من ينقذ ضريح الكواكبي من إهمال المصريين؟

23-04-2007

من ينقذ ضريح الكواكبي من إهمال المصريين؟

حين شاهدت ضريح المفكر العربي السوري عبد الرحمن الكواكبي ( 1854-1902) الذي كشف للأمة مواطن القوة والسمو والشموخ , ومواطن الضعف والانحلال والتخاذل , في حياتهم العامة وفي شؤون عقيدتهم ودنياهم , ارتسم على وجهي الغيظ والحنق للحالة المؤسفة .

والمزرية التي وصل إليها هذا الضريح , الذي يضم في حناياه ما تبقى من رفات إمام المناضلين وقدوة المفكرين : الرحالة والمؤلف , والصحافي , والعالم المستنير , عبد الرحمن الكواكبي .‏

ولولا التحية الشعرية التي نظمها الشاعر الكبير حافظ ابراهيم , بمناسبة رحيله , والتي كتبت بخط صبياني عشوائي , فيما بعد , لما عرفت موقع الضريح الغافي في وقار والمكلل بالأمجاد ,في مدينة الموتى , أقصد مقبرة ( باب الوزير ) الكائنة في القاهرة .‏

قرأت على وجه الضريح هذين البيتين :‏

هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى‏

هنا خير مظلوم , هنا خير كاتب‏

قفوا واقرؤوا أم الكتاب وسلموا‏

عليه فهذا القبر قبر الكواكبي‏

لقد انتابتني الحيرة من جراء الإهمال الفظيع الذي يظهر جلياً للزائر , حين يقع بصره على الضريح , لاسيما وأن الكواكبي النبيل لم يرتكب ما يوجب ذلك الإهمال , أو التنكر لتراثه العريق , سوى أنه قال للسلطان في صحوة ضمير خالدة وفي ساعة مكاشفة جريئة :‏

( الاستبداد أشد وطأة من الوباء . أعظم تخريباً من السيل . أذل للنفوس من السؤال . إذا نزل بالنفوس سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء , والأرض تناجي ربها بكشف البلاء ) .‏

ويقول في مكان آخر وفق أسلوب المواجهة الخطابية على منبر الصحافة أيام زمان :‏

( الاستبداد لو كان رجلاً يحتسب وينتسب لقال : أنا الشر, وأبي الظلم , وأمي الإساءة , وأخي الغدر , وأختي المسكنة, وعمي الضر , وخالي الذل , وابني الفقر , وابنتي البطالة , وعشيرتي الجهالة , ووطني الخراب . أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال ...)‏

ويبدو أن هذه اللهجة الجديدة , وهذه الأفكار المضيئة في ليل العرب الدامس , لم ترق لأولي الأمر والمستبدين القدامى , ثم تيقنوا بعد ذلك بأن هذا الرجل المفكر , القادم من حلب الشهباء , يتطلع إلى قلب دولة هرمة يدب الوهن في مفاصلها , واقامة دولة عصرية من طريق دعوته الفكرية التحررية , التي تحمل بذور الثورة الواعية .‏

فصدرت الأوامر بضرورة التخلص منه, دون إثارة ضجة, فكانت النتيجة المؤسفة أن دس له السم في فنجان القهوة الذي كان يحتسيه في مقهى يلدز )‏

قرب حديقة الأزبكية في القاهرة , وكان ذلك مساءالخميس /14/ حزيران 1902 م /.‏

وأمر الخديوي , الذي كان مغلوباً على أمره , بدفن الكواكبي في صباح اليوم التالي , على نفقته الخاصة , وأن يعجل بدفنه , وأرسل مندوباً عنه لتشييعه , ودفن في قرافة (باب الوزير ) في سفح جبل المقطم , دون إجراء التشريح الطبي لمعرفة سبب الوفاة , ثم نقل ضريحه عام /1917م/ إلى مكان آخر في نفس المقبرة لأسباب مجهولة ...‏

وتجدر الإشارة .. إلى أن الكواكبي وصل إلى مصر في منتصف شهر تشرين الثاني سنة /1898 م / , وخلال اقامته في مصر كان يؤثر السكن في الأحياء الشعبية , بين شارع محمد علي والحي الحسيني جوار الجامع الأزهر , ليتاح له نشر أفكاره الإصلاحية بين طلبة الأزهر وفي أوساط المتعلمين .‏

وكما هو معروف .. فقد أمضى الكواكبي حياته على قضيتين اثنتين شغلتا تفكيره , وهما قضية البحث في أسباب تأخر الأمم , بخاصة أمم العالم الإسلامي , وقضية البحث في عوامل الاستبداد في حكم الدول .‏

وأودع خلاصة أفكاره المعمقة عن قضية العالم الاسلامي في كتابه ( جمعية أم القرى ) وأودع زبدة آرائه وخلاصة تجربته الحياتية ومشاهداته عن الحكم والاستبداد في كتابه ( طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ) الذي لا يزال يحظى باهتمام القراء حتى أيامنا هذه .‏

بقي أن نذكر بأن ضريح الكواكبي في طريقه إلى الاندثار والضياع بين عشرات الألوف من القبور المتشابهة , نتيجة عدم الصيانة والترميم السنوي . كما يخشى على هذا الضريح في زمن قادم ليس ببعيد من ازالته من مكانه , بسبب شق أحد الشوارع , حيث أن ظاهرة التوسع وشق الطرق الجديدة , من أجل التنظيم مألوفة في معظم العواصم العربية .‏

ولعل الجهات الرسمية في سورية , وزارة الثقافة على سبيل المثال , تقوم مشكورة بتقديم طلب إلى وزارة الثقافة المصرية , من أجل استرداد الرفات , ليدفن في مسقط رأسه حلب , بصورة لائقة , ولاغرابة في هذا الطلب المشروع , لأن الجزائر الشقيقة , بعد نيلها الاستقلال , استردت رفات البطل المجاهد عبد القادر الجزائري , الذي دفن على بعد أمتار قليلة من ضريح الشيخ الأكبر ابن عربي ... وفي هذا الشأن ... نأمل من السفارة السورية في القاهرة , الاهتمام بهذا الضريح وإحاطته بشبك حديدي , حماية له , كخطوة أولى جادة , من الضياع والاندثار في ذمة التاريخ , ولئلا نعض أصابعنا على مافاتنا .‏

وأنهي كلامي عن مأساة ضريح الكواكبي / بهذه المفارقة التي سمعتها منذ مدة ..وتأكدت منها بنفسي :‏

حدثني صديقي الذي زار منزل الأديب الفرنسي فيكتور هيغو في حي ( المارية ) بباريس , أن المرشد السياحي الذي يقف بجانب الحذاء الذي كان ينتعله مؤلف رواية ( البؤساء ) و( أحدب نوتردام ) , يجيد النطق بخمس لغات عالمية , ويحمل شهادة دكتوراه في الأدب الفرنسي ووظيفته أن يقول لزوار المنزل - المتحف : هذا هو حذاء أديبنا الكبير ... وأنهى صديقي كلامه بدعابة لطيفة قائلاً :‏

-اكتشفت أن هيغو كان ينتعل جزمة أكبر من قدميه بعدة سنتمترات .. لذلك كانت أعماله عظيمة .. لأن هناك علاقة سرية بين الحذاء المريح والتفكير السديد .‏

كما يوجد في مدينة مانشستر في بريطانيا حديقة خاصة بالأديب شكسبير , وقد علقت على بابها لوحة تقول :‏

هنا تزرع أنواع الزهر , والنباتات , والأعشاب التي ورد ذكرها في مسرحيات الكاتب الخالد وليم شكسبير .‏

هذا عندهم ... الجلال ... والوقار ... والروعة ... واحترام أعلامهم ورموزهم الثقافية والفكرية ... أما عندنا فالأمر يختلف ... البساطة , والزهد , والدروشة , والتقشف , والمزاجية المغلفة بالحياء المصطنع .‏

هاني الخير

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...