لاوند هاجو.. قَرَّبَ الرقص إلى الجمهور السوري

19-11-2008

لاوند هاجو.. قَرَّبَ الرقص إلى الجمهور السوري

»يموت الزمّار وصوابعه بتلعب«، ويموت الراقص وتظل رجلاه تحومان على الحافة. والراقص في حالة لاوند هاجو احترق حتى آخره وظلت رجلاه تعاندان. القريبون من موته قالوا إن جسده، الذي رُبط إلى سريره بعد قتله، احترق، إلا رجلاه.. أليس الراقص وحده، بحسب نيتشه، من يعرف كيف يكون، في آن، من الأرض ومن السماء؟
إن »حكم إعدام في صباح جميل« كفيل بأن يزعزع خطواتنا، وأن يدفع بدمع الفجيعة إلى الحافة، فكيف بقتلٍ ودقّ عظام ثم ربط وحرق؟ كيف بقتل يطاول راقصاً بعمر لاوند هاجو، الذي لم يتجاوز إلا قليلاً الثلاثة والثلاثين ربيعاً؟ كأنما تقصّد عمر المسيح لاوند هاجو، وكأنما تقصّد أن لا يعيش أكثر، فماذا بوسع الراقص أن يفعل أكثر من سبعة عروض، وميداليات وجوائز، وكل هذا الحضور المشع لراقص فطري، لم يتعلم الرقص في الأكاديميات ومدارس الباليه، رغم أنه تفوق في أن ينجز ما لم ينجزه الأكاديميون. كان إصراره غريباً على افتتاح عروضه في يوم الرقص العالمي الذي يصادف التاسع والعشرين من نيسان (وهو الموافق لتاريخ ميلاد جان جورج نوفير مبتكر الباليه الحديث، وقد بدأ الاحتفال بهذا اليوم عالمياً بدءاً بالعام ١٩٨٢). ومعروف أنه كان له شرف تكريس الاحتفال سورياً بهذا اليوم، في نيسان العام ٢٠٠٢ مع افتتاح عرضه »انعكاسات«. كما نجح في أن يدفع وزارة الثقافة إلى تبنّي الاحتفال حينذاك. ولو أن الكريوغراف هاجو روى حينها الكثير من المفارقات الساخرة حفّت بمطالبته تكريس الاحتفال بيوم الرقص العالمي، ومن بينها كيف قالت له وزيرة سابقة وهي تهزّ كتفها: »هلق كمان صار للرقص عيد؟«. لكن حماس هاجو بلغ حدّ ابتكار جائزة للرقص يمنحها في يوم الرقص، وبالفعل استطاع أن يحصل على موافقة وزارة الإعلام على تلك الجائزة ومنحها في العام ٢٠٠٦ للفنان حسام تحسين بك مؤسس فرقة »أمية« للرقص الشعبي، ومن ثم فرقة »زنوبيا«، كما أهداها للفنانة هبة بيروتي، وهي من أوليات الراقصات السوريات في فرقة »أمية«، وكذلك إلى فرقة »إنانا«.
موضوعه الجسد
لا شك في أن للاوند هاجو الريادة في تقريب الرقص المعاصر إلى ذائقة الجمهور السوري، وفي الوقت الذي اختارت فرق عديدة حوله العزف على وتر التراث والفولكلور الشعبي، ذاك الذي يخاطب جمهوراً جاهزاً، اختار هاجو أن يغامر مع فرقته »رماد«، التي استقطبت العديد من الراقصين المميزين، أن يشكل قطيعة مع رقص يغازل المتفرجين وذائقتهم المصنوعة سلفاً. ولكن المفارقة كانت أنه استطاع، رغم مغامرته، أن يؤسس جمهوراً جديداً، وكانت قد بدأت هنا مدرسة الباليه بتخريج راقصين ومصممين أكاديميين وجدوا ساحة الرقص خصبة لتجاربهم الجديدة.
كان الجسد موضوعاً أساسياً في أعمال هاجو، ففي أول عروضه »خلق« (٢٠٠١)، وكان العمل من راقصيْن اثنين وحسب، تناول حكاية الذكر والأنثى، جسدان يتشكلان أمامنا على الخشبة، جسد يخرج من ضلع الآخر، ثم يبدأ كل جسد بمحاولة اكتشاف نفسه، عبر النظر إليها وتلمّسها مرة، وعبر تلمّس الجسد الآخر مرة أخرى، ثم مرات عبر استكشاف موقع الجسد من العالم. وهنا يبدأ البحث في الذكورة والأنوثة؛ ترتدي الراقصة قميص الذكر، تنتحل ذكورته، فيما يلبس هو ثوب الأنثى .. وحينما يعود كل منهما إلى جسده يشتعل بينهما صراع المرأة والرجل، يحاول كل منهما الاستحواذ على الآخر.
وفي »انعكاسات« (٢٠٠٢) كان العرض مجموعة من اللوحات تحكي عن ثلاثة أنماط من الشخصيات؛ امرأة مقهورة، حشّاش، متدين شاب في حال من اللاتوازن. والعرض راح يقدم هؤلاء في أوضاع افتراضية مختلفة، وليدرس عبرهم أثر التلفزيون في الناس، أثر الفن والسينما مثلاً في تهذيب البشر. ميزة هذا العرض أن هاجو مزج بين الرقص وفن الإيماء، الذي سيعود إليه في عروض أخرى لاحقة. في »رحلة جسد« (٢٠٠٣) كانت رحلة معاكسة لـ»خلق«، حيث البداية من الشيخوخة، ثم يمضي العمل في العودة إلى الوراء ليقدم كل جسد حكايته وسيرته بمفرده وصولاً إلى لحظة الولادة، حيث العري والأجساد المبهمة الهوية التي تغيم فيها الحدود بين الذكورة والأنوثة. عرضه »صمت الحواس« (٢٠٠٥) كان برعاية معهد رعاية الصم والبكم، وجمعية رعاية المكفوفين، ومعهد الشلل الدماغي، وهو لذلك يتناول موضوع الجسد والإعاقة، حيث الراقص يسرد الإعاقة رقصاً، فإذا كان أصم تصبح الأذن هي مركز التعبير في الرقصة، وهكذا. كان هذا العرض أقرب عروضه إلى الإيماء. في »سكون« (٢٠٠٦) اشتغل هاجو على موضوع الستار، سواء كان حجاب امرأة، أو ستارة في غرفة، أو قماشة على حبل غسيل وسوى ذلك.
إلى جانب تلك العروض قدم هاجو »تمرد العقل« (٢٠٠٥)، و»ستلمس الشمس أصابعي« (٢٠٠٧) عن نص للأديبة كوليت خوري. كما اشتغل على نص لفراس السواح الذي كتب على يده للمرة الأولى للمسرح بعنوان »جدل الحياة والموت« وقد أوقف العرض بعد تضييق إنتاجي على العمل. أما آخر عروض هاجو، وهو بعنوان »كشف«، فكان ينبغي أن يشهد أول عروضه هذا المساء على مسرح الأوبرا في دمشق، سوى أن الموت عاجله، وعاجلنا. لن نقول أخيراً إن هاجو قنع بأن يجعل من حياته القصيرة عريضة بما يكفي لتتسع لكل هذا الإبداع، ولتعوض حياة مديدة، فالمبدع لا يكتفي من حياة ومن إبداع، وكان بإمكانه أن يعيش ثلاثة أعمار أخرى لولا هذه البشاعة في الكون، لولا هذا القدر من ذئبية الناس.

راشد عيسى

 المصدر: السفير

التعليقات

لم أعد أستغرب قتل الجمال و الفن من قبل شعوب أدمنت القباحة و العذاب و التعذيب . لا أدري لماذا أتصور أن من قتله من أصحاب اللحى الذين ينتظرون السعادة بعد الحياة و يعتبرون أمثال الفنان لاوند مسا لرجولتهم كونه قادر على التعبير عن جمال الحياة و اسعاد البشرية بفن راقي . هؤلاء الذين لا يسمحون لعائلاتهم بمشاهدة الفنون و الجمال بينما هم يحتلمون خفاء بمنظر من أغنية ساقطة لمطربة أسقط. أظن أننا باسم الدين و الحرام و العيب تجاوزنا شريعة الغاب لأن الحيوانات تقتل لتأكل بينما هم يقتلون باسم الحرام و لكنهم في الحقيقة يتلذذون في غياهب عقولهم المريضة فيشعرون بالنصر الآتي بعد الحياة و يحلمون بالجنة ليضاجعوا فيها ما يحرمون على أنفسهم في الحياة و يشتهونه. هذا الكره للحياة و الجمال و الفرح هل هو دين ؟؟؟؟....امن يفكر بهذه الطريقة أقول بأن ينتبه فقد يستمر العذاب و الحرمان في الآخرة فيفاجؤوا بماري منيب بدل هيفاء. ( آسفة على آخر تعليق بمناسبة حزينة كهذه و لكن شدة الألم من قتل الجمال انقلب عندي الى سخرية). عزائي الحار الى جميع البشر (فقط البشر منا) بوفاة لاوند الجميل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...