الفتنة والبغاة والمعارضة

17-03-2007

الفتنة والبغاة والمعارضة

تركت النزاعات الداخلية الثلاثة الكبرى في القرن الأول الهجري آثاراً عميقة في الفكر والسلوك والتصرف. والمعنيُّ بالنزاعات أو الفتن الثلاث: الأولى أو الكبرى والتي تبدأ بمقتل عثمان، وتبلغ ذروتها بمقتل علي (35–40هـ)، مع ما تخللها من نزاعات فرعية ومعارك دامية: معركة البصرة أو الجمل بين الإمام علي والخارجين عليه مع عائشة أمّ المؤمنين وطلحة والزبير، وحرب صفين بين علي ومعاوية، وحرب الإمام علي على المحكِّمة الذين انفصلوا عنه بعد صفين والتحكيم، والى مقتل الإمام علي والاختلاف على الحسن بن علي. والفتنة الثانية والتي تبدأ بمقتل الإمام الحسين عام 61هـ، والى استعادة الأمويين الزمام عام 72هـ بعد مقتل عبدالله بن الزبير على يد الحجاج، مع ما تخلل فترة العشرة أعوام من نزاعات دامية بين القيسية واليمنية، وبين الزبيريين والمختار بن أبي عبيد، ثم بين الأمويين والزبيريين، وغزو الأمويين للمدينة، ثم لمكة. في الفتنة الأولى تمثلت الفظاعة في أنها كانت بين صحابة الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، وأنه قتل فيها أربعة من بين الأقرب الى الرسول (صلى الله عليه وسلّم): عثمان وعلي وطلحة والزبير. وفي الفتنة الثانية تمثلت الفظاعة في مقتل سبط الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وفي انقسام السلطة، وظهور أميرين للمؤمنين. أما الفتنة الثالثة فكانت ما سمّي بثورة ابن الأشعث (82 –84هـ)، وقد بدأت بالكوفة بالعراق، وضد الحجاج بن يوسف بالذات، ثم تطورت بعد النجاحات الأولى لتصبح ثورة على الأمويين. إذ استولى الثوار على الكوفة والبصرة وسجستان وأجزاء من خراسان. وكان الأفظع في ما حدث فيها إمكان انفصال العراق عن الشام، وأنه كان بين المشاركين فيها في مواجهة السلطة الحجّاجية والأموية كثير من «القراء» أو تلك الطبقة من العلماء المتكوّنة حديثاً على يد الصحابة بالحجاز والعراق. ولهؤلاء أو من بقي منهم على قيد الحياة ندين بالتأملات والمراجعات والدروس المستخلصة.

وأول تلك الدروس المستخلصة التحريم القاطع لسفك الدم أو حمل السيف بالداخل، مهما تكن الأسباب. وهذا معنى الأحاديث والآثار الكثيرة التي تحذّر من الفتنة لا فرق بين المُحق والمُبطل. أما البدائل للتعامل مع السلطة الظالمة فقد حدث في شأنها خلاف طويل ومعقد. فقد شجع الأمويون وأنصارهم من علماء الشام الميل الذاهب الى الطاعة المطلقة للسلطة، وربطوا الطاعة بالجماعة، واسقطوا اعتبارات البحث في الشرعية التأسيسية (= الشورى)، والشرعية الوظيفية (= العدل). واتجهت المرجئة اتجاهاً آخر حينما فصلت الاختلاف السياسي عن الاختلاف الديني، فقالوا إن الخلاف مع السلطان الظالم ليس أمراً دينياً، بل هو شأن سياسي، والمعارضة جائزة إنما لا ينبغي أن تصل الى حد رفع السيف. ورأى القدَرية (= نُفاة القدر) والشيعة والمعتزلة الأوائل أن الانحراف الأموي سياسي وديني، ولذلك للثورة على الأمويين مسوِّغ واضح. إنما لا بد من الإعداد والاستعداد وجمع أكثرية الناس من حول المرشح المؤهل للخلافة حتى لا يُصاب العمل المسلح بالانتكاس، كما حدث لكل من ثاروا على الأمويين. وظهر توجه لدى من عُرفوا في ما بعد باسم أصحاب الحديث وأهل السنّة (وهم عدد من العلماء بالكوفة والمدينة ومصر) يقول بالطاعة للأئمة ما صلّوا وما جاهدوا، لكن لا ينبغي إعانة السلطة على الظلم أو التجند معها ضد المتمردين عليه وعليها. وهذا هو مقتضى مبدأ «الاعتزال في الفتنة» عندهم، أي التسوية بين السلطة وخصومها في عدم التحيز الى أحد الجانبين.

والواقع أن المرجئة وفقهاء أصحاب الحديث هم الذين حاولوا في النصف الأول من القرن الثاني الهجري فتح نافذة للمعارضة السياسية السلمية حتى لو أدت الى عنف جزئي أو عارض. إذ بعد زوال الأمل في إمكان العودة الى الشورى من أجل المشروعية والرقابة، ما عاد مبدأ تحريم سفك الدم أو سلّ السيف قادراً على ضبط التوترات. فكان لا بد من أمرين اضافيين: شرعنة المعارضة السلمية المسوَّغة في شتى الظروف لكي لا تحدث انفجارات مسلحة كل الوقت، وإعطاء الفرصة للذين يتورطون في عمل عنيف للعودة الى حياتهم العادية، دونما خوف أو اضطهاد. وقد احتجوا في ذلك بالآية القرآنية (سورة الحجرات: 9): «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلِحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأُخرى فقاتِلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله، فإن فاءت فأصلِحوا بينهما بالعدل وأَقسِطوا إن الله يحبُّ المُقسِطين». الملاحظ في الآية أنها تشترع لكل النزاعات الداخلية، وليس تلك التي تكون بين السلطة والمعارضة فقط. فالخطاب في الآية بالجمع، أي للمؤمنين أو سائر المواطنين. لكن فقهاء القرن الثاني – ولا ندري لماذا – فهموا أنها تعني التنازُع بين السلطة القائمة والمعارضة المسلّحة. وبناء على هذا الفهم رأوا أن الواجب تبيُّن المُحِقّ وعرض الوساطة لإيقاف القتال والإنصاف. فإن ظهر إصرار من جانب المعارضين على متابعة القتال، فللسلطة أن تُمعن في قتالهم حتى يُلقوا السلاح. لكن الأمر بعد ذلك لا ينتهي بالهزيمة والقتل والسجن، بل بالإصلاح، وإنصاف الذين ألقوا السلاح بالعدالة والقسط.

كانت المشكلة الأولى لدى الفقهاء في تعريف أو تحديد أو التفرقة بين المعارضة (المشروعة) والأخرى التي تدخل في أعمال العصابات المسلحة، والتي تعرضت لها آيةُ الحرابة في القرآن الكريم (سورة المائدة: 33): «إنما جزاءُ الذين يحاربون الله ورسوله ويسعَون في الأرض فساداً أن يقتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّع أيديهم وأرجُلُهُم من خلافٍ أو يُنفَوا من الأرض...». فالتفرقة بين الجريمة السياسية والأخرى العادية أن تكون للمتمردين دعوى أو يكون لهم «تأويل» أو أن عندهم مَظلمة. والتأويل المقصود هو الرأي السياسي الذي يخالف رأي أو مسلك السلطة القائمة. وفي الحالتين لا يتعرضُ السلطان (بحسب الفقهاء) للأفراد المعارضين وإن تكلموا أو خطبوا، ولا حتى إن تجمهروا من دون سلاح. وإنما عليه أن يرسل إليهم من يناقشهم ويستمع الى مطالبهم، ويحاول إنصافهم إن كانت عندهم مَطالب. فإن حملوا السلاح بعد الأخذ والرد، فالفقهاء مختلفون: هل يبدؤهم الأمير أو الإمام بالقتال أم ينتظر أن يبدأوه هم؟ الشافعي (- 204هـ) الذي وصلنا فصله في كتابه «الأم» لأحكام البُغاة (= أصحاب المطلب السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي)، يرى ألا يبدأَهم حتى يبدأوه، في حين يرى أصحاب أبي حنيفة أنه يجوز للسلطان أن يبدأَهم بالهجوم خشية «الفتنة»، أي أن تزداد الثورة والانقسامات. بيد أن الفقهاء – كالعادة – يبحثون عن «السوابق» للقياس عليها. وفي هذا الأمر ما وجدوا سابقة مثالية إلا في تصرفات الإمام علي تُجاه معارضيه المسالمين والمسلّحين على حد سواء. فعليٌّ كان خليفة شرعياً، وكان عادلاً. وقد أرسل الى المتمردين بالبصرة مَن استمع إلى مطالبهم، وقد انحصرت في القَود من قتلة عثمان، ووعدهم عليّ بالاقتصاص منهم بعد أن تهدأ الأوضاع، لكن الروايات التاريخية تذكر أنه كان هناك مَن أَنشب القتال من داخل أحد الجيشين لمصلحة له، أو أن المندسّين من فرقة عبدالله بن سبأ هُم من بادروا لإنشاب القتال.

ويتابع سائر الفقهاء الأخذ عن الإمام علي وسلوكه تُجاه البُغاة (= أصحاب المطلب المشروع مبدئياً). فقد انهزم خصوم علي في موقعة البصرة، وهنا تختلف الروايات في كيفية تصرفه. روايات أهل السنّة تقول انه ما تعرض لمن ألقوا السلاح ولا للجرحى ولا تابع منهزماً، كما لم يصادر من المنهزمين سلاحاً أو مالاً. وهم يعللون ذلك بأنهم مسلمون، وأنهم أخطأوا وبغَوا (أي اعتدوا حسب الآية)، وقد لقوا جزاء بغيهم في الهزيمة ومَن سقط منهم في المعركة، وما داموا قد عبَّروا عن التوبة بإلقاء السلاح، فلا شيء عليهم. والروايات الشيعية تذكر أن الإمام علياً قال لجنده: «لكم العسكر وما حوى»، أي ما خلَّفه المقاتلون في أرض المعركة وحسب، ويضيفون الى ذلك أنه قسّم بينهم ما تجمَّع في بيت المال بالبصرة، لكنه شدّد في عدم الاعتداء على الأفراد الذين شاركوا في القتال حتى لو كانوا قد قتلوا أو جرحوا، كما أنه نهى عن مصادرة أموالهم أو ممتلكاتهم بالمدينة.

ويعود الرواة فيذكرون مسلك الإمام علي مع من سُمُّوا في ما بعد بالخوارج، وهم المحكِّمة (أي الذين قالوا لا حُكم إلا لله)، وقد انفصلوا عن جيش علي، وذهبوا الى خارج الكوفة عندما قبل التحكيم. وقد ذهب اليهم الإمام بنفسه وجادلهم فرجع بعضهم، وظل البعض الآخر مصراً على الاعتزال الى أن يرجع علي عن التحكيم. ومع ذلك فإن علياً ما قاتلهم - في ما يقال – إلا بعد أن قتلوا عبدالله بن خباب صاحب النبي (صلى الله عليه وسلم). وهكذا، وبغضّ النظر عن التفاصيل، لا شيء على المعارضة الفردية أو الجماعية إن ظلت سياسية، وإنما تبدأ المشكلات إذا «أصاب أهل التأويل دماً أو مالاً أو سدُّوا السُبُل» مستعملين في ذلك السلاح. وفي تاريخ أبي زُرعة الدمشقي (-281هـ) أن سليمان بن هشام بن عبدالملك سأل العالم المدني المشهور الزهري (-124هـ) عن الحكم بعد إلقاء السلاح في «الفتنة» فقال الزهري: «أدركت الفتنة المسلمين وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) متوافرون، فرأوا أنه لا تَبِعةَ على أحد في دم أو مال في الفتنة».

ما معنى هذا كله، وهل كان له تأثير في مجريات الأحداث خلال الأزمنة الوسيطة؟ أول فصل وصل إلينا عن أحكام البغاة موجود في كتاب «الأم» للشافعي (-204هـ)، كما سبق القول. لكن لا بد أن البحث بدأ قبل ذلك بكثير. فكتُب (السِيَر) المؤلفة في النصف الأول من القرن الثاني مثل كتاب محمد النفس الزكية (-145هـ)، والأوزاعي (-157هـ) والفزاري (-186هـ) تعالج ثلاثة موضوعات: السلوك إزاء المجاهدين المستشهدين أو الذين يراد تقسيم الغنائم في ما بينهم وبين الدولة، والمرتدين عن الإسلام، والبُغاة الذين خرجوا على الإمام. والذي يظهر أن «البغي» كان مفرداً مُحايداً، ويعني ما تعنيه كلمة مُعارض أو صاحب مطلب، ثم صار يعني المعتدي أو المتجاوز للحد، وهو معنى تؤيده طريقة الاستخدام في القرآن الكريم. ولا شك في أن مبحث «أحكام البُغاة» في كتب الفقه أو في كتب مستقلة، ما كان المقصود به الجانب السياسي فقط، بل الجانب الجنائي إذا صح التعبير، وكيف يمكن مواجهته. وعلى أي حال، فإن الذين درسوا الأمر، أي أمر المعارضة في العصر الحديث ما فهموا مقصد الفقهاء في حماية المعارضين حياةً وحريةً وكرامةً، ولذلك انصرفت المعارضة السياسية عندهم الى الخوارج والشيعة. ولا شك في أنها كانت معارضة سياسية في البداية، ثم صار الجميع الى بناء تصور آخر للاعتقاد وللأمة. أما البُغاة فهم أُناس ما عارضوا السلطة لأنهم يريدون اعتقاداً آخر أو دولة أُخرى، بل لأنهم يريدون المشاركة من خلال سماع الرأي واعتبار المصلحة. وقد يكون المؤلفون المحدَثون تأثروا بكتاب قلهاوزن الصغير الذي ترجمه عبدالرحمن بدوي في الخمسينات بعنوان: «أحزاب المعارضة السياسية – الدينية في الإسلام: الخوارج والشيعة».

وما احترمت السلطات حلول الفقهاء السياسية كثيراً، ولا عهدت بالمعارضين للمحاكم العادية، بل كانت تقتل المستسلمين تارة، وتعفو عنهم تارة أخرى. والحليم جداً من وُلاة الأمر القدامى، من كان يقبل عرض الأمر على مجلس المظالم الأسبوعي أو الشهري برئاسة السلطان أو وزيره وحضور القضاة.

بيد أن التأثير الأساسي والباقي لأبواب الفقهاء المعقودة لأحكام البغاة في الكتب الفقهية العامة هو شرعنة المعارضة السياسية للسلطة القائمة ضمن حدود وحدة الأمة والسلطة، وعدم استخدام العنف من جانب الطرفين أو الأطراف المتنازعة. فحتى المصير الى العنف من جانب أحد الطرفين لا يلغي الحق في المشاركة، ومن ضمن ذلك الحق التفرقة الحاسمة بين الجريمة السياسية، والجريمة العادية فردية كانت أو جماعية.

رضوان السيد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...