قصص سورية لا تُروى

18-01-2016

قصص سورية لا تُروى

حين أمسك بهم تحت أشجار الجوز، وهم يملأون الأكياس بثمارها، لم يُفاجأ بأنهم يسرقون. ليس هذا ما جعل الدماء تحتقن في رأسه. قال لهم إن بإمكانهم أن يأكلوا ما يشاؤون، ولكن من دون أن يشحنوا أكياس الجوز معهم. التفت إليه أحدهم باستخفاف، قبل أن يصرخ في وجهه: «من تظن نفسك، أنت سعرك رصاصة».
إنهم أبناء بلدة واحدة، محسوبة على النظام. كانت معهم بنادقهم، فهم ممن يداومون على الحاجز الفاصل مع مناطق تسيطر عليها فصائل «معارضة». الصورة الوحيدة التي احتلت رأسه هي لأخيه الضابط، الشهيد، الذي قُتِل في الحرب. كان الوحيد الأعزل بينهم، ولا يحتاج أدلةً على فجورهم، لكنه لم يحتمل ردهم. حدقّ في عيونهم وصار حنجرةَ غضب: «من أنتم! صرماية أخي الشهيد تسواكم جميعاً».
مرّت المشاجرة على خير، وانسحب السارقون. لم يعد أهل البلدة يستفظعون تلك السلوكيات «العِصابوية»، فهم يعرفون أن معظم المدنيين الذين تطوعوا في الدوريات المتناوبة على الحاجز، هم خائبون: كل ما طمحوا إليه هو أي سلطة وبروز، ومعظمهم لم تنفع معهم لا دراسة ولا مهنة. هكذا صارت هذه القصص حالةً عادية، شائعة، لكنها تبقى أسيرةَ نطاقها المحلي.
إنها في النهاية بعض القصص التي تغلّف احتجاج الغالبية الصامتة، سواء في مناطق سيطرة الجيش السوري أم «المعارضة»، وتتبادل سردها بين بعضها بحرية في دبي التي تجمعها. يتبادلونها لأنهم يجدون هنا مسافة مودة، صحبة وعلاقات، يأمنون فيها تلك المسامرة بانعدام الحول والحيلة أمام حملة السلاح.
لا تظهر أي إشارات دهشة على سيدة خمسينية تسمع تلك القصة الطازجة. تزم عينيها بأسف. ما يحصنها من الاستغراب ليس حكايات سمعتها، بل أخرى عاشتها شخصياً قبيل قدومها للإقامة لدى أبنائها في الامارة الخليجية.
تضحك وهيّ تهم بالسرد. عندما كانت ذاهبة لجني بعض البطاطس من أرضهم، فوجئت بامرأة تعرفها وهي تنكب على نبش الأرض وملء كيس بما تحصّله. نهرتها بسخط، لكن السارقة لم تأبه، بل بادرتها على الفور برد ناريّ: «أين المشكلة؟ أنا ابني عم يدافع عن الوطن». إبنها متطوع في قوات «الدفاع الوطني»، تشرح الراوية، قبل أن تعلق رافعة إلى الأقصى قوس حاجبيها: «ما علاقة هذا بذاك؟ هل صار الدفاع عن الوطن تصريحاً للسرقة؟».
روايات كثيرة يبدو واضحاً منها كيف صارت تشكيلات «الدفاع الوطني»، التي تؤازر عمليات الجيش السوري، مجالاً مغرياً للإستثمار. المسألة يبدو أنها مفتوحة على طريقة الشركات الأمنية الخاصة، وفي مستوى المكاتب المحلية، تسود المحسوبيات وولاءات الاستزلام.
تروي شابة عاشت في حمص أن جارتها، المتفرغة للعمل المنزلي، صارت تهجس بفتح مكتب توظيف لتوريد المقاتلين. بات شغلها الشاغل اقناع زوجها والتخطيط لإطلاق استثمار رابح لا يحتاج «رأسمال»: «نعمل من غرفة في بيتنا مكتب، ونصير نبحث عمن يريد التطوع».
طبعاً، لديهم أمثلة مشجعة على سهولة الأمر. عنوان «صقور الصحراء» بات «ماركة» معروفة في مجال التجنيد. فروعه تنتشر في مدن وبلدات كثيرة. لديهم بضعة شبان في حيهم افتتحوا فرعاً لكي ينشئوا مجموعة مسلحة، يترأسونها ويتباهون بالسلطة، رغم أن نشاطهم يكاد ينحصر بالاستعراض والاستنفار.. داخل الحيّ. بالمناسبة، سارقو الجوز هم أيضاً من «الصقور».
وقع الحكايات يصير ثقيلاً حين ينتقل لرصد ظاهرة لا يعرف من خبرها إلا أنها جاءت مع سنوات الحرب: الجرائم العائلية. يروي بعض سكان بلدة صغيرة كيف شهدت سلسلة من الحوادث المأساوية، لم تكن تعرفها من قبل بهذا الشكل. حساسية وعدم اتفاق بين شقيقين شابين، انتهى بأحدهما يفرغ رصاصات مسدسه في جسد أخيه داخل بيت العائلة. شاب آخر فقد عقله من الشجار العائلي مع زوجة عمه، قتلها ثم انتحر.
تروي سيدة ما حصل في حادثة كانت شاهدةً عليها: «هناك رجل يقدم نفسه على أنه من أعيان البلدة، وهو متطوع في الجيش. كان في ثورة غضب ويهدد الجميع، فغادر أهلُ بيته خوفاً من مصيبة. أحد أولاده قرر أن يذهب وحيداً لتهدئة والده. رأيناه يمضي وقلوبنا في أيدينا. بعد لحظات، سمعنا صوت رصاصات، المسكين كان أهدأ وألطف واحدٍ بين أبنائه».
في جميع تلك القصص، يحضر المثل الشهير: البندقية لا تبقى معلقة على الحائط من أول المسرحية إلى آخرها. لكن انتشار السلاح ليس سبباً فاصلاً. السلاح الفردي كان يقيم في بيوت كثيرين، سواء مدنيين أو ممن في الجيش والمخابرات. مع ذلك لم تشهد البلدة تلك الحوادث المأساوية. لا يجد من يعيشون هنا تفسيراً سوى الخراب النفسي الذي سببته الحرب: صار قتل الناس حدثاً يومياً، جعل حياة الأحياء رخيصة بسعر «رصاصة»!
هذه الخلاصة يكررها سوريون قادمون من مناطق سيطرة «المعارضة». يقول شاب من عائلة معروفة في درعا إنهم باتوا يدركون تماماً أن المطلوب هو «إنهاء أي وجود لمجموعات وأصوات معتدلة». يتحدث عن سلسلة عمليات اغتيال فاشلة لاحقت قائداً عسكرياً بارزاً من عائلتهم، كان يتزعم فصيلاً معارضاً في «الجيش الحر» قبل أن يتمكنوا من قتله أخيراً. يروي ذلك ليخلص إلى أنه «صار واضحاً لنا أن (جبهة) النصرة لن تترك فصيلاً معتدلاً واحداً في درعا وريفها، الآن عمليات الاغتيال تلاحق قادة آخرين».
أكثر ما تبرز علاماتُ التوافد السوري في إمارة الشارقة. الشوارع الرئيسية تكثر فيها أسماء متاجر بعض العائلات السورية الشهيرة، في مجال المطبخ والحلويات، إضافةً ليافطات تنسخ أسماء مدن ومناطق. حول بحيرة الشارقة، بنافورتها العالية المقتبسة من بحيرة ليمان في جنيف، تنتشر حدائق ومنتزهات، مطاعم ومقاه. هنا تسمع اللهجات السورية في كل مكان، ومفاجآت: النشيد الوطني للجمهورية العربية السورية، مرة واحدة!
الصوت مسموع، ورادار الأذن يحدد مباشرةً المصدر: هاتف نقال لرجل مسنّ، جلس وحيداً يتأمل شاشته على مقعد في حديقة «المجاز» في محاذاة البحيرة. كان يشاهد فيديو لأغنية حضر النشيد في جزء منها: «رغم كل شيء الواحد يصاب بالحنين»، يقول أبو زهير كمن يحسم نقاشاً. غادر حي الميدان الدمشقي مع زوجته قبل عامين، بضغط من ولديه المقيمَين في الشارقة. لكنه قلق ومصاب بحسرة وجودية: «هنا لا اصحاب حولنا، أسكن مع الحاجة في شقة لوحدنا، الواحد يموت ولا يسمع به أحد».
الرجل السبعيني لديه مثاله الحيّ. فيما كانت الشمس تغيب خلف الابراج السكنية المحيطة بالبحيرة، أخذ يتذكر كيف مشى قبل أيام خلف جنازة رجل عرفه هنا، مات في حادثة سيارة، ليدفنوه في مقبرة للغرباء خلف المدينة الصناعية: «كنا خمسة نمشي خلف النعش مع ابنه».
كل الحسابات الوجدانية، والمادية، تجعله لا يكف عن التساؤل: «أين كنا وأين صرنا؟». مقارنة مفجعة تجعل أبا زهير يقول بعد لحظة تأمّل: «يا أخي لا نريد أن نكذب على بعض، لا يوجد مثل أيام أمان (الرئيس السوري الراحل) حافظ الاسد، لو تركوا سوريا لكانت أحسن من كل بلدان المنطقة. يريدون تدميرها بأيدينا ونحن قمنا بالمهمة على أحسن وجه. مشكلتنا كانت وساخة عنصر المخابرات، لكن هل يستأهل ذلك أن ندمر البلد؟»، يتنهد ثم يكمل «أنا أعرفهم في الشام، كلهم بياعو مازوت، كل واحد حمل بارودة ويريد تحرير البلد، يحرروها من ماذا؟ كلهم زعران، اسألني أنا فنحن نعرفهم. أنا لست معارضا ولا مواليا، لكن نعم أنا موال للبلد».
يحدث ألا تبقى قصص الغالبية صامتة، خصوصاً في اللقاءات الجامعة لكل المسكوت عنه. السواد الاكبر من السوريين موظفون، لديهم رواتب معقولة، إجمالاً، تؤمن معيشتهم وتديم خط إعاشة لمساعدة عائلاتهم في سوريا. لكن هناك أيضاً أثرياء الأعمال، وأثرياء بلاط السلطة.
يتناقل المقيمون حكاية موظفة سورية في محل ملابس معروف، حينما فقدت أعصابها وهي تشهد التبضّع الباذخ لشخصية شهيرة قريبة من «النظام». كلتاهما من الاقلية ذاتها التي عمم الشحن الطائفي أنها «النظام». الموظفة لديها اخوة وأقارب يقاتلون في الجيش السوري، بعضهم صار مجرد صور على الجدران. لم تستطع منع نفسها من الانفجار: «أنتم لا تستحون أبداً، سرقتم البلد وهربتم ونحن ندفع دمنا كل يوم». مرافعةٌ مفحمة، لكن ليس لخصم كان جوابه على رأس لسانه: «من أنتم؟ لولانا لكنتم لا شيء وبقيتم في الجبال». السلطات الاماراتية رحلّت الموظفة. نقطة.
يقول السوريون الصامتون، من المحسوبين على أهل «المعارضة» أو على أهل «النظام»، إن لا حول لهم ولا قوة. لا يملكون الآن غير قصصهم الصامتة. الحرب صارت، مع حكم السلاح ثم هيمنة الإرهاب، قضية وجود يرونها أولوية تُلزمهم أن يكبسوا ملح السكوت على جراحهم ومظالمهم.
حين قرأ أفراد منهم قصصاً رووها لمقال «السوريون في الامارات: اللجوء الأغلى في العالم»، نشرته قبل أيام، كان لديهم اعتراض. لا يصحّ ألا يمكنهم الرد والتعقيب، حتى لو تحدثوا بشرط عدم كشف أسمائهم. اعتبروا أن الملمح السلبي غطى على الايجابية «الاستثنائية» التي يرونها في الإمارات. صاروا يسألون: ما هو البلد المقتدر الذي يمكن لسوريين أن يجلبوا إليه اخوتهم وأهلهم، بشكل نظامي، مهما دفعوا لقاء ذلك، وحتى لزيارتهم وليس للإقامة؟ هل هذا ممكن مثلا في الدول الأوروبية، الرافعة لشعارات القيم الانسانية؟ الجواب يقوله الواقع: هذا غير ممكن.

وسيم إبراهيم

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...