«دون كيشوت» تحت ملامح شاليابين: الوعد السينمائي الذي لم يتحقق

14-01-2017

«دون كيشوت» تحت ملامح شاليابين: الوعد السينمائي الذي لم يتحقق

هل يمكن أحداً، على سبيل المثال، أن يتخيل الفنان الراحل فريد الأطرش وهو يؤدي دور «سي السيد» في فيلم مقتبس عن «ثلاثية» نجيب محفوظ؟ ثم لأنه مغن كبير معروف، أن يؤدي ثلاث أو أربع أغنيات في الفيلم؟ لا يبدو هذا الكلام منطقياً بالطبع. ومع ذلك حدث شيء من هذا القبيل في العام 1933 حين واتت المخرج جورج فلهلم بابست فكرة بدت مجنونة في حينها تقوم على تحقيق فيلم مقتبس من رائعة الإسباني تسربانتس الخالدة «دون كيشوت» يقوم فيه مغني الأوبرا الروسي الكبير فيودور شاليابين بدور فارس طواحين الهواء. والحقيقة أنه كان يمكن للفكرة أن تبدو معقولة الى حد كبير لو كان العمل نوعاً من أفلمة لأداء أوبرالي... لكن بابست أصر على أن يكون الفيلم روائياً سردياً مقتصراً فقط على أربع أغنيات عارضة يغنيها الفارس في الفيلم. والحقيقة أن الفكرة المجنونة تحققت يومها واحتفظ تاريخ السينما انطلاقاً منها بصورة لدون كيشوت تحت ملامح شاليابين وقد أظهر، وفق معلّقي المرحلة» تميّزاً في الأداء التمثيلي خارج عاداته الغنائية لفت الأنظار حقاً، الى درجة أنه كان من بين النقاد من قال انه كان يفضل لو أن شاليابين لم يغن أبداً في الفيلم «لأن مشاهده الغنائية أتت أضعف ما فيه». والحال أنه إن قيّض لنا أن نشاهد هذه النسخة السينمائية الخاصة من «دون كيشوت» اليوم، لن نوافق كثيراً على ذلك الرأي النقدي، بل قد نقول: حسن أن شاليابين لم يكرر التجربة. فهو لم يُخلق للسينما ولقطاتها المكبرة ولا للعواطف والانفعالات العاطفية الواقعية!

> ومع هذا ها هو الفيلم ماثل حاضر في تاريخ السينما ويعتبر، بالنسبة الى بقية عناصره ولا سيما الموسيقى التي وُضعت له خصيصاً، كموسيقى تصويرية وكألحان لأغاني شاليابين المنفردة، عملاً كبيراً. ولمناسبة الإشارة الى الموسيقى هنا، قد يكون مفيداً - وطريفاً في الوقت نفسه - أن نروي حكاية موسيقى الأغاني في الفيلم وهي حكاية لا تخلو من دلالات. فالفيلم الذي أُنتج وصوّر في فرنسا وشارك الكاتبان المعروفان بول موران وألكسندر آرنو في كتابة السيناريو له، كان من الضروري أن تُكتب له موسيقاه الخاصة. ومن هنا اتجهت الجهات المنتجة الى خمسة من أشهر موسيقيي تلك المرحلة العاملين في فرنسا وكلفتهم بوضع التصور الموسيقي للفيلم إنما من دون أن تخبر أياً منهم بأن ثمة زملاء آخرين له كُلّفوا بالمهمة نفسها. كان الموسيقيون هم داريوس ميلو ومانويل دي فاليا وجاك إيبرت وموريس رافيل ومارسيل ديلانوي. وفي النهاية تم اختيار ما كتبه إيبرت والاعتذار من الباقين. ولقد تسبب الأمر برمته في مشاكل وإحراجات كان أصعبها إحراج إيبرت أمام صديقه الحميم رافيل!

> المهم أن الفيلم حُقق وعُرض وحَقق ذلك النجاح الذي أشرنا إليه على رغم من احتجاج كثر من غلاة المعجبين بعمل تسربانتس، بسبب تعديلات كثيرة أدخلها الفيلم على الشخصيات ولا سيما في شخصية دولسينيا. إضافة الى التبديل الذي أجري في نهاية الفيلم وأتى جذرياً حيث نشاهد الفارس بعد عودته الى القرية يكتشف أن أقرب الناس اليه أحرقوا كتاب فرسانه فيسقط صريعاً فيما أهل القرية يتضاحكون... ولا بد أن نذكر هنا أن عرضاً عالمياً للفيلم أقيم خارج مسابقة مهرجان «كان» في العام 1987 استعاد بالتحديد ذكرى شاليابين وتجربته السينمائية الوحيدة.

> إذا كان معظم الفنانين والأدباء الروس الذين هاجروا خلال السنوات التالية لاندلاع الثورة البلشفية في العام 1917، فعلوا ذلك بسبب اختلافهم مع الثورة ومفاهيمها، فإن فيودور ايفانوفيتش شاليابين، كان فناناً من صنف نادر بين المهاجرين. فهو إذ بارح بلاده في العام 1921 ليعيش متنقلاً في الغرب، لم يفته أبداً ان يعبر في أحاديثه الصحافية بعد ذلك بأنه أبداً لم يكن على خصام مع الثورة، بل انه مناصر لها مؤمن بمبادئها. اذن لماذا هاجرت يا سيد شاليابين؟ لماذا لم تبق في الداخل لتدعم الثورة وثورييها؟ حين يوجه إليه ذلك السؤال المحرج، مبدئياً، كان شاليابين يبتسم بكل بساطة ويقول: «دعماً للثورة. فالحال أن الفن الذي أقدمه هو من التعقيد والنزعة البورجوازية بحيث كان سيشكل عبئاً على الثورة لو بقيت. وإنني أعتقد، كان يضيف، بأنني أخدم بلادي ونظامها الجديد في الخارج بأفضل مما كان بإمكاني ان أفعل لو بقيت في الداخل». كثيرون في ذلك الحين كانوا يرون في كلام شاليابين شيئاً من الانتهازية وكثيراً من المواربة. أما الحقيقة، التي عاد شاليابين ولمح اليها في ثنايا كتابيه اللذين وضعهما عن سيرته الذاتية «صفحات من حياتي» (1929) و «الرجل القناع» (1932)، فهي انه كان مدركاًَ، بحاسته السادسة، انه ولو كان مؤمناً بالثورة فإن الصراع بينه وبينها، حين تتحول الى دولة حقيقية، سوف يندلع، ما يدفعه إما الى الهجرة غاضباً، وإما الى الانتحار كما كان حال العديدين من مجايليه، من يسينين الى ميرهولد الى ماياكوفسكي، وإما الى السجن والتعذيب مثلما كان حال ترتياكوف. لذلك آثر المغني الكبير ان يهاجر صلحاً وأن ينظر الى الأمور من الخارج، وهو لن يندم على ذلك أبداً.

> مهما يكن في الأمر، فإن شاليابين كان معروفاً على نطاق واسع في الغرب، وكانت له، حتى من قبل هجرته، مكانة تضاهي مكانة كاروزو، ومكانة بافاروتي في أيامنا هذه، حتى وإن كان صوت هذين من نوع «تينور» وصوته من طبقة «باس». ولم ينس الجمهور اللندني ابداً كيف أنه أتى في 1914 ليقوم ببطولة «البرنس إيغور» من ألحان بورودين.

> إذاً، حين انتقل شاليابين الى الغرب في 1921 كان معروفاً ومشهوراً، لذلك راحت المسارح في ميلانو ونيويورك ولندن وباريس تتخاطفه، وراح هو يبدع في أعمال مثل «حلاق اشبيليا» لروسيني، و «دون جيوفاني» لموزار، وبخاصة «بوريس غودونوف» لموسورغسكي. ووصلت شهرته في سنواته الأخيرة، قبل رحيله عن عالمنا عام 1933، الى ان يختاره المخرج بابست ليمثل ذلك الفيلم السينمائي الوحيد في مسيرته الفنية والمأخوذ عن «دون كيشوت»، وكان يعتبر في ذلك الحين واحداً من أكبر الفنانين الروس على الإطلاق.

> ولد شاليابين في قرية بالقرب من مدينة قازان في روسيا في 1873، وكان متحدراً من أسرة فقيرة، لكن أسرته كانت ذات تقاليد فنية موسيقية عريقة، وذات إيمان ديني أعمق، لذلك التحق الفتى، بسبب جمال صوته، كمغن في كورس الكنيسة في قريته، وكان في السابعة عشرة من عمره حين بدأت مواهبه في الغناء الفردي، لا الجماعي، تظهر، فانضم في العام 1890، الى فرقة للغناء الأوبرالي في مدينة قازان، غير ان ذلك لم يرض طموحه الذي بدأ يكبر، فاتجه في العام 1892 الى مدينة تفليس القريبة عاصمة جورجيا، حيث انضم الى مدرسة للأوبرا يعلم فيها الموسيقي الشهير ديمتري أوزاتوف، وبسرعة أصبح عضواً اساسياً في فرقة للغناء الأوبرالي التي كانت ذات شهرة في ذلك الحين وعرفت باسم «فرقة ماموتوف».

> وضمن اطار تلك الفرقة وبسبب اجادته الغناء بما لا يقل عن لغات ثلاث هي الروسية والفرنسية والإيطالية، ابدع شاليابين في لعب ادوار اساسية مثل دور فيليب الثاني في «دون كارلوس» لفردي، وإيفان الرهيب في أوبرا «وصيفة بسكوف» لرمسكي - كورساكوف، وخصوصاً في الدور الرئيسي في اوبرا «بوريس غودونوف». وهكذا ما أن بدأ القرن العشرون، وبدأ فن الأوبرا (وفن الباليه) الروسي يغزو العالم الغربي، حتى كان شاليابين في طليعة المغنين الروس الذين بدأوا يفرضون حضورهم في العالم، فراح يتجول مع الفرقة الروسية، بين شتى المدن، حتى كان ظهوره المدوي في لندن في 1914 كما أشرنا أعلاه. ومنذ ذلك الحين صار شاليابين علماً من أعلام فن الغناء الأوبرالي في العالم. وهو حين بارح وطنه راح يظهر في شكل منتظم مع فرق المتروبوليتان و «شيكاغو» في الولايات المتحدة، كما مع فرقة «كوفنت غاردن» في لندن. وخلال فترة من الفترات أسس فرقة خاصة به. وهو ظل على شهرته ومكانته حتى رحيله في العاصمة الفرنسية باريس، التي كان يؤثر العيش فيها، حتى وإن كان عمله تركز في البلاد الأنغلو - ساكسونية.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...