انتفاضة الدواليب وحفلات القنص في حروب الشاشات

03-02-2007

انتفاضة الدواليب وحفلات القنص في حروب الشاشات

لم يكن اللبنانيون بحاجة الى انتفاضة الدواليب واستفتاء الحرائق في يوم الثلاثاء الصاعق حتى يكرسوا معادلة التعايش المستحيلة, كذلك لم يكن اللبنانيون بحاجة الى حفلات القنص والاغتيال الاعمى في نهار الخميس الدامي حتى يتيقنوا ان ما يحدث في بلدهم يغذي التوترات والتشنجات والانقطاعات الثقافية, ويمهد لحروب مذهبية طاحنة. ذلك ان زعزعة الاساسات المواطنية والوطنية سبق ان بدأت قبل هبوب رياح الشوارع العاتية, وكان بامكاننا ان نرى من خلال مرايا الاعلام المشوهة كيف تتجذر التشنجات ومشاعر العداء بين هذا الفريق او ذاك, وكيف ترسم النزعات الاختزالية المشهد اللبناني وتحاصره بالاحقاد من جميع الجهات.
هكذا وعلى مدى شهور من الزمن فرض على المواطن اللبناني ان يعيش امام عدسة مكبرة للغاية تعرض لناظر الشاشة الصغيرة صورة مضخمة عن جماهير الطوائف الفالتة من عقالها, اضافة الى دماء الاغتيالات ورعب الفتن والحروب الاهلية, ليجد نفسه امام بلاد ينعق فيها غراب الدمار من اقصاها الى اقصاها, وامام هذه الصور المخيفة والمرعبة, كنا نشاهد الخطابات المتسلسلة للقادة السياسيين باعتبارهم صانعي الاحداث ونتاجها في آن معاً, لتثير رؤية شخصياتهم, تيارات جارفة من الاعجاب كما من البغض, لكنهم كانوا سواء انتموا الى تيار الحكومة ام الى تيار المعارضة, يلعبون ادوارهم بنجاح منقطع النظير, في تعميم حالة التمزق والانقسام داخل مجتمعات هشة في الاصل, لتعيش هذه المجتمعات اقصى حالات التشرذم والانقسام العقائدي والسياسي, على ايدي قوى تدعو الى الوحدة والاخوة والعدالة الاجتماعية, لكن للأسف فان دعواتها هذه لم تسهم إلا في تغذية العنف وتعميم الفرقة والتناحر لنكتشف اننا امام مجتمعات تشبه الدمى في ايدي قياداتها ورجال اديانها, و اذا كانت تنزل الى الشوارع اليوم بتحريض من زعمائها, فإن اللافت ان وسائل الاعلام الحديثة عرفت كيف تستثير الغرائز والنعرات, وكيف تضعنا امام مجتمع عبر عن ذاته بعنفوان السيل العصبي المتدفق ليفصح في لحظات معدودة عن مكنون مشاعره المكبوتة منذ بداية يقظة الطوائف وحتى انطلاق شرارة الفرز المذهبي والسياسي والاحتكام الى الشوارع.
لكن ما يعنينا في هذا السياق هو وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة التي كسرت وبشكل تام لغة الاعتدال, ليضع الاعلام الجماهير امام معادلات لا حل لها, لتفتح الطريق امام المزيد من الالتباسات والتداخلات المحلية والاقليمية والدولية ليجد لبنان نفسه من جديد امام خشبة الصليب, ذلك لأن صناع الاحداث لم يعوا بوضوح حوافز قراراتهم والابعاد الفعلية لمسالكهم, وبالتالي لن يكون ظاهر الاحداث مطابقاً لباطن الوقائع التي لم يستوعبها الوعي السياسي. لنرى بعد ذلك ان ما اتفق على تسميته نزاعاً سياسياً بين الاطراف والقوى اللبنانية المختلفة والمتصارعة على مصالحها سوف يتحول الى حروب طائفية ومذهبية سوف يكون من الصعب احتواء آثارها القاتلة, وعلى ايقاع جوقات الدماء سوف يلعب الاعلام اللبناني دور المايسترو في تحريك طاحونة العنف الاهلي وفي مدها بكل المعطيات والاسباب التي تفتح الجرح اللبناني على نزيف متواصل. واذا كان الاعلام الموالي للحكومة, يتهم الفريق المعارض بأنه يعمل وفق اجندة سورية ­ ايرانية, فان اعلام المعارضة, استطاع ايضاً ان يحدد اجواء الخصم ووجهته واصبح هذا الاخير يعمل وفق تطلعات وشروط المصالح الاميركية والغربية في المنطقة, لكن اللافت ان حرب الشاشات التي استعرت في الآونة الاخيرة, كانت قد بدأت مع تغطية الاخبار والتحليلات التي تتعلق بنتائج تقرير ميليس وابعادها وتناقضاتها والغازها التي قدمت الى مجلس الأمن بخصوص التحقيقات الجارية للكشف عن منفذي جريمة اغتيال الشهيد رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري, في تلك التغطية لاحظنا ان وجهات النظر تعددت واختلفت بشأن الاخذ بهذه الاستنتاجات او تلك, فبعضها وبغض النظر عن الثغرات القانونية والغموض في تفسير آلية التحقيق والاسناد التي اعتمد عليها التقرير في تحديد المشتبه بهم او الجهات المتورطة في عملية الاغتيال, وافق عليها بدون اي استفسارات. وبالاخص الساسة المعارضين لسوريا من ورائهم, في حين رفضت وسائل اعلام المعارضة هذه الاستنتاجات ومعها سوريا, معللين ذلك بأن الآلية التي ادت الى مثل هذه الاستنتاجات تفتقر الي الحد الادنى من الصدقية والحرفية والتقنية التي كان من المتوجب ان تتوافر في هذا النوع من التحقيقات ذات البعد الدولي والاقليمي, لنرى بعد ذلك ان الحرب الاعلامية في لبنان, سوف تزداد ضراوة, وتصبح اكثر تفصيلاً في تعاطيها مع النشاطات والاحداث والتظاهرات التي شهدها لبنان, منذ لحظة اغتيال الرئيس الحريري وحتى اليوم. لنقع على شيء من الفرز النهائي لهذه الوسائل الاعلامية العاملة في لبنان او تلك, بل لنرى ان الشغل الشاغل لهذه الوسائل الاعلامية قد اختزل لكيل التهم ومفردات التخوين والعمالة لهذا الفريق او ذاك.
واذا كان تلفزيون المستقبل قد أبدع كليبات «سقط القناع» التي يظهر فيها كل الشخصيات الحليفة لسوريا على انهم مجرد عملاء يعملون على اعادة الوطن الى الوصاية السورية, فان تلفزيون المنار, لم يألُ جهداً لاظهار فريق الموالاة على انه يعمل باوامر كوندوليزا رايس والفريق الاميركي الحاكم. واذا كانت صحيفة المستقبل الموالية لتيار المستقبل, قد سارعت الى الاعلان بأن اعتصام المعارضة اللبنانية في شوارع بيروت هو بمثابة «خطة انقلابية», على لبنان حكومة ودولة, فان الصحف الموالية للمعارضة, رأت في هذا الاعتصام بأنه اضخم استفتاء شعبي عرفه لبنان طوال تاريخه الحديث, هذه العينة من الحرب الاعلامية الدائرة في لبنان, لم تقتصر على الصحافة وحدها, او على الاعلام المرئي, بل امتدت الى الشعارات والاغنيات التي عكست الى حد كبير واقع الانقسام السياسي والمذهبي الذي يشهده لبنان, فنسمع هذا الفريق يردد: «بنرفض هايدي الحكومة.. بيديروها الاميركان.. حتى نغيرها لازم.. شارعنا يكون الميدان». فيرد ذاك الفريق: «بايد الغدر دبحوا الحريري زعيم امتنا دبحوا الزعيم وقتلوا حلم الملايين.. وما في غيره سعد الدين من حسنا €سوريا€ خلصنا». حرب الشعارات هذه امتدت ايضاً الى الاغنيات واصبح للفرقاء فرقهم الغنائية وجوقاتهم الموسيقية فنسمع على سبيل المثال:
قوم يا شعب الكرامة.. هلأ صار وقت التغيير
دافع عن حقك وحامي.. خليك سلمي بالتعبير. هذه الدعوة لتغيير الحكومة ترافقت مع حرص قوى المعارضة على ابعاد التهمة الطائفية عن تحركهم الشعبي, وللتعبير عن ذلك نسمعهم يصدحون:
«كلنا لبنانية.. بالدم بالهوية شيعة وسنية ودروز... اسلام ومسيحيي» لكن هذه الاغنية التي تستلهم الوحدة الوطنية, سرعان ما تترافق مع اغنية متفائلة تستلهم كلمات من خطاب الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله, ويقول مطلع هذه الاغنية:
«كما كنت بالنصر واعداً.. اعدكم بالنصر مجدداً€ لا يعيد الضعف ارضاً.. لا يصون الوهن عرضاً». في اشارة الى الدموع التي ذرفها رئيس الحكومة فؤاد السنيورة اثناء القاء كلمته في اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت. واذا كان الموالون للمعارضة اللبنانية قد ابدعوا في استفزاز الخصم وتشويه صورته, فان المناصرين للموالاة لم يقصروا هم ايضاً في هذا الجانب. وها هو المطرب وليد فرح, وهو مطرب شعبي يقول في اغنيته «حسنة نص الحقيقة» €حسنة رمز للنظام السوري€ «مين اللي طفا الشموع المضيئة.. وخلى الظلام يحل على ديرتنا؟ من المشرحة جابوا السكاكين. ويتابع بعد هذا الموال قائلاً:
«وبايد الغدر دبحوا الحريري زعيم امتنا
دبحوا الزعيم وقتلوا حلم الملايين
وخلونا نشك بوحدة عروبتنا».
وفي اغنية اخرى يحاول فريق 14 آذار ان يؤكد من خلالها انه يضم كافة الاطياف اللبنانية نسمع:
«اسلام نحن بهالوطن ومسيحيين
عند استشهادك يا ابو بهاء بساحة الحرية توحدت كلمتنا». ولا تكتفي الاغنية بهذا القدر من استلهام التعايش والوحدة, بل سرعان ما تنتقل الى كيل الاتهام الى االضباط اللبنانيين الموقوفين من دون ان توفر بعض المسؤولين السوريين فتقول:
«الاول جميل السيد.. ريتوا بالسجن يعيّد
والثاني مصطفى حمدان.. ان شا الله رح بيروح اعدام
والثالث ريمون عازار.. ان شا الله يولع جسمه بالنار
والرابع هدا علي الحاج.. ينكسر راسه هالفج
وانتحر غازي كنعان.. لما عرف جايي لهان €لهنا€
بطلب من الله العالي.. ياخذ رستم غزالي
هكذا انزلقت وسائل الاعلام اللبنانية نحو الاقتتال بالصورة والكلمة, متجاوزة الخطوط الحمراء كلها, الامر الذي انزل افدح الاضرار بقضية العيش المشترك والسلم الهلي. والسؤال الذي يطرح نفسه, بل الاسئلة الملحة هي: من المسؤول عن هذا التدهور الاعلامي المفزع, وكيف يمكن وقفه مرة و احدة والى الابد؟
من نافل القول ان نذكر ان للاعلام دوراً محورياً في اي قضية, ايجابياً كان ام سلبياً, لكن من المهم التأكيد منذ البدء ان الاعلام المستقل المحايد لا يهمه شيء سوى نقل الحقيقة وان كانت الحقيقة مرة, فسوف ينقلها بمرارتها, وعلينا ان نتجرعها, وان كانت حلوة, فسوف ينقلها بحلاوتها وجماليتها. لكن المشكلة في لبنان اليوم ان الحرية الاعلامية تحولت الى وسيلة لتغذية النزعات العصبية والطائفية والمذهبية, وباتت وظيفتها هي تغذية الفتن والتمهيد للحروب, بل باتت مهمة هذه الوسائل هي استحضار العورات المذهبية والطائفية والعنصرية, كاشفة عن مشهد انعزالي بالمطلق, بل مؤكدة هذه المرة ان حكم لبنان وتوحيده الذي كان امراً صعباً على الدوام, هو اليوم اصعب من اي وقت مضى. واذا كان التغلغل الاوروبي في السابق وراء الفوضى التي حدثت في لبنان ابان السيطرة العثمانية, فان الثابت اليوم ان تعقيد البنى الاجتماعية ­ الدينية في هذا البلد هو الذي يوفر ساحة خصبة للتنافس بين القوى الاقليمية والدولية. ولبنان المجنون الذي اشتعل عام 1975, هو نفسه لبنان المجنون الذي يشتعل في العام 2007. والحق ان النظام الذي اقامته فرنسا, السلطة المنتدية على لبنان من العام 1920 الى العام 1942, والذي لم تتمكن النخبة السياسية اللبنانية من تصحيحه بعد الاستقلال, ما كان من الممكن إلا ان يشحذ ذلك, الشعور بالانتماء الى اقلية ويؤججه. وكان من المحتم ان يتأدى توزيع المناصب العليا €على حد تعبير جورج قرم€ في الدولة وفي الادارة بين الطوائف المختلفة وفق تراتبية صارمة الى هشاشة في النظام و الى مفاقمة الميول الى الفساد والمحسوبية والاستزلام. والديمقراطية اللبنانية التي كانت سراباً بالامس, هي ايضاً سراب اليوم بالقياس الى ذلك العنصر ذلك العنصر الطائفي €والاعلامي€ المميت الذي من شأنه ان يلغم اي جسم اجتماعي مهما يكن سليماً معافى. ولقد اثبتت المعطيات سواء عبر وسائل الاعلام او على الارض ان الصراع على السلطة لا يفسد فقط العلاقات بين الطوائف, بل ان جميع الوسائل تغدو, داخل الطوائف, مبررة للظهور بمظهر الممثل «الاصيل» لكل طائفة على حدة, وتأخذ الديماغوجية في مثل هذه الحال بعداً هائلاً ينصب سداً منيعاً دون وصول اي عناصر بديلة من النخبة الى السلطة ما لم يستقطبها او يحفزها نظام الترقي على اساس طائفي. فلبنان الذي بقي الحكم فيه منذ العام 1920 حكراً على ناد مغلق يتحالف فيه بحكم طبيعة الاشياء وجاهات الطوائف الدينية الرئيسية, لم يتبدل اليوم رغم تغير بعض الاسماء والعائلات. واذا كانت الاضطرابات التي بدأت العام 1975, قد بدت في مقومها المحلي, مواجهة داخل الطوائف من اجل تجديد النخبة الممسكة بمقاليد السلطة بقدرما كانت نزاعاً بين الطوائف المختلفة, فان حال لبنان اليوم لم يتغير عن امسه, وان منطق المواجهة الداخلية الذي يعيشه لبنان هو الذي يدفع باتجاه التطرف الطائفي, ويضخم الخلاف التاريخي بين الطوائف. وتأتي التحركات السياسية في هذا السياق لتكشف عن مشهد اضيق واخطر من الحروب بين الطوائف. فنحن ازاء حروب بين المذاهب, بل قد يصل الامر الى حروب داخل المذهب الواحد نفسه, وهو ما تعمل وسائل الاعلام على تكريسه. وقد بدا هذا الامر جلياً من خلال تصريحات قائد القوات اللبنانية سمير جعجع الذي حاول الظهور بمظهر الملاك, حين تحرك للعمل على ايقاف الفتنة داخل الصف المسيحي, موحياً بأن ما يشهده لبنان هو حرب بين السنة والشيعة وانه بامكان الطائفة المسيحية ان تحيد نفسها بهذا المقدار او ذاك حتى حسم النزاع لهذا الطرف او ذاك. هذا الثوب الملائكي الذي لبسه جعجع, رأينا بشائره في وسائل الاعلام, لا سيما على محطة الـ L.B.C التي نشطت في الآونة الاخيرة لتظهر ان الفوضى التي يشهدها لبنان سببها النزاع بين المذاهب الاسلامية, وهي لا تعني بأي حال من الاحوال المسيحيين في المناطق الشرقية, الا بالقدر الذي يتورط فيه قادتهم بالتحالف مع فريق الموالاة او فريق المعارضة, اي بين فريق السنة, وفريق الشيعة. هذا النوع من التوجيه الاعلامي هو الاخطر بامتياز بين حروب الشاشات. واذا كانت قناة المستقبل او قناة المنار تعملان على انتصار كل منهما لمذهبه, فان محطة الـL.B.C قد ذهبت ابعد من ذلك بكثير حين لعبت دور السكين الذي يعمق الجرح بين هذه المذاهب. فليس من مصادفة التاريخ, ولا من عفوية الحاضر ان تتفرغ شاشة الـL.B.C لعرض المشاهد الأكثر إثارة للاحقاد, وان تركز بهذا القدر الكبير والاستثنائي على تقديم صور الفظائع التي شهدتها منطقة الجامعة العربية واحياء وشوارع طريق الجديدة.
نعم لقد استطاعت وسائل الاعلام اللبنانية الى اي جهة انتمت ان تزيح الطلاء عن الجسم الاجتماعي الهش الممزق, تماماً مثلما نجحت في ان تبعد عن اذهاننا وعقولنا صورة لبنان الهادئ والطيب والوادع, ذلك لأن مشاهد القسوة واعمال القنص واستخدام العصي والآلات الحادة, جميعها تشي بأن لبنان التعايش هو مظهر آخر من مظاهر الخداع التي رافقت تكوين صورته التي ارادها مؤسسوه بعيدة عن واقعه الفعلي.
نعم انه لمشروع محفوف بالمخاطر, بل مجازفة حقيقية, ان يتصدى المرء لتفسير ما يدور في لبنان, غير انه ما يمكن العثور عليه من خلال معاينة المشهد الاعلامي في هذا البلد هو ان النخبة السياسية والدينية قد برهنت من جهتها عن حسر نظر خارق للمألوف, ولقد كان للدول الاقليمية والدولية لقاء ملتهب جديد على هذه الساحة التي امتدحها بعض الرومانسيين على انها نموذج ممتاز لتلاقي الثقافات. غير ان هذه الصورة التي تعكس التمزق اللبناني, تظل صورة نموذجية من حيث انها تعري المجتمع العربي في واقعه العميق, هذا المجتمع الذي تقمص ثورة العالم الاعلامية, لم يستطع ان يتأثر في بناه الاساسية في تطور العالم المعاصر, لكن رغم ذلك دعونا نسجل ان لبنان الذي يطل علينا بوجه ظاهر من «الحداثة» والديمقراطية والتعددية, والذي تحاول وسائل الاعلام ان تظهره متقدماً على جيرانه من هذه الناحية. هو ايضاً وهذا الامر من المفارقات الغربية, متخلف عن جيرانه ولا سيما في مصر وسوريا والاردن, التي لا تزال مجتمعاتها في الظاهر على الاقل صامدة امام المحن جميعاً بما فيها الهزائم العسكرية والانقلابات والتحديات, لنرى ان المجتمع اللبناني هو الذي سقط في سديم الفوضى والعنف الشامل.
لقد ظن اللبنانيون لوهلة ان هذا التعدد في وسائل الاعلام, سوف يغني بلدهم ويجعل منه مثالاً, يحتذى في ممارسة حرية الرأي والتعبير والانفتاح على الآخر, لكن ما حدث ان ما بدا وسيلة لممارسة الديمقراطية, تحول الى اداة للتحريض على العنف والقتل والانعزال. وهكذا استطاعت وسائل الاعلام ومن يمولها ويتحكم بسياساتها ان تحطم من جديد الحلم اللبناني في بناء وطن ودولة المؤسسات, ولم يعد لأحد لا في المعارضة, ولا في الموالاة ان يشعر بالفخر امام هذا المشهد الدموي الذي ترتعد له فرائص لبنان كله.
نعم انه الجرح اللبناني ينزف من جديد على ايقاع العجز العربي والتدخل الدولي. ولقد هزت المواجهات السياسية العنيفة التي حدثت اخيراً المجتمع اللبناني برمته, واللافت انه رغم شعور الجميع بفداحة ما حدث وبمدى خطورته على النسيح الاهلي اللبناني, فإن هذه الفئة او تلك لم تخطُ الخطوة الضرورية باتجاه ترميم السلم الاهلي. هذه الخطوة التي تحتاج قبل كل شيء الى هدنة اعلامية, لكننا رأينا ان ما حصل هو ايغال هذه الوسائل الاعلامية في صب الزيت على النار الطائفية والمذهبية, ورأينا ايضاً ان كل طرف يتمسك بروايته التي توافق توجهاته. ويتهم الطرف المعادي له بأنه اداة تنفيذ المؤامرة على لبنان وعلى استقلاله وسيادته. بل ذهبت بعض الاطراف الى اعتبار ما يحدث بأنه مؤامرة تهدف الى التوطين النهائي للفلسطينيين في لبنان, ويكون الرد على هذه المؤامرة بالاعلان عن مطامع سورية قديمة في ارض لبنان. لكن رغم تعدد الروايات يظل لبنان هو الخاسر الوحيد, ويظل شعبه في مهب رياح الجنون... ويظل عليه ان يدفع ثمن هذه التعددية الاجتماعية التي كل ما نادى ممثلوها باللحمة والتوحد كلما بلغ التمزق ذروته. وهو ما تعكس صورته المشظاة وسائل الاعلام التي انزلقت نهائياً الى احضان طوائفها وتحولت الى وسيلة لتعطيل العقل!
 


حسين نصرالله 
المصدر: الكفاح العربي 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...