واسيني الأعرج في «البيت الأندلسي»..اللغـة هـي منفـى المهزوميـن

15-07-2011

واسيني الأعرج في «البيت الأندلسي»..اللغـة هـي منفـى المهزوميـن

يعزف الروائي الجزائري «واسيني الأعرج» روايته الجديدة «البيت الأندلسي» على أوتار القلوب الغافية، تقاسيمَ موسيقية شغوفة بالوجد والشوق، فيوقظ بهسهسة جميلة المدفونات المتوارثة، ويهز وجدانا خُتم بالنسيان.
تفتتح الرواية ماسيكا ذات الأصول المورسيكية مثل الآلاف من سكان الجزائر، وتسترجع تاريخ الأسئلة المعلقة خلال خمسة قرون، وتعيد تعريف المنفى الحقيقي للإنسان.
بطل الرواية هو المكان «البيت الأندلسي»، المؤثث بأناقة إنسانية عالية تهتم بأدق التفاصيل كي تدخل العين أينما نظرت في غمرة الحب والألق الكبير، مما طوبه صدى للنور والموسيقى.
عايش البيت الأندلسي زمن الحروب والأحقاد المتوالدة، الزمن الذي سادت فيه الكراهية بين الناس وبين الأديان، بين الأجناس وبين القوميات، لكن الحب أوثق أواصره ولحمته، وبرهن أن الحقد أعمى مهما تجلبب بالأيقونات!
حين كبرت باسيكا تولدت لديها فكرة جمع وحماية أحزان القيم الأخير على البيت الأندلسي مراد باسطا. وتدريجيا تورطت في البيت الأندلسي، وأصبحت تعرفه أكثر حتى من الذين سكنوه وأقاموا فيه، أو الذين توالوا عليه على مدار أكثر من أربعة قرون.
تأكدت باسيكا خلال عشر سنوات من التقصي أن المخطوط المتوارث هو حقيقة غاليليو ومأساته، وحقيقة باسطا وخيباته، وحقيقتها هي أيضا وخوفها، وحقيقة من سيقرؤه وأسئلته. وبعد أن ظل مخزونا ومهربا ومسروقا، ومبعثرا أيضا، تضعه باسيكا اليوم بين أيدي عشاق الأبجدية الحية المليئة بأنين الذين مضوا، فهم وحدهم يعرفون كشف الآثار الخفية العالقة بكل كلمة وبكل لحظة خوف وسعادة هاربة.
أكدت المخطوطة المسروقة أن غاليليو أو أحمد بن خليل، التقى حقيقة بالرجل الأحمر، سرفانتس، وأن ما دار بينهما كان حقيقة تفاداها الكثير من المؤرخين: فليس غاليليو هو فقط الموريسكي الذي أنقذه من موت محقق، في وقت باعه فيه مفوض محاكم التفتيش المقدس، ولكنه أيضا جزؤه الخفي في الكتابة وقناعه المنقذ من محاكم الموت..
يدشن مراد باسطا حكاية أجداده دون أن يتكلم عن منفاه القاسي، الذي عاشه ويعيشه وسط ناس لا يشبهونه، طالبا من باسيكا أن تدفنه في مقبرة ميرمار التي دشنتها جدته سلطانة، وهي المقبرة الوحيدة في الدنيا التي امّحت فيها كل الأديان، إذ لا تزال تقاوم الأحقاد وجنون البشر الذين ينامون على يقين وحدهم يصنعونه ويموتون فيه، يفصّلون داخل الدين الواحد، أديانا على مقاسهم.. وكأن المقبرة هي بديل من فسيفساء الحلم الأندلسي الضائع، التي طالما برهنت أن «الأديان ليست في النهاية إلا ظلالا هاربة لأشياء عميقة فينا، يتقاسمها الحب والكراهية. الناس هم من جعلها مقياسا وضوابط للقسوة والعزلة».
تختزل تعريفات الآلام التي يذكرها باسطا صيرورة الفناء، التي تؤطر بقسوة صورة وهوية الإنسان الجزائري المعاصر: اندثر اليوم كل شيء أو يكاد، وحل المحو المبكر على ذاكرتنا وحاضرنا، واستقر الخوف فينا بدل الحب، والقتل بدل السماحة، الغفلة بدل النباهة، الطغيان بدل الرشد، القشرة بدل اللب، والدين بدل العقل. مما يوضح خيار انسحاب الأحبة السريع نحو الموت، أو قسرية التخلي عن أرضهم لصالح الغبار أو قسوة المنافي.
من هنا تستمد وصية الجد المؤسس للبيت الأندلسي غاليليو صداها التاريخي الواسع: «حافظوا على هذا البيت، فهو من لحمي ودمي. ابقوا فيه ولا تغادروه حتى ولو أصبحتم خدما فيه أو عبيدا..إن البيوت الخالية تموت يتيمة». فالبيوت في هذه البلاد كانت تعزف ولم تكن تبنى، ومن هنا هشاشتها. عندما تفرغ، تجتاحها الضباع بفكاكها الحادة والصلبة، قبل أن تتعفن من الداخل والخارج.
ابتدأ تدوين المخطوطة على يد غاليليو وتواصل حتى انتهى إلى مراد باسطا، فالكتابة تعادل حق الاستقامة عند الإنسان، مما يجعل الوارثين الجدد مجوفين، فلا هم لهم ولا أسرار تشغلهم إلا العبث بجنون الأسلاف وهزائمهم!
لم يترك الورثاء شيئا واقفا إلا وأفسدوه، استفادوا من دم الشهداء في شكل مصالح وشركات ومنظمات مختلفة للمزيد من النهب، ثم أخرجوا من صلبهم ما سماه باسطا حلقة الضباع التي تحولت إلى مافيا جشعة تلتهم العقارات وتحاصص مشاريع المواطنين..
جعل «الأعرج» روايته موشحات أندلسية تروي سحر الأحاسيس ونبض الأمل وسط خراب القسوة وخدر العقل، فتواترت الفصول وتعشق القديم بالحديث، ليثبت أن الخيبات والانتكاسات تتخفى بين أسطر كتاباتنا ورسائلنا وتاريخنا!
رغم ذلك لا يستسلم «الأعرج» للأسى المطبق فالحياة لم تكن مغلقة، وهناك دائما خيط نور يأتي بالصدفة، نلتصق به حتى النهاية، ويعطينا بعض الرغبة في الاستمرارية، وما بدأه القس الإسباني أنجيلو ألونصو حين أنقذ غاليليو من محاكم التفتيش، تواصل في حماية غاليليو للرجل الأحمر الأسير ميغيل سرفانتس، ليكتمل عند ماسيكا وهويتها الملتبسة كحامل اجتماعي للتاريخ الإنساني الحقيقي.
ما يمكن أن نسميه بتعاقب الحيوات والأحزان، يتوطد أيضا في كل منعطفات الرواية وزواياها الأكثر سرية وحميمية، فمصير زهرة شقيقة غاليليو التي عذبها عسكري مرتزق بعد أن اغتصبها لأنه شم فيها رائحة غير رائحته، تكرر في حالة مارينا ابنة غاليليو التي كسر الانكشاريون روحها الوقادة بعد أن عطبوا زوجها، فاختفت كما فعل الطيب الهامل أيام الورثاء الجدد... هكذا هو التاريخ الآخر الذي ُيجبل أثناء الألم والخوف وضغائن الإخوة.
أما التاريخ الفعلي الذي يسطره المنتصرون عبر حروبهم فهو مناظرة قوية بين غاليليو وسرفانتس، تُظهر مسافة الخوف وهشاشة الذاكرة الإنسانية: متى كانت الحروب ذكاء؟ أخطرها الحروب التي يتخفى الدين أو شبيهه وراءها، هي مجرد لعبة لا تتعدى عتبة من يحكم؟ من يسير؟ ومن يستفيد؟
يبين «الأعرج» من خلال المناظرة أن كل حرب مهما كانت عادلة، تبطن في عمقها قدرا معينا من العجز عن التفكير، فالانتصار أو الهزيمة ليسا إلا تقلبات طارئة لحالة واحدة هي انهيار الإنسان نفسه كقيمة منذ البداية.
عايش سرفانتس خسارة الشرط الإنساني، وكيف يتحول المرء في لحظة من سلطان إلى لا شيء، مما دفعه لأن يتساءل هل كان لكل هذه الحروب جدوى غير هذا التعلم الذي تفرضه هوامش الحرب وليست الحرب؟ وهنا يكتمل المعنى مع غاليليو في قوله: تبرز الحاجة دوما إلى انكسار عظيم يعيدنا إلى اليقين الوحيد، الخسارة!
في مواجهة الحروب والإلغاء تنهض اللغة كرهان حيوي على البقاء، وكمعادل مكافئ يمنح الإنسان أفق السلام الغائب والكرامة الضائعة. ويعلو نشيد القص في الحواري والأزقة، وبين أوراق غاليليو، ويتأجج مع سرفانتس، الذي راهن على الحكاية قبل حياته، وكاد أن يموت صمتا لولا مجيء غاليليو. ولأنه كان يملك حظ الانتظار والحلم وقسوة خيباتهما، فقد حول شريكه في الإنسانية غاليليو إلى جزء منه ومن الحكاية الكبيرة. ثم أتت مارينا التي كانت مثل غاليليو مليئة بالقصص الكثيرة حتى انتهت ضحية في عمق الحكاية، ففتشت كل تفاصيل كتاب سرفانتس الشهير، كلمة كلمة، جملة جملة، نفسا نفسا، رعشة رعشة، وعرفت بسهولة أن الذي كان يروي في دون كيخوته، لم يكن في النهاية إلا والدها.
حين أسس غاليليو في منفاه بيته الأندلسي أقسم مع زوجته سلطانة على أن يورثوا أبناءهم كل الضوء الذي أحاط بهم وأصاب بدفئه القلوب الوجلة، ساعيا لإبعادهم عن كل الظلام الذي دخلهم في غفلة منهم، لكي لا يلبسوه ولا يورثوه لذريتهم. لكن بين الأشواق والحقيقة حرائق مثل الجبال..
تواصلت خيانات الأحفاد والورثاء حتى انتهى البيت الأندلسي إلى اختزال الحالة المزرية التي وصلت إليها البلاد، إذ حوّل إلى مزبلة، بسبب الإهمال ثم حوصر بالفراغ بعد أن تم شراء كل البيوت المحيطة به وتهديمها، بغرض السطو عليه، لأن شركة وطنية أجنبية أرادت ذلك... وتراءى جيدا أن كشف تاريخ البيت هو كشف لكل الانهيار الذي أحاط بالمدينة والبلد.
غربة باسطا ليست إلا صيرورة طبيعية لاغتراب جده الأول غاليليو الذي عاش غريبا ومات غريبا كسابقيه من الناس الطيبين، وامتدادا لغربة مارينا الكبيرة، وعزلة حارس المدينة الولي عبد الرحمن الثعالبي الذي تعب من حراسة مدينة كثر سُراقها..
تكامل الغربة يفتح الباب أمام تساؤل باسطا إثر هزيمة الأحرار في اسبانيا: هل يوجد وطن خاص للمهزومين؟ ويكون الجواب عند غاليــليو: اللغــة هي منفى المهزومين!
استطاع باسطا عند صدور قرار تهديم البيت الأندلسي أن يطلق نذيرا أخيرا لوطن الشهداء: مليون ونصف مليون شهيد، بل ثلاثون مليون ميت ينتظر فقط أن يقيد في السجلات ويوقع تحته: مات يوم ولد!
أعاد باسطا صياغة مفهوم المواطنة وجعله كامنا في جراحات الجسد، التي يختبئ فيها تاريخ الذين مروا، فستر الجراح يتواصل كقدر محتوم منذ زمن الأجداد، وكذلك حب الأرض المحجوب في العيون الحزينة للمنفيين..
«إن البيوت الخالية تموت يتيمة»، كذلك القلوب الصدئة التي تغافلت عن نور المحبة، يتهاوى الهيكل الذي يحويها في مسالك الظلمات، معلنا زوال الشرط الإنساني.
ربما كان السؤال الفعلي الذي يتواتر خفية في هذا البناء اللغوي الجميل هو كيف يلتقي الإنسان مع أنداده العقلاء ومتى يغافلون منبسط الحاقدين كي يسطروا سبب الوجود الحقيقي!

جينا سلطان

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...