أدونيس: مكان آخر في ماوراء الوطن والمنفى

08-04-2007

أدونيس: مكان آخر في ماوراء الوطن والمنفى

-1-جاء في لسان العرب ان النفي هو إخراج الإنسان من بلده وطردُه. وعُرف عن العرب نوعان من النفي: نفيُ الزاني، ونفي المخنّث. «كان الزاني الذي لم يُحصن يُنفى من بلده الذي هو فيه الى بلد آخر، وهو التغريب الذي جاء في الحديث. ونفيُ المخنّث يعني ان لا يُقرّ في مدن المسلمين. «ففي هذه الرواية التي يوردها لسان العرب ان النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر بنفي رجلين اسمهما هيت وماتع وكانا مخنثين في المدينة».

لكن، هل عرف العرب النفي، بالمعنى السياسي؟ أو هل يحدث اليوم، ان تحكم سلطة عربية على سياسي يعارضها بنفيه وطرده؟ والجواب في حدود علمي هو: لا.

هناك طبعاً، سياسيون وكتاب ومفكرون وعمال عرب تركوا بلدانهم الى بلدان اخرى، طوعاً أو كرهاً، في ظروف صعبة ذاتياً وموضوعياً. وهذا أمر آخر نابع من التوق الى الهجرة. والهجرة في عمقها ليست في ذاتها منفى، بقدر ما هي، على العكس، خروج من صحراء الداخل، تحركها رغبة دفينة في انتقال الشخص من مرحلة الإنسان – الجماعة، الى مرحلة الإنسان – الفرد. وهي الرغبة في الحرية والانعتاق. إنها رغبة الخروج من التقليد المقيِّد الى التجديد المحرِّر. فلا تُضمر الهجرة لدى صاحبها، إجمالاً، إرادة التماهي مع الآخر. إنها تضمر، بالأحرى، تحدياً للمخاطر ورفضاً للطغيان، وتطلعاً للعمل والتقدم. والحق ان معظم المهاجرين العرب قد يفضلون، اليوم، البلدان التي يعيشون فيها على بلدانهم الأصلية، لأنها تتيح لهم ان يستعيدوا انفسهم المستلبة، وأن تتفتح عبقرياتهم، وأن يعيشوا أحراراً. هكذا تتيح لهم ان يتابعوا سيرهم على الصراط الإنساني، الخطر الضيق، لكن الأخلاقي والخلاق، مرددين مع الشاعر العربي القديم: «وكل بلاد أوطنت، كبلادي»، أو: «وطول مقام المرء في الحي مخلق/ لديباجتيه، فاغترب تتجدد».

كان المخنّث والزاني ينفيان بوصفهما يمثلان مرضاً، أو يعارضان وضعاً دينياً – أخلاقياً. أما المعارض، سياسياً، فلم يكن يُنفى، وإنما كان يُقتل غالباً. فقد كان يُنظر إليه بوصفه يمثل خروجاً على السلطة القائمة بأمر الله ورعايته. وإذا نجا من القتل فمعنى ذلك انه هارب أو ثائر، وقتله مرجأ الى حين، الا اذا تراجع وتاب، وأظهر من جديد الطاعة لولي الأمر. غير ان هذا كان نادراً جداً.

ولا نعرف في الماضي العربي إلا حالتين واضحتين بارزتين من النفي الذي يمكن ان يقال عنه انه «سياسي»، بالمعنى العام:

الأولى هي نفي الشاعر طرفة بإفراده، كما عبّر، «إفراد البعير المعبّد»، والثانية هي نفي ابي ذر الغفاري الى الرّبذة في الصحراء.

وفي العصر الحديث، مارست سلطات الاستعمار في البلدان العربية النفي السياسي. أما الدولة الوطنية التي قامت بعد الاستعمار، فلم تلجأ الى النفي، وإنما الى اساليب اخرى أكثر فاعلية في استئصال المختلف المعارض. ذلك انها لم تتأسس على اختيار حر، ولم تبن نظامها على ما يشمل الجميع، أكثرية وأقليات، وإنما ارتكز نظامها على أقلية خاصة مرتبطة عضوياً به، هي الجماعات الموالية. وهكذا تُرك طريق المنفى التلقائي مفتوحاً، غالباً، امام المختلف – في الدين، في الطائفة، في الرأي، وفي البحث عن السبل التي تضمن الحياة الكريمة.

وتختلف مكانة الأقليات بين بلد عربي وآخر. ففي بعض البلدان العربية ليس لها أي حضور سياسي، أو حتى أي تمثيل برلماني. ولا يقتصر الأمر على الأقليات الدينية. فالأقليات الإتنية سارت هي كذلك في طرق المنفى، كمثل الأكراد. اما الأقليات من الأديان والإتنيات القديمة كالصابئة والآشوريين والكلدان والمندائيين والسريان، فإنها تعيش نزفاً سكانياً خطيراً – في هجرتها شبه الجماعية الى بلدان العالم.

إن غياب النفي، سياسياً، بحكم تصدره السلطة في المجتمع العربي، اليوم، ظاهرة تستدعي التأمل. انها تشير، أولياً، بالنسبة إلي، الى ان فكرة الحرية ليست قائمة عضوياً، في الحياة العربية، ذلك ان فكرة الفرد أو الشخص المستقل، سيد إرادته وفكره وعمله، وسيد مصيره، ليست هي الأخرى قائمة. «الجماعة – الأمة» هي الوجود السياسي والثقافي الأكمل، وقاعدة هذا الوجود، ومعياره. إنها الشجرة – الأم، وليس الفرد إلا برعماً فيها. لا رأي له إلا بوصفه امتداداً لها، أو تكراراً. «من قال في الدين برأيه، فهو مخطئ وإن أصاب» قول فقهي شرعي يؤكد ما اقول. فليست الحقيقة، بحسب هذا التفكير، انبثاقاً، أو نتيجة للقاء المتواصل بين الفكر والواقع، وإنما هي موجودة مسبقاً في النص الديني وفي تأويله الذي يحوز الإجماع. والفرد إذاً محتوى في الجماعة – الأمة. انه اثنية في ثوب.

أشير هنا الى انني لا أمزج، كما قد يبدو، بين الحكومة الدينية القائمة على الإجماع (المفترض) وبين الدولة الجديدة التي ليست دينية ولكنها تعطي لنفسها عصمة الدولة الدينية وتقمع الرأي المختلف. فالدولة الحديثة ليست حديثة ولا هي دينية. لكنها تمارس نهج الدولة الدينية. الفرد في الدولة الدينية لم يكن موجوداً قانونياً. والفرد هو المواطن في دولة اليوم أي صاحب الرأي ما دام يقترع ويشكل أساساً لانتخاب الحاكم. لكن المشكلة هي استمرار المفهوم الديني للدولة ومعه مفهوم الرعية بدل المواطن وإعادة إنتاج العلاقة السلطوية الدينية نفسها. هكذا قد يُلفظ الفرد من الأمة، بوصفه مرضاً، أو كفراً، أو غير ذلك، تبعاً للحالة. ليس له انا، أو ذاتية مستقلة، بحيث يقدر ان يخالف رأي الجماعة – الأمة، ويظل مقبولاً، أو جزءاً منها، من دون ان يُرفض أو يُكفّر، او يُقتل. يتعذّر على سبيل التبسيط، ان تقبل الجماعة – الأمة شخصاً فيها مثل نيتشه، أو فرويد أو داروين، أو رامبو. شخصاً يقول حقيقته هو، ضد الحقيقة التي تقول بها الجماعة – الأمة التي ينتمي إليها، وتظل مع ذلك حاضنة له، قابلة به، حريصة على حقوقه وحرياته. ذلك ان الجماعة – الأمة لا ترى من الفرد أو فيه إلا دوره الديني والدور الاجتماعي الثقافي المرتبط به. هنا، لا يتكلم الفرد بأناه وإنما يتكلم بدينه كما تنقله الجماعة – الأمة. أو لنقُل: الدين هو الذي يتكلم في الفردوية، فلا ذاتية له. ويقدر كل فرد هنا ان يقول: «حياتي ليست أنا»، لأنني لست أنا من يبتكرها، وإنما هي معطاة لي، على نحو جاهز ومسبّق. هكذا يُمضي الفرد في المجتمع العربي الإسلامي حياته بحثاً عن حياته، وبحثاً عن نفسه.

إنه يولد منفياً، نفياً مزدوجاً: تراثياً ومدنياً. وعليه ان يتحرر من منفى التراث الأصل، ومن المنفى الآخر، المنفى – النظام الذي يستمد أسسه من ذلك التراث.

لنقل ان بنية الطغيان في الحياة العربية، منذ نشوئها سياسياً، حتى اليوم، ادت الى الأمور التالية التي يعيشها العرب راهناً:

1- ليس النظام هو الذي يتبع واقع البلاد، بل البلاد هي التي تتبع واقع النظام.

2- أُلغيت فكرة الوطن، وحل محلها النظام.

3- أُلغي النفي، سياسياً، وحل محله القتل.

لكن، كما غيّر الطغيان في الحياة العربية معايير المواطنية والحرية والعلاقة مع الآخر، غيّرت ارادة التحرر في الوقت نفسه، معايير الوطن والمنفى. لم يعد الوطن حيث الولادة والعائلة، بل حيث الحرية والعمل. صار ما يسمى المنفى مكاناً للطمأنينة والعمل، وإمكاناً لممارسة الحرية ومختلف النشاطات الإبداعية.

أقول، إذاً، لا يكون المنفى في المكان وحده. المنفى قائم كذلك داخل الذات. في اللغة ذاتها. وقد يكون اشد هولاً في مسقط الرأس منه في أي مكان آخر.

أقول، إذاً، وُلدت منفياً. فمنفاي الأول، الحقيقي المتواصل، هو الوطن الذي ولدت فيه، والثقافة التي ربيت عليها. وسوف اقص عليكم حكاية منفاي داخل مواطنيتي. من دون تستر وراء قضية، من دون دعاوى رسولية أو رسالية، دون حجب للفردي الخاص باسم الجمعي العام، ومن دون أي نزوع ايديولوجي يحرف ويموّه ويرائي. سأقصها كما عشتها. لن أكون كمثل كثيرين يتكلمون على قضايا يتخيلونها أو يتمنونها، وعلى بشر لا يعرفونهم، فيما يتجاهلون الأساسي الحي: الإنسان الذي فيهم. وآنذاك، لا يكون الكلام إلا حجاباً.

عندما أجد نفسي في حالة أكبُتُ فيها ما يتوجب علي أن أكتبه، فإنني أكون في منفى – أو على الأقل، في حالة تشبه المنفى.

عندما أكون مجزّأً، مشطوراً: جسدي مقيم حيث ولد، وعقلي يتغذّى من عالم لم أولد فيه، ومن ثقافة ليست ثقافتي، فإنني أكون في حالة نفي، أينما كنت جغرافياً. فالمنفى اسم لتجربة لا تنحصر في الهجرة من مسقط الرأس، والإقامة في بلد آخر.

وعندما اتكلم لغة أخرى، داخل لغتي نفسها، فإنني أكون في حالة من حالات المنفى: منفى اللغة، أو المنفى في اللغة. المنفى داخل اللغة – الأم، خروج من الرَّحم إلى العالم. كأن أمي التي أخرجتني إلى العالم هي التي تنفيني من أحشائها. لا ملجأ لي حتى في اللغة. تائه فيها. مشرّد فيها. كأنني أنا نفسي، أنفي نفسي. ومنفاي هنا يتحرك باستمرار: لا أتوقف عن نفي نفسي، لكي أعرف كيف أحظى بها، أو لكي أحسن الوصول إليها. ولن أصل. لحسن الحظ. لأن الوصول هنا نوع من الاندراج في ركود المادّة.

إذا كان المكان الذي ينظر إلى لون بشرتي وأسماء أجدادي هو الذي يحدد هويتي، ويرسم لي نطاق الحركة ودرجة الحقوق ونسبة المواطنة ومسافة التأمل ومرجع الأسئلة، فإن هذا المكان منفى.

إن كنت لا أملك حرية فكري كاملة، أو كنت لا أملك تقرير مصيري وتوسيع وجودي الفكري، أو كنت لا أقدر أن أطرح أسئلتي بلا مواربة وأعلن تحفظاتي بلا تقية وأناقش القضايا الجوهرية الكيانية بلا حدودٍ ولا كوابح ومحرمات فكرية من أي مستوى كانت، فإما أن أتمرد وإما أن أقبل المنفى. فالمنفى الفعلي هو الإطار الثقافي الذي يحدّ من شكوكي وتساؤلاتي حول الكون والمصير.

المنفى هو أولاً غربة الإنسان عن ذاته وحريته الفكرية. هو الحجاب على العقل ورباط الأسئلة وتمويه القلق والحيرة وقبول الإذعان والتسليم بدل التعبير والمساءلة.

-2-

أقول، إذاً، ولدت منفياً.

قصّابين، القرية التي ولدت فيها فاتحة المنفى – ديناً، وفناً، ثقافةً وعلاقات. حفظت معظم القرآن غيباً وأنا في الثانية عشرة من عمري. وتعلمت الخط والقراءة في «الكتّاب» تحت شجرة في الهواء الطلق. قرأت دواوين الشعراء العرب الكبار، برعاية أبي وتوجيهه وإرشاده. غير أنني، في هذا كله، كنت أشعر في قرارتي بأنني أتعلم كذلك المنفى.

كأن قصّابين لم تكن، في سريرتي، مقاماً، بقدر ما كانت انتظاراً. وكان يخيل إلي أن بقائي فيها لن يجديني في أي شيء. وسأظل ما دمت فيها كمن يسائل الحجر، ويناقش الريح.

في ذلك العهد كانت المنطقة التي نشأت فيها لا تزال تعاني من التهميش والعزلة والإهمال. وكانت جميع سبل الخروج مقفلة، إلا اثنان: الجندية ومجال العلم والتعليم. كانت الجندية خارج عالمي وأحلامه. وكان العلم مستحيلاً بسبب الفقر وغياب المدرسة.

فجأة، لا أعرف كيف. رسمت خطة للخروج من القرية، في شكل حلم من أحلام اليقظة. كانت سورية قد نالت استقلالها، وتحولت إلى جمهورية، وانتخب رئيسها الأول شكري القوتلي. وقد شاء أن يزور المناطق السورية، ليتعرف على هذه الجمهورية، بالمشاهدة والتجربة. قلت في حلمي: سيأتي إلى منطقتنا، إذاً، سأكتب له قصيدة. سألقيها أمامه. سوف تعجبه. وسوف يطلبني بعد سماعها لكي أراه. وسوف يسألني: ماذا يمكن أن نقدم لك؟ وسوف أجيبه: ليس في قريتنا مدرسة، وأريد أن أتعلم.

وتم الحلم كما رسمته. وصار واقعاً حياً. وربما، كان عليّ، لكن في إطار آخر، أن أكتب جواباً عن هذا السؤال: كيف يتحول الحلم إلى واقع؟

خرجت من القرية إلى المدرسة التي كانت الأخيرة في سورية، بين مدارس البعثة الفرنسية العلمانية، وكانت في مدينة طرطوس. وبعد سنتين، أغلقت هذه المدرسة نهائياً. وانتقلت إلى مدرسة من المدارس الوطنية، التي بدأت تنشئها الجمهورية السورية الناشئة.

كان خروجي إلى المدرسة الفرنسية العلمانية، فاتحة لخروجي في اتجاه عالم آخر، عبر القرية التي ولدت فيها، وبدأت أشعر بتجسدات منفاي الأصلي – في الطائفة، في الحياة الاجتماعية، وفي الحياة السياسية والإيديولوجية. بدأت أشعر في المقابل، بأن عليّ أن أخلق عالماً خاصاً – أن أتخلص من هذا المنفى، أن أتساءل أولاً عن انتمائي الطائفي. وأن أتخلّص من هذا الانتماء وأتساءل عن عزلة الطائفة، وعن هذه الجزر المغلقة على بعضها بعضاً. من أنا في الطائفة؟ ومن هذه الطائفة؟ اجتماعياً، ومدنياً، كانت القرية الرمز المدني لهذه الطائفة. والفلاح رمزها الاجتماعي. وكانت المدينة تنظر إليها بنوع من التعالي، حيناً، ومن الازدراء والكراهية حيناً، مع ما يتبع ذلك من تصوير نمطي متدنٍ دينياً واجتماعياً، ومن الشفقة حيناً آخر. كان التاريخ هو الذي يفكر ويقوّم – وكانت المدينة لسانه الناطق.

-3-

كيف أخرج من المنفى؟ سؤال طرحه ويطرحه كثيرون غيري. وربما قدموا أو يقدمون أجوبة غير أجوبتي. هو إلى ذلك سؤال لن أجيب عنه بلغة عامة، لغة المواطن العربي الذي نفته الدول بحيث يفقد مواطنيته، ولا يعود موجوداً إلا اسماً ورقماً. ولن أجيب عنه بلغة ناطق باسم قضية أو نظرية. سأجيب عنه انطلاقاً من تجربتي الشخصية الخاصة كما أشرت. فالتخصيص هنا هو الأجدى، والأكثر إضاءة.

لا أريد أن أحتجب في نقل ما أراه الحقيقة، وراء أيّ حجاب، كما أشرت سابقاً. لا حجاب المراعاة أو الموضوعية أو الخوف، ولا أيّ حجاب آخر يمكن أن ينسجه المحرم والمقدس. كل مكبوتٍ، كل ما لا يقال ليس إنكاراً للحقيقة وحدها، وإنما هو إنكار للإنسان ذاته. إذا شاء المجتمع أن يحترم كينونته، فإن قوته الوحيدة في ذلك هي إنسانيته الحرة والمفتوحة. من دون ذلك لن يكون أكثر من قطيع.

-4-

كانت الإيديولوجية السياسية التي تبنّاها أبناء جيلي أو معظمهم، لكي أكون أكثر دقة، تسير في السياق التقليدي القديم. وكانت في هذا الإطار توصف، في أحسن حالاتها، بأنها ترتيب وتحسين وتزيين. وفيما كان كل من أبناء جيلي يقول فخوراً مزدهياً: أنا أنا، مشيراً بالأنا الثانية، إلى الماضي العربي، كنت أتمتم في ذات نفسي حائراً متردداً: أنا لا أنا.

الفترة التي عرفت فيها يقظتي على العالم والأفكار والأشياء، كان يقودها منطق الهوية – الهوية المزدهية حتى الغطرسة، والمكتفية بذاتها. وكان يمثل هذا المنطق، على نحوٍ أخصّ، حزب البعث العربي، رافعاً القومية العربية إلى مستوى المسلّمة الميتافيزيقية، كما لو أنها لاهوتٌ ثانٍ. هكذا لم يكن يرى في الآخر الذي يعارضه إلا الفساد والشر. لا أزال أذكر الأستاذ الذي كان يدرسنا التاريخ، عبدالحميد دركل. كأنني أراه الآن يروح ويأتي في الصف، مزهواً بكلامه على العروبة والأصل القومي العربي، والوطن العربي الواحد، والأمة العربية الواحدة، ورسالتها الخالدة الواحدة. لا يزال يرنّ في أذني قوله: «هناك أشخاص يقولون بالانتماء الى السومريين والبابليين والآشوريين والفراعنة والفينيقيين. هؤلاء حشرات يجب أن نسحقهم بأقدامنا».

كان هذا المنطق امتداداً للمنطق الأصولي الديني، من حيث انغلاقيته، وسهره على صحة الأصل، وفكره الإقصائي الطغياني. وكما كان الأول عدواً شرساً لكل انتماء غير عربي، داخل البلاد العربية، كان الثاني عدواً شرساً لجميع الفرق الدينية المنشقة عن الجسم الرسمي للأمة – الدين الواحد.

كنت في هذه الأثناء قد انخرطت في حركة فكرية سياسية هي الحزب السوري القومي الاجتماعي، ظنّاً مني بأنه يجسد الصورة المغايرة، المرجوة، للصورة السائدة في المجتمع السوري، وإذاً للثقافة السائدة. وأنه تبعاً لذلك يخرجني من منفاي – منفى الأقلية. تمثلت لي هذه الصورة أساسياً في الدعوة الى العلمانية، أي الى بناء مجتمع ينفصل فيه الدين عن السياسة، بحيث يكون تجربة شخصية لا تلزم أحداً إلا صاحبها.

تمثلت أيضاً في النظرة اللاعرقية الى المجتمع، والقول: في البدء كان التعدد – أعني أن المجتمع مزيج بشري ثقافي، في كل موحد، يتخطى أي انتماء عرقي. ويوضّح هذه النظرة مفهوم وضعه انطون سعادة، مؤسس الحزب، سمّاه «السلالة التاريخية» التي تنصهر فيها الأعراق والثقافات. ويذكّر هذا المفهوم بما طرحه، في ما بعد، الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، وما سمّاه الـ «ريزوم» أو الجذمور، كما يترجمه «المنهل». ويقول لنا الجذمور، كما تقول السلالة التاريخية: في البدء كان التعدد. فالجذمور مجموعة من الجذور تتلاقى وتتشابك، أصلياً. والآخر إذاً، بدئياً عنصر مكوّن من عناصر الذات. لا ذات إلا متشابكة مع الآخر. وهو مفهوم يجنبنا فرض التعريب أو قمع الجماعات الإثنية والاقليات الدينية وإلغاء الهويات وقسرها على الذوبان في هوية عربية واحدة. يجنبنا كذلك الفرز الإتني اللغوي والاجتماعي، فلا يعود المجتمع مجموعة من العناصر المفككة، المتضاربة، كل منها ينظر الى الآخر بوصفه عدواً، وإنما يصبح متحداً، اجتماعياً، مدنياً، واحداً. التهجين، التعددية، التركيب، هي في هذا الاطار، عبارات ليست مجرد صفات أو حالات. إنها كذلك أفعال تتم في التفاعل واعادة التشكيل، بحيث تتعذر معرفة الأصول، وتزول مفهومات الانتماء القومي إلا الى المجتمع والأرض التي تحتضنه. هذا هو البعد الاساسي، وربما الوحيد الذي جذبني الى هذا الحزب. أما البعد التنظيمي الهرمي فكان يقمع التنوع ويتشدد إزاء الرأي الشخصي. كان فيه نوع من المفارقة: يحتضن التعدد الإتني من جهة، ويفرض، من جهة ثانية، فكراً أوحدياً، يقصي المختلف.

في هذا الأفق تغيرت نظرتي الى العروبة. فإذا كانت دون مضمون حضاري معرفي نقدي تساؤلي منفتح وعادل تصبح مسألة عرقية أو بمثابة مسألة عرقية على رغم ما عرفته الأرض العربية من تمازج الشعوب.

في هذا الأفق أيضاً، خرجت من اسمي الأول علي، الى اسم ثانٍ، أدونيس. هكذا بلغة الذات، أخذت أعلن حروبي على نفسي، لكن بأسلحة الآخر الذي يحيا فيّ. أو لأقل: اسم أدونيس إظهار للآخر الذي فيّ، أو هو أنا بوصفي آخر.

غير أن هذا الاسم صار اثماً. عمّق منفاي، داخل بلادي وداخل ثقافتي. ولا يزال يثير لي المشكلات على أكثر من صعيد.

أخذت في ما بعد اكتشف بشكل أكثر وضوحاً، أنني أعيش في عالم يبدو كأنه خطّط سلفاً، ويدار بأساليب تجعل من الإنسان سجيناً، بطريقة أو بأخرى. الحزب نفسه يفقِد الانسان خصوصيته الفكرية، وحريته النقدية، ويصبح داخل سور عقدي منظّم، وحلقة في سلسلة، وصوتاً في جوقة. فمثل هذه الأحزاب أديان أخرى وإن خلت من الميتافيزيقا.

في البيت، في المدرسة، في المؤسسة، في الشارع، كلّ شيء كان يبدو لي كأن سلطة خفية كامنة تحول دون أن يكون الانسان سيّد حياته ونفسه. كأنه يحيا: جسمه في مكان، ونفسه في مكان آخر. وأخذ شعوري يزداد بأنني شخص محكوم، مسيّر، ويحال بينه وبين أن يدافع حتى عن نفسه. تحاصره السلطة أينما اتجه، وكيفما اتجه. لا السلطة السياسية وحدها، بل السلطات الأخرى، الدينية والاجتماعية، الحزبية والثقافية. تنتهي الأخلاق في مثل هذا العالم الى أن تصبح مؤسسة ضخمة للنفاق. وينتهي العالم الى أن يصبح لا مبالاة، والانسان الى أن يصبح وحشاً. النضال من أجل إذلال الانسان: هذا هو جوهر السلطة التي نشأت في ظلها. ولا فرق في ممارسة هذه السلطة بين العسكري والسياسي، الكاتب والشرطي، الشاعر والتاجر، في هذا الحزب أو ذاك. جميعهم في النوع واحد. وإذا كان هناك فرق بين واحد وآخر، فهو فرق في الدرجة لا في النوع. ومنذ بداية الخمسينات، من القرن المنصرم تحديداً، صرت ألمس بالخبرة أن الانسان في الحزب أي حزب أو في المجتمع، ليس موجوداً إلا بوصفه جزءاً من منظومة سياسية أو من النظام القائم أو تابعاً له. الآخرون إما متهمون أو مجرمون سلفاً. وعليهم إذاً، إن أرادوا أن يواصلوا حياتهم، أن يفكروا ويعملوا، في إلغاء كامل لحرياتهم وذواتهم.

وشيئاً فشيئاً صرت أشعر أن نشاطي السياسي ليس أكثر من ماء أصبّه في كأس لا قعر لها. ولم يكن ذلك الماء إلا حياتي ذاتها. وهذا ما أخذ يطرح عليّ سؤال المعنى. ما معنى أن يكون الانسان سورياً او عربياً أو مسلماً؟ وما يكون معنى الفكر، ومعنى الشعر؟ ومعَنى الانسان، قبل كل شيء؟

وفي أواسط الخمسينات عبرت الاختبار الكبير الكاشف: لمناسبة قضية تورط فيها بعض مسؤولي الحزب الذي انتميت اليه، جيء بأعضاء الحزب بالمئات من أقاصي سوريا، من دون أي علاقة محتملة بموضوع المحاكمة، لأنهم بُرّئوا في النهاية أو خرجوا بمنع محاكمة، لكن بعد محن عدة. وقد جيء بي من حلب وأنا في خدمة العلم. ومع أنني خرجت بمنع محاكمة إلا أن الثأر امتد الى ميدان الشعر. بل صار مجرد وجودي وشعري نفسه موضع تساؤل بل يُعدّ عدواناً وتهديداً. وتبين لي الحصار المزدوج: قمع فكري من جانب الاحزاب التي تدعو الى التحرر، وقمع بوليسي من جانب الدولة ومؤسساتها تمثل بوقائع غريبة لا أجد هنا المجال للحديث عنها. وعندما بلغ القمع من الطرفين مستوى الحرية الفكرية والفنية، فضلاً عن السجن مجدداً بلا دعوى، توجب أن أبحث عن الحرية في مستوى آخر. ومع أن المنفى، بالنسبة اليّ ليس في الخارج، وإنما هو في الداخل فقد اخترت بيروت حيث كان الانسان يقدر، على الأقل، أن يعيش منفاه في الداخل، وحيث المعركة من أجل الحرية الفنية والفكرية ممكنة. وجاءت في هذا السياق مجلة «شعر»، وفي ما بعد مجلة «مواقف» أفقاً ووعداً. وقد أتاحتا لي، على الأقل، أن أخوض معركة الحرية الشعرية والفكرية بحسب قناعاتي. وإذا كان خوض المعركة فاتحة أساسية وأفقاً فإنه لم يكن آنذاك حاسماً.

- 5 –

المنفى إذاً، بالنسبة إليّ ليس في الخارج، وإنما هو في الداخل. ولم يؤثّر في منفاي تغيير الأمكنة. وبما أنّ المنفى، بالنسبة إليّ، ليس مسألة جغرافية، وإنما هو مسألة ثقافية، فإنّ العلاج، إذاً، لا يجيء من خارج، بل من الداخل. والسؤال هو نفسه: ماذا أفعل داخل ثقافةٍ أشعر بأنني منفيّ فيها ومنها؟

يتمثّل هذا المنفى، ثقافياً، في الرؤية الأوحدية، الدينية والسياسية، السائدة الى الحياة والإنسان، تلك التي تقود المجتمع العربي، وتؤسس لوجوده. ما تقول هذه الرؤية؟

تقول إن دور الإنسان ليس في الكشف عن حقائق جديدة، وإنما هو في شرح الحقائق التي أُوحِيت الى خاتم الأنبياء، وبُلّغت في رسالة سماوية هي خاتمة النبوّات. كل دعوى تزعم القول بحقائق أخرى، باطلة حكماً، عدا أنها تحمل رفضاً معرفياً لهذه الرسالة التي هي الوحي الأخير.

ومعنى ذلك أن المستقبل لا يمكن أن يحمل حقائق أكثر صحة من تلك التي حملها هذا الوحي. والثقافة إذاً، علماً وفناً، ليست إضافة، وإنما هي انبثاقات من النصوص، شرحاً وتفسيراً وما نسميه بالتقدم، إذاً، لا يعني الإتيان بشيء لم يكن موجوداً، وإنما يعني إبراز ما كان كامناً في النصوص، وإن كان يعني التحسين والتجميل... وجهد الإنسان، نظرياً، يقتصر إذاً على النقل، واضعاً العقل نفسه في خدمة هذا النقل. فليس هناك، وفقاً لهذه الرؤية، ماضٍ ليكون هناك مستقبل. (...)

وبما أن التقدم الكامل أو الأكمل موجود في النبوة، أي موجود في الماضي، فأن نتقدم اليوم هو أن نقتدي بهذا الماضي، سياسة وثقافة. فالماضي بهذا المعنى، هو مستقبلنا.

والدين والسياسة والثقافة كل لا يتجزأ، وفقاً لهذه الرؤية.

- 6 –

كان عليّ، لكي أكون نفسي، أن أنفيها من هذا المنفى. لا في خارج أجنبي، بل داخل هذا المنفى ذاته – داخل شعبي وثقافتي ولغتي. كان عليّ أن أبتكر مكاناً آخر، في ما وراء الوطن والمنفى.

وفيما أخذت أعيش في هذا المكان الآخر، كان معظم أبناء جيلي، شعراء ومفكرين، يعيشون ويفكّرون ويكتبون من دون أن يطرحوا أي سؤال جذري على هذه الرؤية، أو على أصولها. وتلك نقطة افتراق عميق بيني وبينهم. وفي هذا الأفق تحديداً، لا أعدّ لغتي جزءاً من اللغة الشعرية العربية السائدة، أو اللغة الفكرية السائدة. والفرق بيننا هو الفرق بين قبول البناء القائم وتحسينه وتزيينه، من جهة، وإعادة النظر فيه، وإعادة بنائه على أسس جديدة، وفي أفق جديد، من جهة ثانية. فلم تكن المشكلة، بالنسبة إليّ، في الإصلاح – تعديلاً وتحسيناً. المشكلة هي، على العكس، في إعادة التأسيس.

ازداد عملي تعقداً عندما وعيت أن النص الديني الإسلامي لا ينفصل حكماً وطبيعة عن مشكلات الثقافة الغربية، عبر تجانسه مع النص التوراتيّ وحياً وتاريخاً. فالعلاقة بين النصّين وثيقة جداً، وهذا يعني أنه لا يمكن الفصل بين الثقافة العربية – الإسلامية، والثقافة الغربية اليهودية – المسيحية.

المظهر الأكثر تعقيداً في هذا الإطار هو أنه أتيحت للنصوص الدينية اليهودية والمسيحية عقول خلاّقة وحرة تعيد قراءتها وتأويلها في ضوء الشغف الإنساني الى المعرفة والتقدم والسيطرة على المادة واكتشاف الكون. هكذا فُصِلَت عن المدينة، وأتيح لها أن تبتكر مدنيَّتها وشرعَها المدني وقوانينها المدنية وثقافتها، من دون أن تسيء الى الإيمان الديني، ومن دون أن يفرض الدين تعاليمه عليها. بذلك تحقق النهوض في الغرب، مؤسساً على الفصل بين عالم الدين الذي صار تجربة روحية فردية خاصة، وعالم المدينة، الجمعي المدني المشتَرك. (...)

- 7 –

الداخل الذي أنتمي إليه منفى، لا أنتمي إليه. هكذا أتحرّك بين ضفتين في داخلي: ضفة الأصل، وضفة البحث والانتظار. بين ماضٍ أسس للظلم والقهر، للإلغاء والإقصاء، ومستقبل مجهول، معلَّقاً بينهما في وضع شخصٍ يرفض العودة الى الوراء، ولا يعرف الى أين سيصل به المطاف. انتظاراً لنهاية المطاف، أطوّف في هذا المكان الآخر، داخل لغتي، بلغتي. صار الشعر، بالنسبة إليّ، أكثر من الشعر. صار محيطاً تلتطم فيه أطراف العالم والأشياء كلها، ذاتاً وموضوعاً، داخلاً وخارجاً، طبيعة وصيرورة. صار وطنَ حريتي وميدانَ أسئلتي وتمردي. وكان عليّ أن أحوّله الى أسطورة لكي تتصادى مع أسطورة المنفى. وفي هذا ما قد يفسّر انهماكي في التاريخ. فقد كان عليّ، لكي أضيء منفاي، أن أُضيء الجذور التي جئت منها. وفي هذه الإضاءة، أشعر بأن المنفى، داخلاً وخارجاً، هو البعد المحرّك في الإنسان. ذلك أنه يتيح توظيفاً وتحريراً عاليين للطاقات الإنساني، على مستوى المخيلة، وعلى مستوى الواقع، وعلى مستوى الإبداع. يتيح الحياة في تماسّ مباشر مع حركية العالم. كأنما الإنسان لا يحيا حقاً إلا وهو يبتكر منفاه، كما يبتكر وطنه. وكأنّ الخارج إنقاذ من الداخل في أحيان كثيرة. أو كأنّ الأجنبية أو الغربة، تتيح ابتكار وطنية عالية في ما وراء الجذور والأصول، السلّف والتاريخ. أو كأنّ الذات تولّد هي كذلك في الآخر.

- 8 –

قلت مرة في قصيدة كتبتها في باريس: «لا الخارج بيتي، والداخل ضيّقٌ عليّ». في هذا ما يفسّر ذلك المكان الآخر الذي أعيش فيه، في ما وراء التخوم. في منفى – وطن، في ما وراء المنفى والوطن.

واللغة العربية هنا، لغتي – لغة انتمائي الإنساني والثقافي، هي مدار هذا المكان. وهي طينه، والأفق، ومادة المعنى وهي فضاء التمرد وسماء الحرية. الوطن هنا ذائب حاضر في المنفى. المنفى هنا ذائب مقيم في الوطن.

وُلد جسدي في هاوية وصار هو نفسه هاوية. فليس المنفى شيئاً أضيف الى حياتي. إنه حياتي نفسُها.

أدونيس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...