للجميع أداء دوره الخاص به. من المؤكد أن ظهور الأصوليات الدينية المتطرفة دفعت وتدفع الباحثين والمفكرين إلى التساؤل من جديد عن بدايات المقدس وطبيعته، ولا غرابة أن يكون عنوان أحد أهم كتب الناقد الأدبي الإنكليزي تيري إيغلتون هو "الإرهاب المقدس".


الإنسان والمقدس
تأليف: روجيه كايوا
ترجمة: سميرة ريشا
إصدار: المنظمة العربية للترجمة 2010

محمد غيث الحاج حسين

المصدر: الأوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...