عصام المحايري يكتب عن الإسلام والعلمانية (1-3)

30-08-2006

عصام المحايري يكتب عن الإسلام والعلمانية (1-3)

الجمل - خاص :

1 - مقدمة:
إذا كانت العلاقات بين الدين والدولة من القضايا التي استأثرت باهتمام الفكر السياسي وشغلت الفلاسفة وعلماء الاجتماع ورجال الدين في الغرب، من خلال الصراع بين الكنيسة وملوك أوروبا، وفي جو المنازعات والمذابح التي تفجرت بين الكاثوليك والبروتستانت. وإذا كان استقر الفكر السياسي والفلسفة الاجتماعية والدينية على تحقيق الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية، من ضمن إبراز الاختلاف في طبيعة كل من الدين والدولة والاختلاف في حقول نشاط كل منهما وصلاحياته.
وإذا كان انتهى الأمر، في البلدان الأوروبية، إلى تسليم الكرسي الرسولي في روما والسلطات الكنسية بالكف عن التدخل في الشؤون السياسية والتنظيمية والقضائية للدولة والمجتمع، وطي صفحة الدولة الدينية لتقوم الدولة المدنية (العلمانية) على أسس من احترام حرية المعتقد وحرية الممارسة الدينية، ومن حياد الدولة تجاه الأديان وتجاه نشاط المؤسسات الدينية بما فيها المؤسسات الدينية التعليمية، وهو حياد يمكن تسميته بالحياد الإيجابي بالقياس إلى الدولة المدنية الماركسية.
ففي عالم الإسلام، وفي دنيا الدول العربية بالذات، وفي وسط مجموعة الدول التي قامت على أنقاض الخلافة العثمانية، ما زالت علاقة مدنية السلطة والحكومة بالدين، إن على صعيد النظر والفكر السياسي الإسلامي أو في ميدان العمل والتطبيق الدستوري والفعلي، علاقة يكتنفها الإبهام والغموض فلا هي علاقة توحد وتطابق ولا هي علاقة افتراق وفصل.
كل النصوص الدستورية حملت بشكل أو بآخر طابع الهوية الإسلامية، بعضها حرص على الإعلان أن دين الدولة الإسلام، وبعضها اكتفى بالإعلان أن دين رئيس الدولة هو الإسلام وأن الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع، ولكن الدولة الدينية الإسلامية التي قامت (لحراسة الدين ولسياسة الدنيا بالدين) كما جاء في تعريف ابن خلدون بها، لم تكن هي ما تعبر عنه بقية مواد الدستور فليس مرجع التشريع مرجعاً دينياً ولا الشرائع الناظمة للعلاقات من مدنية وجزائية وتجارية ودولية وغيرها مما يمكن معه اعتبار أن الدين هو الذي يسوس الناس.
في كل هذه الدساتير المكتوبة تستمد السلطة الدستورية سلطاتها من الإرادة الشعبية كما تقوم الهيكلية الدستورية على الفصل بين سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء، وعلى إيلاء سلطة التشريع مجلساً منتخباً من الشعب ليس من شروط العضوية فيه أن يكون النائب من علماء الدين، فهل هذا يتوافق مع الدولة الدينية الإسلامية، كما جاء في تعاريف علماء الفكر الديني الإسلامي السياسي والاجتماعي في قرون الإسلام الغابرة وهي الدولة التي مستند السلطة فيها هو إلى (الشرع) أي الله وليس إلى الشعب، مما ينجم عنه أن يكون للخليفة فيها على (الأمة) حق الولاية العامة المطلقة والطاعة التامة والسلطان الشامل في شؤون الدنيا والدين (وأن يكون عصيانه من عصيان الله، وأن تكون كل ولاية مستمدة منه، وكل وظيفة متفرعة عنه (لاشتمال منصبه على الدين والدنيا)؟.
إن عديداً من دعاة الدولة الدينية الإسلامية وقادة الحركات السياسية الدينية الإسلامية أسهم في صياغة بعض هذه الدساتير الحديثة، ولم يجدوا في (الشرع) ما يتعارض مع المبادئ الدستورية والنظريات الديمقراطية التي أمكن بها لدعاة الدولة العلمانية في الغرب، أن يحملوا الكنيسة على التخلي عن التدخل في الشؤون السياسية والتنظيمية والقضائية للدولة والمجتمع وأن تسلم بفصل الدين عن الدولة.
2 - موقف دعاة الدولة الدينية الإسلامية من الأنظمة الدستورية الحديثة:
ندع جانباً موقف الذين، من علماء الدين وقادة مراكز التوجيه الفكري والديني في العالم الإسلامي، يقفون من كل ما يتصل بحضارة الغرب وأنظمة حياته السياسية والاجتماعية ومذاهبه الفكرية والاجتماعية ومن كل ما تنشغل له أوساطه الثقافية والسياسية موقف الرفض الشامل المطلق. هؤلاء اعتبروا ويعتبرون التعامل مع أي جانب من جوانب حضارة الغرب، ضعفاً في الوازن الديني وتخاذلاً في الاعتصام بالإسلام.
ونلاحظ فقط الذين، من علماء الدين وقاعدة الحركات الدينية الإسلامية الفكرية والسياسية - تعاطفوا إيجابياً مع الأنظمة الدستورية الغربية وفلسفتها في الديمقراطية وفصل السلطات وغير ذلك.
لقد تجاوز هؤلاء صورة الدولة الدينية الإسلامية، كما عرفها تاريخ الإسلام، ولم يأخذوا بالمذهب الذي يعتبر الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله وقوته من قوته، وهو المذهب الذي تسري روحه بين لفيف من العلماء وعامة المسلمين أيضاً.
إذا كان مذهب الخلافة يعتبر الخليفة يقوم في منصبه مقام رسول الله، فيما يتصل بحفظ الدين وسياسة الدنيا به، مما يضفي على من استخلف على منصب رسوم الله مسحة دينية، وكأنما سلطانه هو من سلطان الله، ما دام هو خليفة الرسول الذي اختاره الله لهذا المنصب، فإن المذهب الذي اعتمده دعاة الدولة الدينية الإسلامية يذهب إلى أن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة، فهي مصدر قوته وهي تختاره لهذا المقام.
استناداً إلى هذا المذهب انطلق هؤلاء الدعاة إلى اعتبار أن الدولة الدينية الإسلامية، التي يستمد الخليفة فيها سلطانه من الأمة، غير محصورة في طريق معين، وأنه إذا كانت الشورى هي الواجب الشرعي فإن للدولة الدينية الإسلامية (أن توافق، في كيفية الشورى، الأمم التي أخذت هذا الواجب عنا وأنشأت لها نظاماً مخصوصاً، متى رأينا في الموافقة نفعاً ووجدنا منها فائدة تعود على الأمة والدين) هكذا قال الإمام الشيخ محمد عبده بل هو يؤكد (أن كل شكل من الأشكال نراه مجلبة للعدل وجب علينا أن نتخذه)، وكما يقول ابن الجوزية: إمارات العدل، إذا ظهرت، بأي طريق كان، فذاك شرع الله ودينه والله تعالى أحكم من أن يخص طرق العدل بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منه وأبين).
وإذا كان قام، في الغرب، نزاع بين السلطة الدينية والسلطة المدنية فالإمام محمد عبده ينكر أن يكون في الإسلام، أي شكل من أشكال السلطة الدينية، ليؤكد على مدنية السلطة في الإسلام فيقول: ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أعلاهم كما خولها الأعلى ليقرع بها الأدنى. أما في شؤون الدين (فلكل مسلم أن يفهم عن الله، في كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله، بدون توسط أحد من سلف ولا خلف) ويضيف الأستاذ محمد عبده: (إن صاحب السلطة في الإسلام حاكم مدني من جميع الوجوه، والأمة هي صاحبة الحق وهي التي تخلع صاحب السلطة متى رأت ذلك في مصلحتها). حكم ديمقراطي مدني كامل.
ومع أن الشيخ محمد عبده لا يتنازل عن كل ما طرح وفي كل ما جنح، عن وجوب الدولة الدينية الإسلامية  باعتبار الإسلام ديناً ودولة، ولا عن التمسك بالجنسية الدينية وليس بالجنسية القومية، فإن فصله بين المضمون وبين كيفية تحقيقه، بين الشورى وكيفيتها، بين العدل وطرق العدل، ثم تغليبه للمذهب الذي يعتبر الخليفة يستمد سلطانه من الأمة، على حساب المذهب الذي يرى سلطان الخليفة من الله، كل ذلك كان في أساس موقف من ارتضى من دعاة الدولة الدينية الإسلامية، بأن ينبع النظام الدستوري لدولة الإسلام على غرار ما هو مثبت في الدساتير الوضعية (العلمانية).
وإذا صح رأي هؤلاء من (دعاة التحديث) بين طلاب الدولة الدينية الإسلامية، فإن تحديثهم، وصل بهم، بعد وفاة الإمام محمد عبده وسقوط الخلافة العثمانية إلى أن يقفزوا فوق نظام الخلافة نفسه فيجنحوا إلى عدم تلازم نظام الخلافة مع الدولة الدينية الإسلامية، بالرغم مما يذهب إليه العلماء والفقهاء من أن نصب الخليفة واجب وأن الإجماع انعقد على وجوب الخلافة وبالرغم مما استعر، في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية، من منازعات فكرية ودينية لاهبة بين المتمسكين بالنظام الإسلامي وقوامه نظام الخلافة وبين المفرطين بالخلافة ممن اعتبروا مفرطين بالنظام الإسلامي.
إن دعاة التحديث من طلاب الدولة الدينية الإسلامية وقفوا، في كل الشؤون المتعلقة بدولة الإسلام موقف الانتقاء يأخذون ما اعتبروه في الأنظمة الوضعية الغربية الدستورية جوانب خير وطرق عدل، ثم يجنحون على صعيد الشرع إلى اعتماد ما يساعدهم في تثبيت (شرعية) موقفهم بنزوعهم نحو المذاهب العقلية والشرعية التي تدعم موقفهم الانتقائي.
ولكن هل كل علماء الدين ورجال الفكر الإسلامي يتوافقون على وجوب الدولة الدينية الإسلامية، على أساس أن الإسلام دين ودولة، أم وجد في أوساط علماء الدين ومفكري الإسلام، من يذهب إلى الفصل بين الدين والدولة، بأدلة شرعية وعقلية استقاها وانتقاها بدوره من تراث الإسلام الشرعي والتاريخي؟
 
3 - الفصل بين الدين والدولة وأدلته الشرعية:
عام 1925 أصدر الشيخ علي عبد الرازق، أحد علماء الأزهر والقاضي الشرعي بالمنصورة، كتاباً باسم (الإسلام وأصول الحكم) تطرق فيه إلى موقف الإسلام الديني والشرعي من الدولة، فأثار كتابه ضجة فكرية وسياسية ودينية كبرى انتهى إلى إصدار الأزهر قراراً بإخراجه من زمرة العلماء وإصدار الحكومة قراراً بإقالته من منصبه كقاضي شرعي وإلى إصدار السراي قراراً بإقالة وزير الحقانية (العدل) لإحجامه عن إقامة الشيخ من منصبه.
في كتابه الذي تناول بحث الخلافة والإمامة والدولة من وجهة نظر الدين خرج الشيخ العالم بنتيجة مؤداها أن نظام (الخلافة - الدولة الدينية) غريب عن الدين ولا أساس له في المصادر والأصول المعتمدة للدين عند المسلمين من كتاب وسنة.
ولما كانت قضية الخلافة، في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية، من أهم القضايا التي كانت شغل الأوساط الإسلامية والدوائر السياسية الشاغل، باعتبار أن الملك فؤاد، كان يعمل بكل قواه وتؤيده الدوائر السياسية البريطانية، ليكون خليفة المسلمين، فقد استشاطت دوائر القصر غضباً على الكتاب وصاحبه، وأدت ضغوطها إلى قرار الأزهر بإخراجه من زمرة العلماء وقرار الحكومة بإقالته من منصبه.
طرح الشيخ العالم مسألة الإسلام كنظام سياسي فأنكرها وأنكر أي شيء يسمى دولة إسلامية. أنكر أن يكون الرسول أسس دولة إسلامية أو شرع في تأسيسها، وما قام به الرسول خلا من كثير من دعائم الحكم فلا نظام حكومي ولا نظام قضاة وولاة ولا نظام للشورى.
وفي سياقه أدلته الشرعية والعقلية على وجهة نظره، يقول:
«كيف يتفق أن يكون الرسول ترك فراغاً أو إبهاماً في نظام الإسلام لو أن الإسلام دين ودولة والله عز وجل قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
ثم لو أن نظام الخلافة والدولة الدينية من الدين لما نفاها الخوارج وبعض المعتزلة ولو أن الخليفة منصب ديني لما نازع أبو بكر رهط من الصحابة ورفضوا البيعة له واستمروا على إسلامهم.
ثم إن الدعوة الإسلامية دعوة دينية إلى الله تعالى ومذهب من مذاهب الإصلاح للنوع البشري ومعقول أن يأخذ العالم كله بدين واحد وأن تنتظم البشرية كلها وحدة دينية، فأما أخذ العالم كله بحكومة واحدة وجمعه تحت وحدة سياسية مشتركة فذلك مما يوشك أن يكون خارجاً عن الطبيعة البشرية.
إن الدولة غرض من الأغراض الدنيوية التي خلى الله بينها وبين عقولنا وترك الناس أحراراً في تدبيرها على ما تهديهم إليه عقولهم وعلومهم ومصالحهم وأهوائهم ونزعاتهم. وعلى هذا جاءت سنة الرسول تقول: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم)».
ويخلص الشيخ العالم إلى القول: «إن القرآن صريح في أن محمداً (ص) لم يكن إلا رسولاً قد خلت من قبله الرسل وصريح في أنه ليس على الرسول أن يأخذ الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه (إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين)، (وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً)». وينتهي إلى أن يؤكد «التمس بين دفتي المصحف الكريم أثراً ظاهراً وخفياً لما يريدون أن يعتقدوا من صفة سياسية للدين الإسلامي ثم التمس ذلك الأثر مبلغ جهدك بين أحاديث النبي. تلك منابع الدين صافية بين يديك وعلى كثب منك فالتمس منها دليلاً أو شبه دليل فإنك لن تجد عليها برهاناً إلا ظناً وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً».
وإذا كان الأستاذ الشيخ علي عبد الرازق تناول فكرة الدولة الدينية الإسلامية ليوضح أنها ليست متلازمة مع الدين من ضمن فحص ديني وفقي واسع وعميق، فإن بعضاً آخر من علماء الأزهر ما لبث أن وقف من الدولة الدينية الإسلامية موقفاً معادياً واعتبرها تتعارض مع الدين.
لقد وافق الأستاذ الأزهري الشيخ خالد محمد خالد الشيخ علي عبد الرازق في البحث الشرعي والفقهي والعقلي حول عدم تلازم الدين مع الدولة الدينية وحول أن الإسلام دين عالمي ورسالة إنسانية وليس دولة ولكنه لا يقف من الموضوع عند هذه الحدود بل يتناول فكرة الدولة الدينية نفسها، على ضوء التاريخ، وعلى ضوء النتائج التي عانت منها المجتمعات الإنسانية، بما في ذلك مجتمعات الإسلام - ليؤكد أن الدولة الدينية أداة من أدوات (قتل الإنسان) وبالتالي هي في تعارض مع الدين في هديه واستهدافاته الروحية والإنسانية والاجتماعية، أولم تفرز طبقة الكهانة الخبيثة ومعها شرور الإرهاب والتكفير وخنق الرأي ودعم الاستعباد والقهر والاستبداد.
ثم يتناول موقف الإسلام العقلي من التشريع فيقول: «الإسلام لا يفرض على الناس أن يلتزموا في أمور دنياهم نهجاً معيناً سوى ذلك الذي تمليه عليهم مصلحتهم العامة وتلهمه إرادة التطور والارتقاء، والإسلام يحترم حق الناس في التشريع لأنفسهم ولم يهتم بالتشريع ولا بالقوانين إلاّ ليساعد الناس على ضمان مصالحهم. لذلك لا يضيق الإسلام ذرعاً بالقوانين الغربية عنه ولا بالقوانين التي لم يساهم في وضعها. فإذا وجد تشريع يرعى المصالح باركه الإسلام، لأن الإسلام قام على احترام كلمة العقل في التشريع.
والإسلام بدأ بإقناع الناس أن الجمود ضد طبائع الأشياء والشرائع (تتبدل بتبدل الأزمان) وأن ك نصوص فيما يتصل بالأحكام المنظمة لشؤون البشر تفقد ذاتها إذا هي استعصيت على التعديل والتحوير والتطوير. لقد جاء الفصل في القرآن كاسحاً يجرف المخاوف والأوهام ليؤكد استبدال حكم بحكم في كل الشؤون (الأحوال الشخصية، الإرث، عدة المتوفي) إلا ما يتعلق بالعبادات وبالأخلاقيات كالأمر بالعدل والإحسان والنهي عن المنكر والفحشاء والبغي.
وتطالعنا كتب الشيخ خالد محمد خالد زاهرة بالنقاش الفقهي حول دور العقل في الإسلام، في شؤون الإيمان كما في التشريع بل وموقف الإسلام العقلي من حدود الله وكيف طور الاجتهاد والرأي، الفقه الإسلامي تطويراً بعيد المدى وكيف لعبت قاعدة (المصالح المرسلة) أي المصلحة العامة دورها الرئيسي في تلبية الضرورات والمصالح.
ويتناول تباين المجتمعات وكيف أنها من أهم العوامل في التباين والاختلاف بين المذاهب الفقهية وكيف أن مذهب الإمام مالك في الجزيرة العربية، شديد البعد عن الرأي بعكس المذهب الذي ترعرع في بغداد التي اختزن عقلها الباطن كثيراً من الثقافات القانونية والعقلية فكان أن سمي مذهب الرأي (مذهب أبو حنيفة) ويذكر كيف أن الشافعي في بغداد حين انتقل إلى مصر تغيرت نظراته الفقهية وأنشأ مذهباً جديداً مختلفاً وحين سئل عن سر هذا التحول أجاب في بساطة وصدق (لقد سمعت أشياء لم أكن سمعتها، ورأيت أشياء لم أكن رأيتها) أي أن الشافعي استخدم حواسه، سمعه وبصره فتأقلمت بالحياة الجديدة شخصيته وبالتالي فكرته. ويضيف هل فرغت وانتهت مستحدثات الحياة: إن الأيام مثقلات بكل جديد تنتظر الأذن التي تسمع والعين التي ترى.
ويؤكد الأستاذ خالد أن استعمال العقل في تطوير الفقه الإسلامي لم يعرف الحدود والحواجز وأن الحكمة المقصودة من الفقه هي تلبية الضرورات والمصالح لذلك كان الفقه هو العلم المستنبط بالرأي والاجتهاد ويحتاج فيه إلى النظر والتأمل.
ويحيل الأستاذ خالد محمد خالد على ما ورد عن الإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي - وهو من هو. من علماء المسلمين (إذا تعارض النص من قرآن وسنة مع المصلحة قدمت المصلحة على النص) فقيل له (هذا أفتيات على النص) قال (بل هذا تخصيص له وتبيان) قيل له (الشرع أعلم بالمصلحة فلتؤخذ من أدلته (أي أدلة الشرع)) أجاب (المصلحة نفسها من أدلته (أدلة الشرع) وهي أقوى الأدلة وأولاها بالاعتبار).
ويسوق الأستاذ خالد محمد خالد كل هذا ليؤكد أن الدولة المدنية لا تتعارض مع الدين بل هي تعزيز له لأن لا نهضة للمجتمع ولا بقاء للدين نفسه إلاّ بالحد من سلطة الكهانة وفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية. فالدين لن يقوى على تحقيق أغراضه السامية إلاّ عن هذا السبيل.
وإذا كان الفكر الإسلامي وجد من علماء الدين ورجال الأزهر من ينكر الوجوب الشرعي للدولة الدينية في الإسلام، ومن يتصدى للدولة الدينية كعامل من عوامل إفساد الدين نفسه، ومن رفع لواء العقل في الشريعة الإسلامية ودوره الديني في رعاية المصلحة الاجتماعية وتحقيق النهوض المناقبي والروحي والمادي في حياة الإنسان، وفي إطار النظام المدني الذي يقيمه، فإن العديد من المفكرين الإسلاميين ذهبوا في تأكيدهم على الدولة العلمانية إلى أبعد وأطلقوا دعوة تثوير الفكر الديني الإسلامي.
يكفي أن نعود إلى الدكتور محمد نويهي في كتاباته لنرى أنه من خلال درسه للدولة المدنية على هدى تعالم القرآن، يكشف أن معظم الأحكام الفقهية لم تستخرج من الكتاب والسنة بل أخذت عن تشريعات البلدان المفتوحة ومعاملاتها وأنظمتها على أساس عدم مخالفتها المثل الإسلامية العليا. وهو يخلص بالتالي أن ليس ما يمنع علينا، ونحن نواجه تطوراً أسرع وأكبر جسامة من كل ما واجهه المشرعون القدامى حين فتحوا الأمصار واختلطوا بالشعوب الأخرى، أن نأخذ من التشريعات ما لا يتعارض أو ما يدعم المثل الإسلامية العليا. وأن ما قرره القرآن من أوامر ونواه ليس على درجة واحدة من الالتزام، فمنه المكروه ومنه الحرام ومنه المباح ومنه الواجب ومنه الفرض، وحتى الأحكام الملزمة عمد الخليفة عمر ابن الخطاب إلى إيقاف تطبيق بعضها بين الناس والتي يحتويها القرآن والسنة، لم يقصد لها الدوام وعدم التغيير، لم تكن إلا حلولاً مؤقتة احتاج لها المسلمون الأوائل وكانت صالحة وكافية لزمانهم ولكنها ليست بالضرورة صالحة وكافية لنا (تتغير الأحكام بتغير الزمان).
حتى أحكام الفرض والحرام القرآنية ليس من الضروري أن تبقى كذلك، ذلك أن مبدأ المصلحة العامة يقف دائماً وراء كل تشريع كما يقرر الفقهاء (والضرورات تبيح المحظورات) (ودفع الضرر مقدم على جلب الخير) ويضرب الدكتور محمد نويهي مثلاً على ذلك، نصيب الأنثى كنصف نصيب الذكر وأنه إذا كان هذا في وقته صالحاً وكافياً، في الطور الاجتماعي والاقتصادي الذي كانت عليه أوضاع الحياة الاقتصادية والعائلية والاجتماعية فإن أحوالنا الاجتماعية والاقتصادية تغيرت تغيراً يستلزم تعديل التشريع القرآني؛ فالأوضاع التي كانت تفرض على الرجل التزامات مالية لا تفرضها على المرأة، طرأ عليها من التغيير ما طرأ، فهل تبقى الحال على ما كانت عليه؟
وإذا كان الدكتور النويهي يطرح مثل هذه الفكرة الثورية بعدم ضرورة إبقاء الأحكام القرآنية في الفرض كما كانت. ويطرح أن التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية بين الناس والتي يحتويها القرآن الكريم والسنة الشريفة لم يقصد لها الدوام، فإن الأستاذ العلامة الشيخ عبد الله العلايلي يذهب إلى أنه لا تناقض بين الإسلام والعلمانية ويطرح قضية الزواج المختلط الذي تثور حولها المجادلات فيقول:
(بين آونة وأخرى، تعصف، في الساحة دينياً وقومياً، قضية الزواج المختلط، ويتفاقم النزاع فيها إلى درجة التراشق بالمروق والكفران والخروج من الله).
درج الفقهاء بشكل إجماع على القول بعدم حلية الزواج بين كتابي ومسلمة.
والإجماع وإن يكن حجة عند من يقول به منهم، فهو، في هذه المسألة بالذات، من نوع الإجماع المتأخر الذي لا ينهض حجة إلا إذا استند إلى دليل قطعي، ولذا لم يأخذ أبو حنيفة بإجماع التابعين بقولته الشهيرة (هم رجال ونحن رجال).
وبالرجوع إلى القرآن، وهو المصدر الاستدلالي الأول للفقه، نجد آيات تنير أمامنا البحث: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تنحكوا المشركات حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير من مشرك وإن أعجبكم) (سورة البقرة).
(اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهن، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) (سورة المائدة).
وبعد أن يناقش الأستاذ العلايلي آية (البقرة) المذكورة الإثبات أنها لا تنهض دليلاً على من يدعي بعدم حلية الزواج بين كتابي ومسلمة ويناقش معها الآيات التي يصح الاستئناس بها ويرى أنها هي أيضاً لا تصلح للحجية يعود إلى آية (المائدة) ويقول لنا ما يلي:
«فلنحصر النظر بآية المائدة وحدها إذن، فهي صريحة في حلية الطعام بتبادل. وفي الزوجية في حليتها بين مسلم ومحصنة من أهل الكتاب، وهذا في ظني ما أوهم الفقهاء، قديماً وحديثاً، وما دروا أن الآية القرآنية الكريمة، شأن النظم القرآني كله، خارجة مخرج الاكتفاء، فهو بعد أن نص على التبادل في حلية الطعام عطف عليه الزوجية كذلك.
وإن الاحتجاج بأن الاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر فليس بوارد مع العاطف… وقياس المسكوت عنه من انكاح مع المنطوق به من الأكل أولى، وهذه كل كلية قررها ابن رشد في بداية المجتهد في غير هذا المطلب ولكن يمكن تطبيقها عليه».
ويردف الأستاذ العلايلي: «ولا يتوهمن متوهم أنني في سياق دعوة جديدة إلى عقد مدني إلاّ كان بحثي أصلاً من نوع (تحصيل حاصل) فالعقد الزواجي في الإسلام عقد مدني بكل معناه إلاّ في بعض نواشئ، كان أكثرها مالي، لا يعتد بها اعتداداً يخرج العقد عن هذا النعت على أن الناشئ المالي من أهل الكتاب، ساقط أصلاً، ما دمنا نجعل اختلاف الدين محصوراً بالشرك وحده».
4 - خلاصة موقف الإسلام من علاقة الدين بالدولية:
ماذا يمكن أن نستخلص من كل ما عرضنا فيما يتعلق بموقف الإسلام من علاقة الدين بالدولة.
أولاً: (أن إسلامية الدولة أو الإعلان عن إسلامية الدولة أمر يرضي المسلمين بأغلبيتهم، وهي الأغلبية التي - كما ذكر أحد قادة الأخوان المسلمين المصريين، في معرض الدفاع عن دينية الدولة - من حقها باعتبارها أغلبية، وطبقاً للأنظمة الديمقراطية أن تأخذ بالنظام الذي تراه).
وحين يفسر هذا القيادي موضوعة (دين الدولة الإسلام) يقول: «أن النص على دين الدولة الإسلام، في صياغته ركاكة لأن الدولة شخصيتها معنوية لا مادية، والشخصيات المعنوية لا تتدين».
ويردف «الإسلام مجموعة أنظمة، فهو نظام ديني ونظام سياسي واقتصادي واجتماعي، وما يتعلق بالدين خاص بالمسلمين وحدهم ولا ينطبق على غيرهم، وما عدا ذلك فينطبق على الجماعة كلها، باعتباره تشريعاً ونظاماً دنيوياً.
وأنظمة الإسلام الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هي خير ما عرفه العصر الحديث، فإذا نص الدستور الجديد على أن مصر دولة إسلامية أو دولة يقوم نظامها على الإسلام، فليس في ذلك ما يمس عقائد غير المسلمين وهو في نفس الوقت أمر يرضي المسلمين الخ...).
(للبحث صلة) 

عصام المحايري
رئيس المكتب السياسي في دمشق
للحزب السوري القومي الاجتماعي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...