موقع مسيحيي المشرق الأرثوذكسي في العالم العربي

05-04-2007

موقع مسيحيي المشرق الأرثوذكسي في العالم العربي

اثرت التطورات السياسية التي عصفت بلبنان والمشرق العربي خلال العقود الاربعة الأخيرة على الوجود المسيحي في المنطقة، وعلى دوره التاريخي في جميع ميادين الحياة العربية، وكانت السلبيات طاغية في هذا المجال. جرت قراءات متعددة لهذا الموضوع منها ما طاول العوامل البنيوية للمجتمعات العربية وعلاقات المجموعة بعضها ببعض، فيما اشارت قراءات اخرى الى العوامل الخارجية ودورها في تقوية هذا الوجود في مراحل معينة ثم اضعافه لاحقاً، وتناولت بعض القراءات نتائج استعصاء الحداثة في المجتمعات العربية وما تسبب به هذا الاستعصاء من انبعاث للعصبيات الطائفية والاثنية واستخدام الرموز الدينية في الصراعات السياسية. اتسمت بعض هذه القراءات بموضوعية ونزاهة، فيما انحكمت اخرى بعداءات طوائفية تغذّت من صراعات الماضي والحاضر معا. تشكل المقالات التي كتبها الوزير الباحث طارق متري على امتداد العقد الأخير، والصادرة في كتاب عنوانه "سطور مستقيمة بأحرف متعرجة، عن المسيحيين الشرقيين والعلاقات بين المسيحيين والمسلمين" واحدة من الدراسات المتسمة بالموضوعية والنظرة العقلانية والواقعية حول هذا الموضوع، صدر الكتاب لدى "دار النهار" و"منشورات البلمند، مركز الدراسات المسيحية – الاسلامية"، وقدّم له الدكتور رضوان السيد.
في محور اول يلقي طارق متري الضوء على موقع مسيحيي المشرق الارثوذكسي في العالم العربي منذ بدايات الاسلام. لم تكن هذه المسيحية غريبة عن العرب قبل الاسلام، فقد انتشرت النصرانية في اكثر من قبيلة من قبائل العرب في الجزيرة العربية. عندما جاء الاسلام، لم يجد الارثوذكس في الدين الجديد نداً لهم من الناحية اللاهوتية، وظلوا على امتداد العهود الاسلامية على ولاء للدولة الجديدة. كل عودة منصفة الى تاريخ الحضارة العربية – الاسلامية، تظهر الدور المهم الذي اضطلع المسيحيون الشرقوين في كل الانجازات الفكرية والفنية والأدبية لهذه الحضارة، كما تبرز اهمية المسيحيين في تكوينها وتشييد بنيانها الاجتماعي والثقافي. لا يخفي طارق متري ما تميز به مسيحيو الشرق عن البيزنطيين الذين كانت دولتهم قائمة آنذاك، ومدى الخلاف السياسي واللاهوتي معهم. ويعزو الى المسيحيين الشرقيين دوراً مهماً في مساعدة الجيوش الاسلامية في تحقيق فتوحاتها وتكريس سيادتها في اكثر من مكان.
ترك الصراع البيزنطي – الاسلامي اثراً سلبياً على العلاقات الاسلامية – المسيحية خلال تلك الفترة، على رغم التعاطف الواسع لمسيحيي الشرق مع الدولة الاسلامية الصاعدة، فاتخذ هذا الصراع بعداً دينياً زاد من توتره النجاح السريع وغير المتوقع للجيوش الاسلامية وإلحاقها الهزيمة العسكرية بالجيوش البيزنطية. لم يمنع هذا التوتر في العلاقات من استمرار الدور الفاعل لمسيحيي الشرق في استنهاض المجتمعات العربية وخصوصاً في القرنين التاسع عشر والعشرين. فقد ميزوا انفسهم عن المرسلين الغربيين وتوجهاتهم السياسية، وتبنّوا الدعوة العربية ونظّروا لها، واكدوا العلاقة الحضارية بين العروبة والاسلام. هكذا شاركت النخب الارثوذكسية في حركة النهضة العربية من منظارها الخاص، جامعةً في ذلك، الانتماء الشرقي الراسخ، على انفتاح مبكر على الغرب وافكاره التنويرية ولاسيما في الدعوة الى العلمانية وفصل الحقل الديني عن ميدان السياسة.
لكن هذا الموقع المسيحي، الشرقي منه والعام، شهد تراجعاً منذ نصف قرن في المواقع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. لا يتجاهل طارق متري في هذا المجال اقتران التطورات الخارجية بالتغيرات الداخلية في المجتمعات العربية ودورها في هذا التحول التراجعي. كانت الحروب الصليبية وغزوات المغول سبباً اول ورئيسياً في التراجع، تليها تلك العلاقة التي نسجها الغرب مع العالم الاسلامي وسعى فيها الى توظيف الدين في تعزيز مواقعه السياسية داخل الامبراطورية العثمانية. على رغم ان معظم المسيحيين الشرقيين رأى في الحملات الصليبية استهدافاً سلبياً واعتداء خارجياً يصيبهم بمقدار ما يصيب المسلمين، الا ان بعض الولاءات المسيحية وتعاونها مع هذه الحملات اجج عداوات اسلامية عبّرت عن نفسها برواج كتابات فقهية اسلامية اتسمت بالقسوة في حق المسيحيين. وقد ساعد سقوط مدينة القسطنطينية في يد العثمانيين، في تكريس نظرة اسلامية ترى في سيطرة الاتراك السياسية والعسكرية المتنامية على حساب المواقع السياسية ذات الطابع المسيحي، دليلا اضافياً على تفوق الاسلام على المسيحية.
تشكل التغيرات البنيوية في المجتمعات العربية والاسلامية العامل الأهم في تناقص دور المسيحيين وتراجع فاعليتهم. تبدو الهجرة المسيحية من العالم العربي نحو الغرب، العامل السلبي الاخطر في تراجع هذا الدور، وهي هجرة تعبّر عن احباط ويأس من امكان التعايش والتفاعل على قاعدة الاحترام المتبادل والاعتراف بالمساواة المواطنية بعيدا من كل تمييز طائفي ضد الاقليات المسيحية. يحتل فشل مشروع التحديث العربي مسؤولية مركزية في هذا المجال، فلم تستطع انظمة الاستقلال المتوالدة منذ منتصف القرن العشرين انجاز المهمات الملقاة على عاتقها في تحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي ونشر الديموقراطية واقامة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والتصدي للمشروع الصهيوني واستعادة الاراضي المحتلة. عبّر هذا الفشل عن نفسه بهزائم داخلية مجتمعية اصابت قوى التقدم والتنوير، وهزائم امام العدو الخارجي طاولت الجيوش العربية ومجتمعاتها على السواء، مما أدى الى خلق فراغ سمح للحركات الاصولية المتطرفة بأن تقدّم نفسها بديلا من القوى السياسة والاجتماعية والعسكرية المنهزمة، وتطرح مشروعها خلاصاً للأمة، وهو مشروع يحمل في جوهره تمييزاً دينياً وطوائفيا تجاه الاديان غير الاسلامية، اضافة الى معاداة هذه الحركات لكل من يخالف توجهاتها ويرفض هيمنتها، الى اي دين انتمى.
شكل الموقف من المسيحيين العرب حلقة اساسية في توجهات هذا المشروع الاصولي الصاعد، فربط المتطرفون الاسلاميون بين الغرب والمسيحيين، فصنّفوهم كتلة واحدة ووضعوهم في خانة العداء. استعيدت فتاوى تستند الى آيات الحرب في النص الديني، نزلت خلال الصراع مع الروم والفرس في المراحل الأولى من صعود الاسلام، واعطيت هذه الفتاوى راهنية، كانت ترجمتها ممارسة عدائية ضد المسيحيين هدّدت مصيرهم الكياني في الوجود وعلى الصعيد الشخصي. مع اقرار الباحث بالاسباب الموضوعية لتراجع الدور المسيحي، الا انه يشير الى ان بعضاً من اجوبة الكنائس المسيحة تركز على تأكيد الانتماء والاحياء الديني وتوظيف المؤسسات الحديثة في الحفاظ على روابط الانتماء الطائفي وتوثيق عراه كوسيلة وحيدة لتماسك المسيحيين واستعادة دورهم.
يحتل موضوع الحوار بين الاديان عموماً والحوار المسيحي – الاسلامي خصوصاً، موقعاً مهماً في كتابات طارق متري، وهو العامل في هذا المجال منذ اكثر من ثلاثة عقود. يرى في الحوار بين الاديان ثقافة تستند الى اساس روحي لان عمل الله الخلاصي يتعدى مجال عمل الكنيسة، ولان التعدد الديني يقوم على فهم للايمان، فحواه ان يد الله تقود كل الناس الى الاله الحق. يؤكد ان الحوار يجب الاّ يهدف الى البحث عن الاتفاق بأي ثمن، بل يستلزم شروطاً تقوم على القبول بالاختلاف والنزاهة الفكرية والتحرر من الصورة الذاتية لكل طرف عن الآخر، وتحريره ايضاً من موازين القوى السياسية والعددية، والتمييز بين الديني والسياسي، بما يعني الاحجام عن تسييس الدين. هذه الشروط الضرورية واللازمة للحوار تسمح بتحرير الثقافة الدينية من سطوة الثقافة الطائفية وتعيد الى الدين جوهره الحقيقي بما هو قيم روحية واخلاقية وانسانية عامة تطاول جميع البشر، الى أي دين انتموا أو لم ينتموا.
من موقعه الفاعل في الحوار المسيحي – الاسلامي، يشير طارق متري الى الصعوبات التي واجهت هذا الحوار ولا تزال، حيث لم يكن يسيراً ان يبدّل المسيحيون نظرتهم الى ذواتهم والى المسلمين، كما لم يكن سهلا ان يضرب المسلمون صفحاً عن الماضي المليء بمشاعر الريبة والعداء تجاه المسيحيين، وان يحلّوا تالياً الثقة محل الشك في نيات الكنائس حيالهم. لا يوفر متري تجاوب الحوار المسيحي – الاسلامي في لبنان من نقد صارم استحقه هذا الحوار. فبسبب "كثرة الطائفية وقلة الدين، تحول هذا الحوار الى وجه من وجوه التنافس على السلطة او تقاسمها، واستعارة لغة الدين للدفاع عن المصالح المفترضة للطوائف، مما منع القوى المتحاورة في تحديد ما يجب تناوله وما يجب الامتناع عن طرحه. لذلك فشلت غالبية مشاريع الحوار، وتحول لقاء الشخصيات الدينية الكبيرة الى فولكلور، اهمّ ما فيه تلك الصور التذكارية لاقطاب الحوار.
مما لا شك فيه ان الموضوعات والاسئلة التي اثارها طارق متري لا تزال تكتسب راهنية والحاحية في المعالجة. تزداد اهميتها في ظل هذا الاستعصاء المتمادي لدخول العرب في العصر ودقّ ابواب الحداثة، وفي هذا الانفلات المتمادي لعناصر التخلف وموروثاتها، بكل افرازاتها الطائفية والعصبية وتسلط الخرافة والاسطورة على كل مظاهر العقلانية.

خالد غزال

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...