أدب النصائح في العصر العثماني

11-04-2007

أدب النصائح في العصر العثماني

في بحثه حول التكوين التاريخي للأمة العربية تتبع المؤرخ العربي عبدالعزيز الدوري مظاهر الإحساس بالوعي العربي والهوية، خلال عصور الإسلام المتعاقبة، وأحسن الدوري بحثاً حين لفت انتباه القارئ إلى أهمية بحث موضوع الهوية والتكوين من خلال الشعر العربي، وفي دراسته تابع الدوري تطور مفهوم الهوية والانتماء العربي في شكل دقيق، وانتقل من العصر الأيوبي، إلى عصر التنظيمات العثمانية. وما بين العصر الأيوبي أو حتى المملوكي ثمة مسافة زمنية، كبيرة لم تخل من الوعي بفكرة الأمة.

فتح الدوري بوعيه وجهده الرصين المجال للبحث، في هذا الاتجاه ولم يغلق بابه، ولم يشأ أن يضع أحكاماً مسبقة إيماناً منه بأن ثمة تراثاً عربياً لم ير النور بعد، ومن شأن الكشف عنه أن يعيد السؤال عن موضوع الهوية والاحتجاج ورفض مقولة سكونية العرب وقابليتهم للاستبداد، وتحريرهم على يد نابوليون، في حين عمد غيره ومن جاؤوا ليبحثوا في التكوين العربي وحركة النهضة إلى إقصاء المرحلة الممتدة من 1516 - 179م.

هذا الإقصاء انسحب في الدراسات العربية في موضوع العلاقات بين العلماء والسلطة أو دراسات الايدولوجيا السلطانية ومرايا السلاطين، على مجمل الحقبة العثمانية خلال السنوات 1516-1918م، وقلما ذهبت الدراسات على قلتها – نشير هنا إلى جهود قيمة لخالد زيادة ورضوان السيد وعبد الغني عماد - إلى العمق. وإذا كانت حقبة النهوض العربي تتحدد بالوعي العربي خلال القرن التاسع عشر وهو وعي طالب بالحرية ونبذ الاستبداد، فإن هذا خطأ تاريخي ناجم عن نقص في معرفة المصادر التي تعود الى الحقبة العثمانية.

للتمثيل على مقولة الإقصاء، تخلو دراسته «العقل السياسي العربي» محدداته وتجلياته لمحمد عابد الجابري، في قائمة مصادرها عن أي مصدر أصيل مطبوع أو مخطوط يعود الى الفترة العثمانية. وهي تبدأ في دراسة فكرة الدولة والدعوة مع التركيز على الجانب السياسي، وتنتهي بالايدولوجيا السلطانية في القرن الخامس الهجري. ويخلص الجابري إلى أن نقد الفكر السياسي العربي يجب أن يبدأ من نقد الميثولوجيا ورفض مبدأ التسليم بالأمر الواقع، ولو عمَّق الجابري قراءته لوجد أن التسليم بالواقع لم يكن سمة المرحلة العثمانية.

وما يزيد عمق الأزمة أن تحديد بدء عصر النهضة العربية، جاء بالاستناد إلى تحديد بداية الوعي بالتأخر، والحاجة إلى التغيير والرغبة بالتحديث كما أراد فهمي جدعان من الاستشهاد بمقولة الشيخ الأزهري حسن العطار حين قال بأن: «بلادنا لا بد من أن تتغير أحوالها...».

السؤال هنا، هل أن الرغبة بالتغيير والحفاظ على الهوية العربية والارتقاء بالعرب كان كما حُدد له؟ وهل علينا أن نسير على خطى ألبرت حوراني وفهمي جدعان وغيرهما في تحديدها لتجليات التحديث والنهوض ورفض الظلم؟ ونبدأ النهضة، من بداية الوعي بالاقتباس من الغرب ولحظة الصادم معه وحسب.

يرى الشيخ الصوفي عبد الكريم القشيري (ت:465هـ/ 1072م) المتأثر بأستاذه الصوفي الشيخ أبي علي الدقاق (ت:406هـ) أن «معظم الحرية في خدمة الفقراء»، وفي هذا السياق نقرأ تجربة شيخ صوفي من مدينة حماه السورية صاحب مخطوط «نصيحة الشيخ علوان إلى السلطان سليم بن عثمان» والذي يعود إلى القرن السادس عشر، وهو من آخر ما ظهر من أدب مرايا السلاطين في المشرق العربي، وهذا المخطوط يشير إلى رؤية جديرة بالدراسة نحو الإصلاح والتغيير، وهي دعوة مبكرة في الزمن العثماني الى رفع الظلم، ومثل هذا المخطوط، الكثير من المصادر التي لم تدرس في السياق الذي تم فيه التحقيب للنهضة العربية.

تجسد رسالة الشيخ الصوفي الحموي علي بن عطية بن الحسن الحداد الحموي مؤسس أسرة علوان في حماه والمولود سنة (873هـ/ 1468م) والمتوفى سنة (936هـ/1530م) أول صيحة عربية يطلقها عالم عربي ذو ثقافة صوفية ضد استبداد السلطة وظلمها الرعية في الحقبة العثمانية.

يبدأ ابن علوان رسالته مذكراً السلطان سليم بمسؤوليته تجاه رعيته مخاطباً إياه بضرورة تذكر سلوك الرسول (صلى الله عليه وسلم) في رعاية أحوال أمته، ثم يفرد فصلاً لمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويبدو ساخطاً على ما كان سائداً في عصره من المنكرات وكما يقول: «... وفي هذا الزمان وذلك متعين على ولي الأمر دفعه وإزالته وإقامة حدود الله».

يتمنى الشيخ على السلطان سليم بقوله: «ولو أن الله سخر مولانا السلطان وأزال هذه البدعة الشنيعة الموجبة لحلول غضب الله تعالى وسخطه على أهل تلك النامية ويكون ذلك في صحيفة حسناته». وهو يشكو للسلطان هنا انتشار عادة شرب الخمر والبغاء في زمانه وفساد الأحوال». ولا يبدو ابن علوان ممالئاً السلطة العثمانية الجديدة، وهو المتنقل بين دولتين، وعندما انتهى الحكم المملوكي للشام ومصر (1516م) لم يغير ابن علوان موقفه من الظلم وتعديات رجال الدولة، فأنكر على ولاة الأمر الجدد – العثمانيين - عنفهم وتعسفهم في إيذاء الناس واغتصاب حقوقهم وتوقيع العقوبات البذيئة والنفسية، وهاجم سلوك العسكر تجاه الرعايا وكان يعتبر أنه من المنكرات «ما يؤخذ من القرى والفلاحين ظلماً» وهو المال الذي كان يسمى «حماية». وكان يقدم شفاعات بالمظالم فقد أنشد شعراً ينتقد الإدارة الجديدة لبلاد الشام مع وصول العسكر العثماني.

حادوا عن التنزيل والقـرآن / يـا أيها الملك المؤمر قـادة

ما حل من جور ومن عدوان / هلا كشفت عن البلاد بكاشف

هذا الوصف عمقه ابن علوان في رسالته في فصل حضَّ فيه السلطان على تغيير المنكرات وجاء فيه:

«ومن المنكرات بخس الناس حقوقهم وأكل أموالهم وأخذها بغير طريق شرعي فإن ذلك ظلم والله تعالى يقول في بعض كلامه:﴿يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا﴾ وقال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾. ومن المنكرات التي ينبغي على ولي الأمر أدام الله له السعادة تغييرها وإزالتها بنهي الرسل المبعوثين من جنابه وحضرته نهى الولاة عن التعرض لأخذ دواب المسلمين غصباً وظلماً ومنعهم من ضربهم وشتمهم لا في الصحراء ولا في البنيان والعمران فإن ذلك واجب عليه أمام الله».

يمضي ابن علوان في رسالته بالحديث عن المنكرات التي عاصرها أو كان يشهدها في زمانه ومنها: أخذ أهل الإسلام «إلى السجن بالضرب والإهانة» ولا يتوقف عند مجرد الإشارة الى أنواع الظلم السائد والفساد المنتشر، بل أنه يدعو السلطان إلى: «أن ينظر بعين اللطف في حال رعيته، ويبرز مراسيمه الشريفة بالمنع من مثل هذه المفسدة». وأخطر ما يشير إليه ابن علوان، ويدعو إلى رفعه عن الناس لأنه مخالف للشرع الإسلامي ومصادره قوله: «... ومن المنكرات هجم الطارقين من العسكر على بيوت الرعية والدخول على حريمه والنزل في ديارهم قهراً فإن ذلك من المخالفة للكتاب والسنة...».

لم يكن نقد ابن علوان أحوال عصره متستراً وبعيداً من مرأى السلطة العثمانية. وهذا النقد استمر في رسالته المشار إليها كما أنه كتب العديد من المؤلفات التي تحوي إشعاراً ناقدة الحياة العامة في عصره.

ظل هذا النقد مستمراً مع القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)، في رسالة حسن كافي الآقحصاري (ت:1024 هـ/ 1615م) المسماة «أصول الحكم في نظام العالم» وهي رسالة تدعو الى الإصلاح والتغيير موجهة مباشرة إلى السلطان العثماني ووزراء السلطنة، ومع حلول القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) مال أدب النصائح إلى التنديد بالظلم والدعوة الى العدل بحدة اكبر مما كان عليه من قبل. وخلال هذا القرن يمكن التمييز بين مستويين من العلاقات، أولهما علاقة العلماء مع السلطة العثمانية، وثانيهما علاقتهم مع العسكر وهي العلاقة التي تميزت بالنقد المباشر لتعسف العسكر.

أنجزت قراءة العلاقة بين المثقف والسلطة عربياً، ولما كان فك عقال المرحلة العثمانية مع بدء التفكير بالانفصال عنها قبل مئة سنة وكانت الفكرة العربية قد أنضجت، قبل وبعد إعادة العمل بالدستور العثماني المعطل سنة 1908م، وجرى استثناء الحقبة العثمانية الأولى في دراسة الرفض ومقاومة الاستبداد، لأسباب جوهرها أن تراث تلك الحقبة ما زال مخطوطاً وبالتالي جرى استسهال الفكرة القائلة بإيقاظ مدفع نابليون للشرق ومع أفكار الثورة الفرنسية، وأُوتي بالكواكبي وخير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي ليمثلا لنا صورة المغيرين والرافضين الاستبداد فإن تك الفكرة استقرت وراقت لمحقبي النهضة، على رغم أن مصارعة الاستبداد ودفعه كانت شقت طريقها قبل هؤلاء بقرون.

مهند مبيضين

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...