حوار مع الناقد والروائي نبيل سليمان

23-06-2006

حوار مع الناقد والروائي نبيل سليمان

يتميز الروائي السوري نبيل سليمان بممارسة النقد الأدبي بالإضافة إلى اشتغاله في حقل الإبداع الروائي الذي بدأ مع روايته (ينداح الطوفان) العام 1970 ، وآخر ما صدر له رواية (دَرَجُ الليل.. دَرَجُ النهار) ، وما بينهما أربع عشرة رواية، وفي النقد أكثر من عشرين كتاباً. كانت روايته الجديدة منطلق الأسئلة في هذا الحوار معه :
قمت في آخر رواية صدرت لك (دَرَجُ الليل.. دَرَجُ النهار) بالاشتغال على الفضاء الروائي بما يتيح للقارئ فسحة تشارك وتفاعل، إذ أن بإمكانه أن يعطي للمجمّع (21) في الرواية، والمليء بالفساد، ولمسألة توريثه، بعداً جغرافياً وسياسياً أكبر، ليشمل القطر برمته. فهل كانت مخاتلة إبداعية مقصودة، لعبتها، وتركت القارئ يكمل نسّجها؟ وماذا عنها كضرورة تناسب هذه الرواية ولا تناسب غيرها؟
ربما كانت مسألة الرواية العنوان الرئيس لما يشغل المواطن في الفضاء العربي وشبهه، حيث تنشب أذرع هذا الأخطبوط في اللقمة والعمل والسجن والمرحاض والعلم والكتابة و.. ولأن كلمة (الدولة) تنادي المؤسسة المأسسة، جاء اختياري في (دَرَجُ الليل.. دَرَجُ النهار) للمجمع ,21 مؤملاً أن يحمل دلالات كبرى، لما تعنيه المؤسسة الدولة في سوريا وفي شبهها. فالرقم (21) يشير إلى الراهن وأفقه في هذا القرن، وكلمة (المجمّع) تفتح على مؤسسات، لتذهب إلى الإشارة أعمق وأدق، وربما أوضح، إلى الدولة.
بعد شهور من صدور الرواية العام الماضي في سوريا، صدرت طبعة ثانية لها في الجزائر. وفي 22 مارس الماضي نظم اتحاد الكتاب الجزائريين ندوة حول الرواية. وقد بدا الفضاء العربي لبعض المتدخلين جزائرياً، كما بدا (المجمع 21) تعبيراً عن المؤسسة الأخطبوطية الجزائرية، سواء في الفساد أم التحديث، بل والتوريث. ولقد ملأني هذا التواصل مع الرواية ثقةً بأن لعبتها ليست محددة في الفضاء السوري. فالبعد الجغرافي السياسي الذي أشرت إليه أنت، خرج من الرواية ومن سوريا، وهذا هو الرهان الأكبر لما لعبته، وفيه قَدْرٌ أو آخر مما تسميه بالمخاتلة الإبداعية القصدية. فادعاء البراءة أو العفوية في الكتابة ليس أمراً مطلقاً، تماماً كما أن التخطيط الصارم يقيّد الرواية أيما تقييد.
من حيث المبدأ، تعلّم الرواية أن المخاتلة الإبداعية ضرورة من ضروراتها، وبحسبها يقوم التوازن الدقيق بين النظام الفني المستسرّ وبين البياض المتروك للقراءات. ولكن للمخاتلة إياها تفاصيلها وتحققها الذي يناسب هذه الرواية دون تلك. وهنا يذكّرني سؤالك بزيارتي الأولى للجنوب اللبناني عام 1999 قبل التحرير. لقد كنت ملهوفاً لأكحّل عينيّ برؤية العدو اللعين أعوذ بالله. وقد تحمل الصديق عبد المجيد زراقط عبء لهفتي وطار بي في أرجاء الجنوب، قبل أن نحطّ في بيت علي حجازي في (قبريخا)، حيث حدثني علي عن قراءته منذ عهد نوح لروايتي الأولى (ينداح الطوفان)، ويقينه آنئذٍ أن كاتب الرواية ابن ذلك الفضاء الجنوبي. فهل كان ذلك فقط لأن زراعة التبغ في الجغرافيا الجبلية توحّد بين فضاء الرواية وبين (قبريخا) وجاراتها؟ أم أن الأمر يتعلق أولاً وأخيراً بما أتاحت الرواية للقارئ من فسحة تشارك وتفاعل كما تقول فإذا بالقراءة تعيّن الفضاء الروائي وتسمّي ما لم يتسمَّ منه، وتملأ ما تركته الكتابة من بياض؟
فمنذ (ينداح الطوفان) عام 1970 وأنا أهجس بالفضاء الروائي. ولقد دفعتني التقية في تلك الرواية إلى إغفال اسم قريتي (البودي) حيث يتمركز فضاء الرواية. كنت خائفاً من عقابيل هتكي لعورات الفضاء المرجعي، مثل خوفي بعد خمس وعشرين سنة من تعيين فضاء رواية (أطياف العرش)، ومثل خوفي من بعد في تعيين فضاء رواية (سمر الليالي 2000). ولكن لا الخوف ولا التقية نفعا في درء العقاب، لكنهما أيضاً حرضّا منذ البداية على الفرار من قفص المرجع إلى رحابة اللعب. وهنا يتأسس ما سميته باستراتيجية اللاتعيين التي تضاعف حضورها في المشهد الروائي العربي، وحسبي أن أذكّر بروايات (مدن الملح) و(آخر الرعية) و(المخطوطة الشرقية) و(رسمت خطاً في الرمال) لعبد الرحمن منيف وأبو بكر العيادي وواسيني الأعرج وهاني الراهب، على التوالي.
وكأن الإبداع الروائي في تجلياته العربية يؤكد أن مهمة الإبداع الروائي أصبحت أصعب من عقدين سابقين من الزمن، إذ على الروائي أن يسجل بروايته شهادة على أحداث عصره ويقوم بتحليل قضايا مجتمعه الراهنة؟
من المؤكد أن مهمة الإبداع الروائي العربي هي اليوم أصعب، بل وأعقد منها قبل عقدين أو ثلاثة، على الرغم مما يقال عن الفورة الروائية وعن زمن الرواية. فما يمور به العالم كله بعامة، وما يمور به الفضاء العربي بخاصة، ينيخ بكلكله على صدر الرواية، حيث تتناسل الأسئلة وتتعقد، وحيث يرمي بالتحدي ما حققته الرواية من إنجازات كبرى، طلباً لإنجازات جديدة لا تشفع فيها قطّ الشهادة على الراهن وحدها، ولا يشفع يها قطّ تحليل القضايا المجتمعية. فتلك الشهادة وهذا التحليل كانا عبر تاريخ الرواية جزءاً من شواغلها التي تبقي أولاً وأخيراً شواغل جمالية.
الاستبداد
اشتغلت روايتك <سمر الليالي> على فئة الشابات الجامعيات والعاملات والمثقفات، المنخرطات في العمل السياسي، أو كناشطات من اجل حقوق الإنسان، وما تعرّضن له من اعتقال وتعذيب. في ضوء ذلك كم تصح اتهامات بعضهم بأن الإنسان السوري مستكين ولا يحاول أن يتحرر من قيوده، ولا يدفع ثمن ذلك، مع أن سجناء الرأي في سوريا كثر، خرج قسم منهم ولا يزال القسم الآخر يعاني قيد الزنزانات؟
لو صحّ أن المواطن السوري مستكين فله العذر بعد ما يزيد على أربعة عقود من تعطيل الحياة السياسية والخراب الاقتصادي واستشراء الفساد.
فالتعميم لغة الحمقى. حسناً. ولكني أظن أن صبر هذا المواطن الذي يتهمه بعضهم بالاستكانة، أكبر من صبر أيوب. لقد تزعزعت القيم حقاً، وتفاقم اللهاث خلف اللقمة كما تفاقم النهب والثراء. تفاقمت الانتهازية كما تفاقمت ثقافة الخوف، وتعثّر الإصلاح كما تعثر التحديث والتطوير. ولكن رغم كل ذلك ها هو الإبداع يشهد، ليس في الرواية وحدها. ها هي السينما وها هو ما تبقى من المسرح، ها هو الفن التشكيلي: إنها الشهادة على ما يكتنزه المجتمع السوري من طاقات خلاقة، وعلى ما قدمه عبر العقود الأربعة الماضية.
قد يرى قارئ أو أكثر أن الاستبداد الذي نعاني منه في أقطارنا العربية كان ولا يزال تربة خصيبة لأعمال إبداعية متنوعة الأجناس، ومنها الرواية، على الرغم من هواجسها بالتخلص منه ومن رموزه، إلا أنه قد يخطر في البال <أن لا وجود لتلك الإبداعات بدون الاستبداد>، فكيف تنظر إلى هذه القضية؟
رب ضارة نافعة حقاً. لولا الاستبداد من أين كان للرواية العربية أن تضاهي رواية أميركا اللاتينية كما أزعم بما أبدعت من شخصية الديكتاتور؟ فتلك هي روايات غازي القصيبي ومؤنس الرزاز وفاضل العزاوي وحيدر حيدر وسالم حميش وهاني الراهب وواسيني الأعرج هل يكفي؟ تعري الاستبداد في رمزه العربي المعاصر والأكبر: الدكتاتور الناشب من القاع العراقي أو المغربي أو من قاع التاريخ أو من قاع الفضاء الروائي الذي لا تسميه استراتيجية التعيين بالعودة إلى السؤال الأول تاركةً للقراءة أن تنصب الأفخاخ لتعيّن البلد ومن ابتليت به. وإلى ذلك تلك هي الروايات التي عرفت بروايات السجن السياسي، وفيها كما في روايات الديكتاتور يتعرّى أيضاً الاستبداد بلبوسه الحزبي الحاكم أو المعارض، كما يتعرى الاستبداد العالمي العولمي.
كل ذلك ينقض قول من يقول بأن الإبداع لا يزدهر إلا في البلاد التي ترفل في نعيم الحرية والديمقراطية. غير أن الأهم هنا هو أن التربة الخصيبة للإبداع الروائي وغير الروائي ليست فقط تربة الاستبداد، عربياً أو أميركياً أو إسرائيلياً أو.. فالتاريخ هو أيضاً تربة خصيبة، وهذا ما تؤكده في الرواية العربية كتابات جمال الغيطاني وعبد الرحمن منيف وسالم حميش وربيع جابر ورضوى عاشور ورجاء عالم... والحرب أيضاً تربة خصيبة مثلها مثل الجسد الذي يتواتر الاشتغال الروائي عليه منذ عقد ونيّف، وبخاصة على يد الروائية العربية. وها هو الإرهاب المتدرع باللبوس الديني أيضاً كما تدلّل الرواية في الجزائر. وقد يكون من الضروري هنا التشديد على التفاعل العميق بين تربة وتربة، إلا أن هذا التفاعل ينفي الأحادية ويعزز التنوع.
تكنولوجيا المعلومات
ألا تعتقد بأننا سنظل نفشل في تحقيق هواجسنا وأحلامنا طالما أن مؤسسات الحكم في الأقطار العربية لا تسعى إلى خلق وعي علماني يُبنى على أساسه مؤسسات دولة حديثة، لأنها تعي تماماً أنها أول المتضررين من هذا الوعي؟ وهل تعتقد أن الرواية قادرة على خلق وعي علماني لدى القارئ؟
ليست المؤسسات العربية الحاكمة وحدها ضد الوعي العلماني، حتى ما هو متبرقع منها بالعلمانية إلى هذه الدرجة أو تلك، مثل سوريا أو تونس أو لبنان أو العراق منذ عهد صدام إلى عهد بوش.
لا تنسَ المؤسسات العربية المعارضة. فالديني منها ضد الوعي العلماني، وبلا براقع. وفي غير الديني من هذه المؤسسات المعارضة ما هو ضد الوعي العلماني أيضاً، إما بفعل الانتهازية الاجتماعية أو بفعل اللعب على حبلين وربما أكثر. لا تنسَ جمهرة واسعة من المثقفين العرب الذين يقفون ضد الوعي العلماني أيضاً، سواء بفعل الجذور الدينية أو النفاق الاجتماعي أو بدعوى الوسطية وما أدراك. هناك إذن جبهة عربية عريضة ومتماسكة وفعّالة ضد الوعي العلماني. وخَلْقُ هذا الوعي بالتالي لا يمكن أن تنهض به الرواية. ولعل أقصى ما تستطيعه هو أن تعري نقيضه مما يعني أيضاً أنها ترسل إشارات إليه. بهذا المعنى جاء اشتغال روايتي (دَرَجُ الليل.. دَرَجُ النهار) على حرية الاعتقاد عبر شخصيته ونسة الكردية الإيزيدية (اليزيدية). وبهذا المعنى جاء قبل ذلك اشتغال روايتي (أطياف العرش) على حرية الاعتقاد عبر شخصية الطويبي. وها هي الرواية الجزائرية تشتغل على هذا المعنى منذ اندلع الجحيم الجزائري تحت يافطة الإرهاب المتأسلم، وهو ما نراه أيضاً في مصر في بعض روايات إدوار الخراط وأهداف سويف.
كنت قد استفدت في روايتيك (مجاز العشق) و(سمر الليالي) من تكنولوجيا المعلومات، وقلت لي في حوار سابق، أن لابد للروائي العربي من أن يستفيد من هذا الحقل. لكن ماذا تقول في مشروع الروائي الأردني محمد سناجلة الذي كتب روايتين إلكترونيتين (ظلال الواحد) و(شات) واستخدم فيهما لغة جديدة وتقنيات وبرمجيات ربما من النادر أن يتقنها كتّاب الرواية، ويدّعي في مقالة له أن عصر الورق قد انتهى، وما قولك بهذا الادّعاء؟
سريعاً جداً بات الكمبيوتر والانترنيت حاجة ماسّة للجميع، فكيف بالكتّاب؟ وسريعاً جداً باتت تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات مثل الأوكسجين. وقد جعلني ذلك أواجه السؤال عن أثر هذا الأوكسجين في الكتابة نفسها، أقصد في الكتابة الإبداعية، وبالضبط: في الرواية. لقد دفعتُ بالسؤال إلى مفهوم الرواية نفسه، وهو الذي ينطوي على مفهومات وينفر من التحديد الجامع المانع، وينادي الجمع والاختلاف. هكذا جاءت تجربة الكتابة في رواية (مجاز العشق 1998) لتحاول صياغة أو أخرى للسؤال، للمفهوم، ولتحاول صياغة جواب أو آخر. والأهم فيما أحسب هو أن بناء الرواية نفسها قد قام بفعل تلك الصياغات.
خلال السنوات الثماني الماضية تسلل الكمبيوتر والانترنيت إلى بعض الروايات العربية، كعلامة على الجديد في الحياة المعاصرة: تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات. ولم يخلُ ذلك من الإبداع والسطحية والتمظهر. أما الإبداع الحقيقي في ذلك فحسبي أن أضرب له مثلاً برواية خليل صويلح (بريد عاجل).
على مستوى آخر جاءت مسألة التخلص من القلم وحلول الكيبورد محله. وقد عايشت تجربة ممدوح عدوان ونهاد سيريس وسواهما في ذلك. وإذا كنت أغبط من أفلح فقد آثرت الكتابة بالقلم والاكتفاء من الكمبيوتر بغير ذلك، وهو كثير. أما سبب هذا الإيثار فهو أنني ببساطة قررت ألا أضحّي بعدة شهور كي (أدوزن) دخيلتي مع الكمبيوتر، وليس من اجل المهارة في التنضيد.
على مستوى ثالث تعالى الضجيج في الفضاء الثقافي العربي في السنوات الأخيرة حول نهاية عصر الكتاب الورقي، وحول الكتاب الإلكتروني. وأخشى أن يكون في مشروع محمد سناجلة الكثير من ذلك الضجيج. لقد قرأت روايته الأولى (ظلال الواحد) بطبعتها الورقية، وكتبت في حينه رأيي فيها وفي تجربة بنائها (ألكترونياً) على ثلاثة أعمدة / خطوط. وفي زعمي أنها لم تفد من البرمجية البتّة. وقد تابعت كل ما كتبه سناجلة من بعد، وعسى أن يكون في دعوته حافزاً لسواه على محو أميته الإلكترونية، وعلى الإفادة في الكتابة الإبداعية من تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات، فالأفق مفتوح، لكن الانبهار والقطيعة يعكران هذا الأفق كما يعكره الجهل.
في مطلع آذار مارس الماضي حضرت مؤتمراً في لندن حول الترجمة بين الأدبين العربي والانكليزي. وقد شارك في المؤتمر ممثلون لكبريات دور النشر الانكليزية. كما شارك آخرون وأخريات من بلغاريا وفرنسا وأميركا وعدد من البلاد العربية. وكان حديث الكتاب الإلكتروني حاضراً. كانت تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات حاضرة وبقوة. لكن أحداً من المبدعين أو من الناشرين أو من المترجمين لم يطلق هذا النذير الصاخب بنهاية الكتاب الورقي، حيث الرساميل بمليارات الباوندات، وحيث العنوانات الجديدة سنوياً بمئات الآلاف، وحيث عدد النسخ بعشرات الملايين للكتاب الواحد. سيتلاشى الضجيج كلما ترسخت علاقتنا بجديد العلم، وعندئذٍ ستكون إفادتنا منه أكبر، وهذا هو ما أعنيه بالأفق المفتوح.
في ظل الثقافة الشفوية التي كرّستها الفضائيات، والتي ساهمت مع أسباب أخرى في تراجع القراءة لدى الإنسان العربي الذي لم تكن القراءة مؤصلة في برنامج حياته وليست من تقاليد يومه. في ظل ذلك أي مرتجى من الخطابات المدوّنة، بخاصة الرواية، ولها ما ينافسها من فنون تلفزيونية وسينمائية؟
في غياب الاستبيانات يظل القول بتأثير الفضائيات في تراجع القراءة ملتبساً. أنت ذكرت أن القراءة لم تكن مؤصلة في حياتنا. أليس تأثير القدرة الشرائية للقارئ في تراجع القراءة كبيراً؟ ألا تتصل القدرة الشرائية بالوضع الاقتصادي والبطالة ومعدلات الأجور والرواتب والإفقار والإثراء والنهب والرشوى والفساد؟ ثم ماذا عن الأمية؟ ماذا عن صناعة الكتاب العربي؟ ماذا عن تسويق الكتاب العربي؟ ماذا عن استقواء الحدود والجمارك والضرائب والاستيراد والتصدير والرقابة على الكتاب العربي؟
في هذا السياق المصطخب يأتي تأثير الفضائيات إيجاباً وسلباً. وفي هذا السياق قد يبدو أن لا جدوى من الكتابة، ليس فقط أمام الفنون التلفزيونية، بل بعامة. وعسى أن تلاحظ هنا أنني لم أذكر الفنون السينمائية، لأن السينما العربية إنتاجاً وعرضاً تعاني ما يعانيه الكتاب العربي..
والآن يأتي السؤال الأصعب، وربما الأهم: لماذا لا تكون تلك المعوقات جميعاً حافزاً أكبر على الكتابة؟
بالإيجاب تجيب الرواية العربية في ازدهارها المطّرد والذي بلغ أرقى المستويات العالمية. فندرة القراءة أو تراجعها لا تعني بالضرورة بطلان هذا اللون من الكتابة أو ذاك، وإن يكن ازدهار القراءة حلماً لكل كتابة.
إذا أصدرت رواية جديدة ولم تأخذ حقها كفاية من الاهتمام النقدي والإعلامي، دون أن يكون غياب هذا الاهتمام عدم استحقاق الرواية به. كيف تقرأ دلالة هذا، بشكل موضوعي؟
أقول: هذا هو الطبيعي الآن في المناخ النقدي والإعلامي العربي، حيث تتفاعل الشللية والعلاقات العامة والجفوة بين النقد والمنقود. أقول: إن الله مع الصابرين.
بعد أن تختمر فكرة الرواية لديك ومخططها الفكري وتبدأ بالتأمل والإعداد لمخططها الفني، أي الشكل الذي سوف تُكتب فيه، ماذا تفعل في هذه الآونة؟ ماذا تقرأ وتسمع، وما هي أسباب خياراتك؟
أعترف بعد كل هذا العمر أن اختمار فكرة الرواية لا يكتمل قبل شروعي في الكتابة. بل إن ذلك يظل (شغّالاً) حتى تنتهي الكتابة. وأحياناً غير قليلة يظل ملتبساً بعد صدور الرواية. بالتالي ليس ثمة مخطط فكري أو فني ناجز، لا قبل الكتابة ولا أثناءها. ثمة مخطط أولي، سرعان ما تعدل فيه الكتابة أو تنقضه ليقوم مخطط ثان قد تنقضه أو تعدل فيه الكتابة أيضاً. وأثناء ذلك لا أنشد إلا العزلة والصمت. أثناء ذلك لا أقرأ إلا الشعر عندما تتمنّع الكتابة. وإزاء هذا التمّنع ألجأ أيضاً إلى اللوحات والألبومات الفنية، فالقراءة التي تهيئ للمشروع تكون قد انتهت قبل البدء فيه. وليس من سبب لكل ذلك فيما أظن إلا الطباع الشخصية، وما تعودت عليه خلال عقود.
الترجمة
بمناسبة ترجمة روايتك أطياف العرش إلى الألمانية، إلى أي مدى تشغلك مسألة ترجمة رواية لك إلى لغة أوروبية؟ وما الذي يتغير لديك لو أن اللغة المترجمة إليها هي اليابانية؟
أتمنى أن تترجم بعض رواياتي إلى أية لغة، أوروبية أو غير أوروبية. أتمنى بخاصة أن تترجم بعض رواياتي إلى الانكليزية. فما ترجم لي إلى الإسبانية أو الروسية مثلاً لا يوفر ما توفره الانكليزية. ولو أن (أطياف العرش) أو سواها ترجمت إلى اليابانية لكانت لي السعادة نفسها، ولظل ما أتمناه قائماً.
ما السؤال الذي يشغلك على صعيد شواغلك النقدية؟
كيف يمكن أن يفي النقد بمتطلبات العلم والمعرفة، وفي الآن نفسه تكون له الصلة الحميمية الوثقى بالنص وبمن سيقرأ أو ستقرأ هذا النقد؟.
ما الذي كنت تريده من الرواية عندما بدأت الكتابة، وما الذي تريده الآن؟
في البداية كنت أحلم بأن أقدم للقراء مثل الحكايات والقصص والأساطير التي سمعتها أو قرأتها خلال نشأتي. كنت أحلم بأن أكون كاتباً مثل أي من الكتّاب الذين سحروني: مجهول أو أكثر كتب أو كتبوا ألف ليلة وليلة، ألبير كامو الذي كتب (الطاعون)، نجيب محفوظ الذي كتب الثلاثية..
والآن لازلت أحلم الأحلام نفسها، سوى أن ما لعله تحقق منها بقدرٍ أقل فأقلّ، جعلها أكبر فأكبر، ومن ذلك أن تكون الرواية فاتنة مثل أية امرأة فاتنة، ليس بجسدها وحده، بل بروحها أيضاً.
ما هي أسباب عدم عرض المسلسل الذي حوّل روايتك <أطياف العرش> إلى دراما تلفزيونية على أي قناة سورية حتى يومنا هذا ؟
ما أعلمه، ولست متيقناً منه، هو أن كاتباً قد دس لدى وزير الإعلام الأسبق، على المسلسل الذي حُوَّلتْ له الرواية باسم (الطويبي) وهو الشخصية المحورية في الرواية. وقد تناهى إليّ أيضاً أن آخرين قد تحفظوا على المسلسل، وهذا ما لست متيقناً منه أيضاً، ولعل لدى الجهة المنتجة جواباً أدق. غير أن الأكيد هو أن انعدام الشفافية وسطوة الرقابة يفتحان الباب العريض للدسيسة وللتخمين وللخطأ وللمنع، سواء تعلق الأمر بمسلسل أم برواية أم بسواهما.

 

نضال بشارة

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...