حوار مع الكاتب ناظم مهنا

21-07-2007

حوار مع الكاتب ناظم مهنا

إذا كان هناك من يكتفي بكتاب واحد، من مجمل تجربة كاتب، ليمنحه شرف الإبداع، فلدى ناظم مهنا(الأرض القديمة) مجموعته القصصية الفريدة في بابها، ليكون واحداً من هؤلاء الذين يستحقون التكريم.

من قــِبل القراء والنقاد طبعاً، هذا غير أعماله الأخرى في الفن القصصي والتي صارت إلى الآن خمس مجموعات، كان آخرها (مملكة التلال)، ومع أنه حاضر، على الدوام عبر مقالاته النقدية، ونشاطاته الأدبية، لكن ّ الحاصل هو تجاهل هذه التجربة الهامة، فحتى الموقع الالكتروني (القصة السورية) لايذكره على الإطلاق، بل إنني لأشك في أن أصدقاءه من الكتاب قرؤوه كما ينبغي. ‏

مع كل هذا الظلم، لايبحث هذا القروي الأليف عن أي شيء، ويلوذ بالابتسامة، والإصرار على إصدار المجموعة تلو المجموعة، وكأن ردّه هو الكتابة فقط . ‏

القصة القصيرة فن مخذول من أهله، وأعني القصاصين تحديداً، ألا تشعر بأن حقها ضائع بسبب الاهتمام الزائد بالشعر والرواية؟ أم هناك أسباب أخرى؟ 
 كانت القصة القصيرة فناً رائجاً ومحتضناً من قبل الصحافة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين..إلا أن القصة تمردت على الصفحات اليومية، وسئمت من هذه الحاضنة المبتذلة، وأرادت أن تعلن أنها فن قائم بذاته ومستقل عن الإعلام الترويجي ، وأن تبني لنفسها مجداً بين دفتين!..وربما راحت تتعالى معتدة بالمكانة التي وصلت إليها بفضل كتاب بارعين .. ‏

ولكن نحن اليوم نعيش زمن انتصار الإعلام، ليس فقط على الفنون بل حتى على المعتقدات وحتى على العقل!.. ‏

ہوهذا الإعلام المنتصر يصفي الحساب مع من تمرد عليه، ولنقل بالمزيد من التجاهل!.وبما أن الشعر والرواية لم يكونا يوماً وليدا الإعلام والصحافة، فقد تصالح هذا الإعلام معهما أو تمسح بهما!.. ‏

ہہ على كتاب القصة أن يصمدوا أو يصبروا في معركة التجاهل هذه، ولذلك علينا أن نحيي بورخيس وزكريا تامر وكل قاص صمد في هذا الميدان دون أن يكترث بالخسارة. ‏

وبهذه المعركة غير المرئية تكسب القصة ميزتين تستحق عليهما أن نرفع لها القبعات: الميزة الأولى أنها فن متمرد.والثانية، أنها فن تراجيدي . بمعنى آخر؛ هي فن أوديبي بجدارة!.. ‏

من جهتي،لا أزال أرى أنها، بشكلها الجيد،هي الفن الأكثر مقدرة على التعبير ،والأكثر أصالة في التعبير عن الانفعالات الدونزيوسية والأبولونية عند الإنسان..و إضافة إلى ذلك ،هي الفن السردي الذي هو خلاصة فنون عدة،وهي الوريث للحكاية منذ ولادتها وحتى في تحولاتها المتعددة الأشكال،هذا دون أدنى انتقاص من قيمة الفنون الأخرى. ‏

ہ رغم أنك قاص، تهتم بالشعر كثيراً، فتتابع الحركة الشعرية الجديدة، وتكتب عن الشعراء الذين تحبهم..هل ثمة شاعر نائم فيك؟.. ‏

ہہ ربما لو جرت الأمور على سجيتها لكان علي أن أكون شاعراً ،فأنا أنحدر من ثقافة شعرية!..يكاد الشعر فيها أن يكون مقدساً،وحفظ الشعر حتى الماجن منه يعادل حفظ النصوص المقدسة،وليست هذه مبالغات!..كما أن والدي شاعر وله كتب شعرية مطبوعة..وأذكر أنني عندما كنت صغيراً كان بعض الناس يطلقون علي لقب(ابن الشاعر) وكنت أظنها شتيمة..إذاً كانت بداياتي مع الشعر ونشرت قصائد كثيرة في الصحف اللبنانية، وكنت وسط أصدقاء كثر من مجتمع الشعراء أعدٌ شاعراً !.. ‏

لكن، وبما أنني إنسان غير يقيني، فقد ذهبت إلى حقل تعبيري آخر غير المكان الذي وجدت نفسي فيه منذ بداية وعيي الأدبي، وكان الدخول إلى عالم القص كالدخول إلى مملكة جديدة..ومنذ منتصف الثمانينيات لم اكتب شعراً، ولكنني أشعر دائماً أنني معني بالشعر بالشكل الذي يكتب فيه وبالجدل الدائر حوله. ‏

أنت واحد من سلالة بورخيس ،وأسلوبك في( الأرض القديمة) وبعض قصص (مملكة التلال) و( منازل صفراء ضاحكة) أسلوب بورخيسي، من حيث الاعتماد على الإيهام التاريخي،والغوص في الرموز والميثولوجيا،وخلق حالات متاهية..كما أنك كتبت قصة بعنوان(ملف بورخيس)..ما تعليقك؟ ‏

فيما يخص بورخيس، أعتقد أن اكتشافي لأهميته كان في عز الهجير الأيديولوجي،حين كان رهين المحبسين قابعاً في الظل،ولعله من الإنصاف أن نذكر بما كتبه عنه الناقد السوري خلدون الشمعة في مطلع السبعينيات.. ‏

ومن يقرأ (ملف بورخيس) سيلاحظ أنني كنت أحارب بمودة هذه السطوة التي لبورخيس،وكنت قد ذكرته في قصص سابقة على هذه القصة!. ‏

إن بورخيس يعد برجاً سردياً معولماً،والثقافة على مستوى العالم،منذ نهايات الحرب الباردة، تعيد له الاعتبار الذي يستحقه ويوجد اليوم شبه إجماع على مكانته المرموقة،وكنت قبل أن أعثر على بورخيس معجب للغاية بإدغار ألن بو،وهو أيضاً من السلالة الملعونة ذاتها. ‏

ہ وعطفاً على السؤال السابق،في هذا المنحى من كتاباتك القصصية مستويات عدة، منها مستوى الحفر في الروحانيات ونبش أرشيف الذاكرة الجمعية،ومستوى آخر يتجلى في إعلاء شأن الحالة الريفية واكتشاف جمالياتها،تحت ضغط العالم المعاصر،ومستوى ثالث في تأجيج اللغة القصصية إلى أقصاها..ألا يرهق هذا عفوية القص؟ ‏

ہہ كل شيء يصلح لأن يكون موضوعاً للقص ومحط اهتمام القاص، ولا توجد مناطق محرمة، وإذا كنت تريد أن تتقدم في جماليات القص عليك أن تدخل المغامرة التي قد تحتاج إلى جرأة في الخيال وشجاعة في استخدام اللغة ويقظة للعقل..ولذلك لا داعي للتهيب من مراودة المتاهة أو النبش في أرشيف الذاكرة.. ‏

وفي زمن ما بعد الحداثة، حيث كل أيديولوجيا وكل عقيدة وكل مرحلة أو حقبة أو تاريخ حضارة أو ثورة، هي مجموعة من السرديات، كما أن فكر ما بعد الحداثة أعطى للحكاية قيمة!..ولكن القاص ليس مجرد راوٍ للحكايات. آلية السرد بسيطة ومعقدة، بسيطة في كونها حكاية، ومعقدة باعتبارها فناً تتم صناعته بعناية عقلية!. ‏

ہ وفي السياق نفسه كيف يجسر الكاتب الحداثي الهوة بين زمنه وأزمنة الأساطير؟ ‏

ہہ نعم،يتم ذلك بالوعي التزامني،فالإنسان حامل ثقافات قديمة وحديثة،بعيدة وقريبة،وعلى الكاتب الحداثوي أن يعي ذلك!..حينئذٍ لا تغدو الهوة سحيقة،ولا نحتاج إلى ركام من الفانتازيا لكي نعبرها،في الوعي التزامني تنعدم الهوة،ولعلها باعتقادي ميزة ذهنية جديدة أعلى من شأنها الفكر الحديث،واستثمر فيها الأدب ما بعد الحداثي بشكل بارع والنماذج كثيرة،ونذكر على سبيل المثال :بورخيس،أمبرتو إيكو،كويلو، براون...الخ ‏

يقول الراوي في قصتك(سيناريو محلي لعام 2001):«أنا قاص حداثوي،أكتب أشلاء أحداث،انعدام مركزية.."إلى أي حد تتمثل هذه العبارة؟ ‏

ہہفي هذه القصة،كما في بعض القصص أيضاً،أعبر بالكتابة القصصية عن المماحكة مع الشكل،وهذه المماحكة بحد ذاتها،وكما أعتقد،هي محتوى أو مضمون إذا جاز القول،إنه الصراع الدائم بين قوة الواقع وإرادية الفن،بين الحالة الوضعية بكل أبعادها المادية والنفسية والعقلية والنفعية،وبين مقاومة الذهن لهذه القوة الصلفة والضاغطة..هذا التوتر الناجم عن الصراع ينقله الأدب بأشكال مختلفة!..والجملة المذكورة تلامس جانباً قلقاً من فهمي للكتابة، ولكنها لا تلخصني. ‏

ہ لديك قصة بعنوان (الراصد) تتناول فيها شخصية مخبر.لماذا تعاملت مع هذه الشخصية النمطية بشكل نمطي،وهذا ما تأنفه،لماذا جعلته ينتهي تلك النهاية المعروفة سلفاً حين جعلته ينبذ حتى من الجهة التي يعمل لصالحها؟ ‏

ہہ على ما أذكر في القصة أشياء طريفة عن هذه الشخصية(النمطية بالتأكيد) قبل أن تصل إلى النهاية، مثل طريقته الفريدة في تصنيف الناس من منطلق أنهم جميعاً معادون للسلطة،وقد قسمهم إلى ثلاثة:على مبدأ الهوية،وعدم التناقض ،والثالث المرفوع.. ‏

بكل الأحوال كنت أحاول كتابة قصة عن شخص أعرفه،وكان يبدو لي أن هذا الشخص،رغم عدوانيته مأسوي ولا يخلو من الشاعرية أحياناً ،والجهاز الذي يعمل هو لمصلحته بكل رمزيته العدوانية يمكن أن ننظر إليه بنسبية ما.. ‏

لقد اختلت المنظومة التي تماهى معها هذا المخبر بسبب تحولات جرت لم تكن بحسبان هذا الرجل وعندما يئس من إمكانية إعادة الأمور إلى ما كانت عليه،قرر أن يكون هو الجهاز الذي يريده .. ‏

وفي كثير من الأحيان القصص يكون أبطالها من المنبوذين أو الكائنات الصغيرة وفي زمن التهكم يكثر ذلك، وأعتقد أننا نعيش في زمن التهكم!. ‏

لماذا تغيب عندك قصص الحب؟ ‏

لعلها ميزة!..الحب عندي تجربة شخصية، ولا يوجد عندي ميل إلى التركيز عليها ومنحها أبعاداً أبعد من حدودها..وبسبب نزوعي نحو التحليل الفرويدي،فإن الأولوية عندي للعلاقات وللسلوك والأقنعة والعنف والنزوع التدميري عند الأفراد والجماعات.. ‏

ولكن، لا تخلو قصصي تماماً من حالات الحب،وأذكرك بقصة (زهرة الخوف) و(حالة عارضة) وإذا كنت تقصد الجنس فهو موجود ولكنه خفي!.. ‏

ہ شاركت في العديد من المشاريع الثقافية كمجلتي (ألف) و(كراس ) اللتين احتجبتا،والآن تشارك في مجلة (الينابيع ) ما مدى ضرورة وجود مجلة أدبية؟وهل تريد ورفاقك إعادة ما لعبته المجلات في حياتنا الثقافية؟أليس هذا ضرباً من الوهم؟ ‏

ہہ قد تكون هذه المجلات ضرورية وقد لا تكون،إن من ينتظر التنوير أو التغيير من المجلة في هذا الزمن واهم بالتأكيد ومع ذلك فنحن ننجذب نحو مثل هذه النشاطات ربما كنوع من اللعب أو الترويض أو تحريك الجو الأدبي.. ‏

علينا أن نلعب وأن نقر بأهمية اللعب، فالإنسان يتغلب على الكثير من المواجهات الصارمة باللعب..كما أن الوهم حين يكون حافزاً أو محرضاً فما الضير من التجاوب مع الوهم الجميل؟! ‏

ہ كيف تنظر إلى الواقع الثقافي السوري؟ ‏

ہہالواقع الثقافي عندنا مثله مثل أي واقع ثقافي في أي بلد آخر، عربي أو عالمي،مع التفاوت بنسب محدودة، فالعلاقات بين المثقفين في أي بلد، تقوم على التناحر والشللية والعداوات العابرة اللدودة أو الودية، أو الصداقات الصادقة، أو المصلحية(هذا هو عالم الفنانين والشعراء والصحفيين، و من يسمون بالمثقفين).. عالم هشّ وزائف ولكنه ضروري، فقد يكون هذا التناحر بين الأنوات الثقافية هو تعبيرعن رفض الجمود والثبات والعطالة، أو رفض للفوضى الجنونية. ‏

أما دور المثقفين باعتبارهم طليعة، فهي مقولة للأسف تقادمت وعفا عليها الزمن. فلم يعد مثقف اليوم يقول كما كان يقول في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين: «لقد أتيت إلى هذه الدنيا لكي أعترض...» ‏

لقد رضخ المثقفون للتبعية، وتصالحوا مع الواقع وراحوا يعوون مع الذئاب،كما قال هيجل مرة. ‏

رائد وحش

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...