لماذا أعلن بلير عن تقليص القوات البريطانية في العراق؟

23-02-2007

لماذا أعلن بلير عن تقليص القوات البريطانية في العراق؟

الجمل:   حفلت الصحف البريطانية والأمريكية والغربية بالتقارير والتحليلات التي تناولت الموقف الأخير لرئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، والقاضي بتحديد جدول زمني لانسحاب القوات البريطانية من العراق بحوالي 1600 جندي خلال العام الجاري بحيث يصبح عدد القوات البريطانية الموجودة في العراق في كانون الثاني 2008 هو 5500 جندي (فقط).
ظلت السياسة الخارجية البريطانية مندمجة ضمن أجندة السياسية الخارجية الأمريكية- الإسرائيلية، وبالذات في منطقة الشرق الأوسط، وغرق طوني بلير حتى أذنيه في بحر التبعية السياسية الأمريكية، لدرجة أن أحد الصحفيين البريطانيين كتب مقالاً شبّه فيه التحالف الأمريكي- البريطاني بالكلب المسعور الذي يمثل جورج بوش رأسه، وطوني بلير ذيله، وتمسك إسرائيل بالحبل الذي يقوده.
الكثير من التساؤلات أصبحت مطروحة إزاء موقف طوني بلير الأخير:
• لماذا أعلن طوني بلير هذا الموقف في هذا الوقت بالذات؟
إن عملية سحب القوات البريطانية من العراق أصبحت مطلباً عاماً للأغلبية العظمى في الشارع البريطاني، وقد أدى تعنت طوني بلير في تنفيذ الانسحاب من العراق لا إلى فقدان طوني بلير لشعبيته في الشارع البريطاني فحسب، بل ولفقدان حزب العمال البريطاني لشعبيته أيضاً.. وقد شعر قادة حزب العمال البريطاني بضعف شعبية حزبهم، الأمر الذي أدى إلى حدوث الكثير من الانشقاقات والتصدعات في صفوفه، وأدى ذلك بالمقابل إلى تزايد شعبية حزب المحافظين، ومن ثم أصبحت فرصة حزب المحافظين كبيرة للغاية في الفوز بالانتخابات البرلمانية البريطانية القادمة.
• هناك إجابة أخرى تقول:
إن طوني بلير أعلن هذا الموقف بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية والتي أصبحت سياستها الخارجية تعاني من العزلة الشديدة، بما أقعدها عن القيام بأي دور إيجابي يهدف إلى حل المشاكل والورطات المعقدة التي تواجهها في الكثير من بقاع العالم، وأبرز أسباب العجز والفشل الأمريكي تتمثل في أن كل شعوب العالم أصبحت تنظر إلى أمريكا باعتبارها المسؤول عن هذه المشاكل، ومن ثم فإن موقف طوني بلير الجديد قد تم بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية بحيث تصبح بريطانيا على الصعيد (المعلن) صاحبة وجه حيادي أمام دول العالم الأخرى، وأن تحتفظ بتحالفها وارتباطها الشديد مع الإدارة الأمريكية بشكل (غير معلن)، وهذا الموقف الازدواجي سوف يتيح لبريطانيا القدرة على التوسط وتقديم المبادرات الهادفة إلى حل النزاعات والخلافات بين الإدارة الأمريكية والدول الأخرى.
إن تقييم الموقف البريطاني الجديد، لابد أن يتم على خلفية الحقائق الأمنية:
- إن حجم القوات البريطانية التي سوف يتم سحبها خلال العام الحالي من العراق هو 1600 جندي، وسوف يتبقى في العراق حوالي 5500 جندي.
- ركزت التحليلات الصادرة على تصريحات طوني بلير جزئياً، علماً أن هناك تصريحات أخرى في غاية الأهمية وردت في حديث طوني بلير، ومن أبرزها:
* الرغبة في التعامل مع سوريا.
* الرغبة في عقد صفقة مع حماس.
* الرغبة في التعامل مع إيران.
- إن موقف طوني بلير جاء مباشرة بعد انتهاء جولة كوندوليزا رايس إلى المنطقة.
- ان حديث طوني بلير المتعلق بموقفه الأخير، قد أعقبته بشكل مباشر المواقف الآتية:
• في أمريكا أعلنت الإدارة الأمريكية على لسان الرئيس جورج بوش موافقتها التامة للموقف البريطاني وأيضاً عن عزم الإدارة الأمريكية على البقاء لفترة أطول في العراق.
• في إسرائيل أعلن ايهود أولمرت عن تشدده إزاء الحوار مع سوريا، ونشر موقع انتي وار الالكتروني الأمريكي أن أولمرت قد صرح أنه لن يقبل الحوار مع سوريا إلا في ظل وجود نظام سوري آخر غير النظام الحالي.
• في العراق: رحب جلال الطالباني الزعيم الكردي والـ(رئيس) العراقي بالموقف البريطاني، وأيضاً نوري المالكي.
بصعود جورج بوش إلى الرئاسة الأمريكية، وبصعود طوني بلير إلى رئاسة مجلس الوزراء البريطاني، أصبحت ماكينة السياسة الأمريكية- البريطانية- الإسرائيلية تعمل على شكل مثلث، تقبع في وسطه تماماً جماعة المحافظين الجدد، ولكي نفهم كيفية عمل الماكينة الثلاثية هذه، نعود إلى حديث الصحفي البريطاني عن رأس الكلب، وذيله، ومن يمسك بمقوده.
إن الخطوط العامة المستنبطة نم موقف طوني بلير وخلفياته تشير إلى الآتي:
• على الصعيد الداخلي البريطاني: أصبح من الصعب أن يفوز طوني بلير برئاسة الوزارة البريطانية، أو بزعامة حزب العمال البريطاني.. ولما كان فوز حزب المحافظين البريطاني بمجلس العموم وبرئاسة مجلس الوزراء سوف يؤدي إلى زعزعة التحالف البريطاني- الأمريكي الحالي، فإن المطلوب أمريكياً هو تقبل خسارة طوني بلير المحتملة والتعامل معها كأمر واقع.. ولكن في الوقت نفسه العمل من أجل دعم حزب العمال البريطاني –المخترق بواسطة جماعة المحافظين الجدد واليهود البريطانيين- وذلك لضمان وجود السلطة البريطانية لجولة قادمة في أيدي حلفاء الإدارة الأمريكية.
• على الصعيد الأوروبي: أصبح الرأي العام الأوروبي ينظر بكثير من الشك وعدم المصداقية للسياسة البريطانية، بما أفقد هذه السياسة البريطانية احترامها في أوروبا، ولما كانت أمريكا تعتمد على السياسة البريطانية باعتبارها تقوم بدور الجسد الذي يربط علاقات عبر الأطلنطي بين أمريكا وغرب أوروبا، فإن الموقف الضعيف الذي أصبح يشوب السياسة البريطانية قد أعاق قدرة بريطانيا في دعم المواقف الأمريكية وتعزيزها أوروبياً، وبالتالي فإن دفع السياسة البريطانية باتجاه الحياد، قد يؤدي على جعل بريطانيا تكون أكثر قدرة في تقليل الخلافات الأمريكية الأوروبية حول مسائل حلف الناتو، والحد من التغلغل الروسي والصيني في أوروبا، عن طريق القيام بإقناع الأوروبيين بـ(الخطر الصيني والروسي) القادم من الشرق.
• تحتاج أمريكا إلى استخدام نظرية الـ(طرف الثالث) في إدارة الصراعات، وهذا الطرف لابدّ أن يكون محايداً من الناحية المعلنة، وغير محايد أو موالياً لأمريكا من الناحية غير المعلنة، وفي إدارة صراعات الشرق الأوسط، تحتاج أمريكا وإسرائيل حالياً إلى وجود مثل هذا الطرف الثالث.
وعلى هذا النحو جاءت تصريحات طوني بلير بالشكل الذي يتطابق تماماً مع طريقة تشغيل الماكينة الثلاثية، ففي الماضي كانت الأطراف الثالثة أكثر تشدداً في المواقف إزاء سوريا، إيران، وحماس. وحالياً قام رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت برفع سقف شروطه إلى درجة المستحيل. ومن الجهة الثانية أعلن الرئيس الأمريكي عن تمسكه بعملية قطع المساعدات عن الفلسطينيين واستهداف إيران وسوريا.. أما طوني بلير فقد قام بتخفيض السقف، عندما أعلن عن سحب القوات والرغبة في التعامل مع سوريا وإيران، والرغبة في التوصل إلى صفقة مع حماس.
وعموماً نقول: إن الخطاب السياسي المزدوج، ليس أمراً جديداً في السياسة الخارجية الانجلو-ساكسونية- الصهيونية التي ظل ينفذها مثلث تل أبيب- واشنطن- لندن، عن طريق الثلاثي: أولمرت- بوش- بلير.
إدارة الأزمات في السياسة الخارجية تفترض دائماً طرف صانع للأزمة يتمثل في قوى صنع الأزمة، وطرف مستهدف بالأزمة، وطرف ثالث محايد يقوم بعملية تنفيس ضغوط الأزمة.. ولما كانت قوى صنع الأزمة هي إسرائيل وأمريكا وبريطانيا، والأطراف المستهدفة بالأزمة هي: سوريا وإيران وحركات المقاومة الفلسطينية والعراقية، ولما كانت الأطراف التي تحاول تنفيس الأزمة تتمثل في روسيا والصين، فقد قررت على ما يبدو قوى صنع الأزمة تبديل الأدوار بما يؤدي للتأثير على خارطة الصراع والتحالفات، بحيث تتولى بريطانيا القيام بدور (الطرف الثالث المحايد) الذي يقوم بتنفس ضغوط الأزمة، بشكل معلن لحل الأزمة، وبشكل غير معلن يهدف إلى إعداد المسرح وتمهيد الأجواء لأزمة أخرى أكبر وأكثر ضرراً.


الجمل: قسم الدراسات والترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...