غسان الرفاعي: ألم التذكر وعدم التذكر

22-07-2007

غسان الرفاعي: ألم التذكر وعدم التذكر

ـ 1 ـ آلمني أن تمرّ ذكرى الشاعر الفذ «محمد الحريري» ـ صديق النزق الشبابي، والسخرية الواخزة، والتفاؤل السخي ـ بصمت ثلجي، وتناس عقوق، فلا الأصدقاء صدر عنهم تذكير بنتف من سيرته الحافلة، وما أغناها وأدسمها! ولا ولاة الأمر عن النشاط الثقافي الإبداعي، خصصوا له مقالات «متواضعة» تبرز منزلته وفرادته في أدبنا المعاصر.

ولكن جيلنا الذي عاش بهجة التفاؤل، وسواد التشاؤم يحتفظ في سجلات ذكرياته، بصورة هذا الشاعر الاستثنائي الذي عملق طموحاته، واختزل مشاعره، ببساطة وتواضع، ومن النادر أن تصادف شاباً درس في الجامعة السورية في الخمسينيات، لا يختزن الشيء الكثير عن هذا ـ الإنسان الضخم ـ الذي يحمل قلب العصافير، ويتفاعل مع أوجاع ومسرات أقرانه، بمثل الحرارة والنزاهة اللتين كان يتصف بهما. ‏

ـ 2 ـ ‏

«الجهضم»: عثرت على هذه اللفظة، مصادفة، في قاموس «لسان العرب»، فلم أعط فرحتي لأحد، ومعناها: «رجل ضخم الجثة، خفيف الظل»، ومررت على أفراد «الشلة» واحداً واحداً، واسلمتهم اللفظة الطازجة، وأنا أفرك يدي فرحاً، قلت لهم: «إنها تنطبق على حبيبنا الشاعر «محمد الحريري» ـ رحمه الله ـ فوافقوني، دون مناقشة، ومنذ ذلك اليوم لم نعد نناديه إلاّ بالجهضم. رفضها في البدء، ومع مرور الوقت أخذ يستعذبها. ‏

وكان «الجهضم» يصادر همومنا، وحماقاتنا، ونكاتنا، ويحولها الى ألفاظ من جمر، وصور من جحيم، ثم يسجلها على نتف من الورق، ويضعها في جيبه، مع بقايا الأشياء «المترسبة»، حتى إذا سنحت فرصة «جماهيرية» أخرجها «مجعلكة، ممزقة» وألقاها بصوته «الرهيب» الذي يثقب الأبواب، والنوافذ، والسقوف، فيتماوج الناس كالمخمورين، وقد فقدوا اتزانهم، يصفقون، و«يدبكون» بأقدامهم على الأرض، ويصرخون: «أعد!، أعد!»، وهو بوجهه الكروي، وعينيه الملتهبتين، يعيد، ويتفنن في الإلقاء، وآه، كم أضحكنا حتى شرقنا بالدمع، وكم أبكانا حتى شققنا صدورنا!.. ‏

ـ 3 ـ ‏

وكان «الجهضم» مشاكساً كالطفل المدلل، نزقاً، كمراهق مأزوم، بحب الناس، بِنَهم وكرم وكبرياء، ويتعشق الحرية بشراسة شبه حيوانية، ويكره الظلم بحقد البدوي، وكان يتعامل مع الأشياء تعامله مع المخلوقات: الأشجار، والشوارع والنوافذ وثياب النساء، وذقون الرجال لها فم، وقلب، وذاكرة. ألم يرو قصة شباك تذاكر هش وبش حينما وقفت امرأة جميلة أمامه! ألم يتكوم داخل قنبلة، ليروي أحاسيسها وهي تقترب من عدو فاجر. ‏

انضم الينا في بدء حياته ـ وكنا عصبة من المتمردين الأشقياء ـ فعاش معنا الانتفاخ الوطني، والتورم الثوري، ووهم اجتراح المعجزات، ولكنه اختفى قبلنا، فلم يكتشف الخديعة، ولا الهزيمة، وظل متفائلاً، واثقاً من النصر، حتى آخر أيامه. ‏

وفي آخر لقاء معه، قال لي مبتهجاً: «تخيلت أنني عصفور، يطير من بلد الى بلد عربي حاملاً في فمي زهرة خضراء، وكنت كلما اقتربت من حدود بلد، تهب عليّ رياح عاصفة، تدمّر الحدود ومخافر المراقبة، حتى إذا ما انتهيت من رحلتي، كانت جميع الحدود بين البلدان العربية قد دمرت وزالت، هذه قصيدة طويلة أضيف إليها كل يوم أبياتاً جديدة!». ‏

وغاب «الجهضم» ـ رحمه الله ـ قبل أن يشاهد مصرع عصفوره، لا عند الحدود الفاصلة بين الدول العربية، وإنما داخل الحدود، إذ أصبحت هناك حدود داخل الحدود، وجدران الفصل الاسمنتية تشيّد بين الأحياء والشوارع والأسواق. ‏

ـ 4 ـ ‏

أتاني، ذات يوم ـ وكنت نائباً لرئيس اتحاد الكتّاب العرب، الأستاذ الراحل «صدقي اسماعيل» ـ وفدٌ من مثقفي دير عطية، وعاتبني: «كيف لا أرسل أدباء وشعراء الى مدينة دير عطية، لإحياء الأمسيات الأدبية والشعرية ـ أسوة ببقية المدن؟» وقد تمّ الاتفاق مع الوفد على ارسال ثلاثة أدباء هم: الشاعر «محمد الحريري» والشاعر الشاب «أيمن أبو شعر»، والقاصّة الدكتورة «انعام مسالمة»، وحدد موعد الأمسية، وغادر الوفد راضياً، ووعد باجراء الاستعدادات اللازمة لإنجاح الأمسية. ‏

وفي اليوم المحدد للسفر الى دير عطية، مررت على «الجهضم» في منزله الذي يستشرف حديقة السبكي، في سيارة الاتحاد، بعد أن أعلمني الشاعر «أيمن أبو شعر» أنه سيذهب مع عدد من رفاقه الشباب، وأعلمتني الدكتورة «مسالمة» أن زوجها سيصحبها بسيارته. استقبلني أخو الشاعر، وأدخلني الى غرفة الاستقبال، وقال لي: «إن «محمد» سيوافيني بعد لحظات!، وما كدت أشرب قهوتي حتى دخل «الجهضم» بقنبازه الأبيض الفضفاض، وكان يغطي فمه بمنديل والدم يتدفق منه، بلا انقطاع. صرخت به ـ وقد استبد بي الفزع: ‏

ـ «ما بكَ؟ ماهذا الدم؟» ‏

وضحك بطفولة، وقال وهو يهز كتفيه: ‏

ـ «نزيف مفاجئ، المسألة بسيطة!» ‏

وأقنعته، بعد الحاح، بضرورة الذهاب الى مستشفى «الشرق» الذي لا يبعد كثيراً عن منزله، لإجراء الاسعافات اللازمة، إذ ليس من المعقول أن نسافر الى دير عطية، وهو يبدل المناديل بعد اصطباغها بالدماء القانية، وقد اقتنع بعد جهد، وغاب بعض الوقت، ثم عاد، بعد أن ارتدى ثيابه، فمضيت به الى المستشفى القريب، وحينما فحصه الطبيب «نبيل م» وهو صديق كريم كان يدرس معنا في الجامعة، نظر إليّ بغضب، وقال: «خذه الى البيت حالاً، وضعه في الفراش، لا يجوز أن يتحرك لمدة أسبوعين على الأقل، سأحقنه بإبرة الآن، وسأعطيك بعض الحبوب، المهم عدم الحركة!». ‏

وعدت به ثانية الى السيارة، وقد عقدت العزم على تنفيذ أوامر الطبيب الصديق، والغاء السفر الى دير عطية. ‏

وكم أصابني الذعر حينما قال لي، بعد أن جلس الى جانبي في السيارة: ‏

ـ «الى دير عطية، بالسرعة الممكنة!». ‏

صرخت به، وأنا لا أتمالك نفسي: ‏

ـ «هل أصابك الجنون؟ سمعت ما قاله الطبيب!». ‏

قال، وهو يرفع منديلاً مشبعاً بالدم ليضع مكانه منديلاً آخر. ‏

ـ «الفارس لا يموت إلا وهو على حصانه في ساحة المعركة، والشاعر لا يموت إلا وهو يلقي الشعر على المنابر..». ‏

ولم تفلح كل وسائل الضغط، والاقناع، إذ كان مصمماً على الذهاب الى دير عطية. ‏

ـ 5 ـ ‏

توقفنا في مدينة النبك، وقصدنا مستشفاه «الدانماركي» حالاً، للحصول على المزيد من المناديل البيضاء، والعقاقير التي توقف النزيف، وحينما عرفت الطبيبة المناوبة ـ وهي دمشقية شابة تخرجت حديثاً من جامعة دمشق، هوية «المصاب بالنزيف» أظهرت اهتماماً خاصاً، وفعلت كل ما كان ينتظر منها بحماسة وبعناية وهي تقول: ‏

ـ «شاعرنا «الحريري» كنز، ومطلوب منّا العناية به بقلوبنا!». ‏

ولم يتمالك «الحريري» نفسه، إذ نظر إليها، وهو يحبس دموعه وقال: ‏

ـ يا الله، شعبنا كبير، من قال: بإنه مقبرة للابداع! ‏

وحينما وصلنا الى دير عطية لم نصدق أعيننا، كنا ننتظر أن نحيي الأمسية في مركز ثقافي صغير ـ وأن لا يتجاوز عدد المستمعين مقاعد الصالة، وقد فوجئنا باللافتات والاعلام، والجماهير الغفيرة، وشعارات «أهلاً برسل الثقافة والابداع» وقد اختار سكان دير عطية ان تكون الساحة الرئيسية في المدينة هي المكان اللائق للأمسية. ‏

ـ 6 ـ ‏

كلا، لا انساه، وهو يمتطي المنبر كما يمتطي الحصان، وينشد القصيدة تلو القصيدة، بصوت مجلجل في الفضاء كالرعد، كلا لا انساه وهو يرفع منديلاً منقوعاً بالدم ليضع مكانه منديلاً آخر، والعرق يتصبب من جبينه، والناس على امتداد البصر يهتفون، بلا انقطاع: «أعد، أعد» وهو يستعيد ابياته، ويجود في إلقائها. ‏

قلت في تقديمه في الساحة العامة: ‏

ـ « قال لي في السيارة، وهو آت اليكم: الشاعر لايموت إلا على المنابر، كالفارس الذي لايموت إلا على حصانه في ساحات المعارك، ارجوكم، اتوسل اليكم، لاتحققوا له هذه الأمنية، لاتطالبوه بالمزيد من القصائد». ‏

ولم يرحم نفسه، ولم يرحمه جمهوره، أكان يستهويه ان يمزج أبيات شعره بالدم؟ أكان يسعد جمهوره أن يشاهدوا «الجهضم» وهو ينزف، ينزف بجنون وسادية؟ لست ادري. ‏

اذكر هذا كله، واشرق بدمع الحنان. ‏

رحمة الله عليك، ياجهضم، ياقيثارة جيلنا. ‏

ـ 7 ـ ‏

ولاتزال مقاطع من هذه القصيدة تملأ ذاكرة جيل بكامله: ‏

وقفت بشباك التذاكر، تلقي بأصابعها الأوامر، تنهد الشباك واسترخى على خمش الأظافر، وصغى بكوته يتمتم: «عرقل الكرت المهاجر.. حتى يذوق حديدي الوحشي من رغد الضفائر.. وقد جاز كوني الكئيبة الف عابر وعابر.. لكنما عن مثلها لم تنبثق فتن النواظر.. بيضاء اوشك خدها بلهيبه يغزو المجامر.. قهرت بحمرة خدها برد الشتاء فعاد خاسر.. لولا احمرار «الكرت» لم تظهر اصابعها لناظر.. درجت، فكر وراءها جيل من البشر المغامر.. انا أول الحبل، وفي الوسط انعقدت، وفي الأواخر. ‏

غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...