«أدمغة» لغوتفريد بنّّ: تغيير العالم بواسطة اللغة

28-01-2017

«أدمغة» لغوتفريد بنّّ: تغيير العالم بواسطة اللغة

عُرف غوتفريد في الأساس شاعراً. بل كان يُعتبر واحداً من كبار الشعراء الألمان خلال النصف الأول من القرن العشرين، الى درجة أن كان قلة أولئك الذين كانوا حين يكتبون عنه يذكرون كتاباته الأخرى، القصصية في شكل خاص. وربما يعود ذلك الى أن كتاباته النثرية في حد ذاتها كانت أقرب ما تكون -وكان هذا رأي تي. إس. إليوت على أي حال - الى الشعر الذي كان يعتبره معركة حياته الكبرى. بل يجوز هنا قول عكس ذلك أيضاً واعتبار كل ما كتبه بنّ طوال حياته، شعراً كان أو نثراً، مجرد استخدام مشاكس للغة في معركة وجودية لا علاقة لها على أية حال بفلسفة الوجوديين. يمكن القول إن «وجودية» بنّ أتت مباشرة من فلسفة نيتشه، ومن كل ما كتبه نيتشه الذي كان بنّ يعتبره أستاذه الأكير.

> ويمكننا للتدليل على هذا هنا، أن نختار التوقف عند عمل نثري لا شعري لبنّ، لنكتشف عمق شاعريته وغضبه على العالم ومشاكسته على كل ما ينتمي الى المواثيق والأعراف. وهذا العمل هو مجموعته القصصية «أدمغة» التي لا بأس من القول أن كثراً، منذ صدورها في العام 1916 اعتادوا قراءتها بوصفها نصوصاً تقع بين الشعر والنثر. ومع هذا هي مجموعة من قصص قصيرة لها أحداثها وخصوصياتها. بل أكثر من هذا: يلعب «دور البطولة» في العدد الأكبر منها، المدعو فيلف رونّي، الذي نجده في عدد آخر من أشعار بنّ وكتاباته النثرية باعتباره الأنا/الآخر للكاتب. وربما أيضاً أداته من أجل تحطيم العالم من طريق اللغة. بالتحديد! وذلك لأن بنّ لم يُخْف أبداً هدفه النيتشويّ: تغيير العالم عبر استخدام اللغة لتدميره. ولا يخفي بنّ على أي حال أنه ثائر ضد العالم وزمنه، لكن ثورته ليست لا ثورة سياسية ولا ثورة إيديولوجية. بل هي ثورة تنتج من وعي ضرورة تغيير العالم من طريق انواع مواربة من استخدام اللغة، إذ بهذه الطريقة وحدها تمكن خلخلة العالم وتدمير معطيات فساده الداخلي لتحقيق ثورة أونطولوجية. على من؟ على البورجوازية يقول الشاعر/الكاتب. على بورجوازية بدايات القرن العشرين التي كانت تَعتبر ألدّ أعدائها إعطاء معاني جديدة للأخلاق والمثل العليا والأحكام اليومية والغايات التاريخية... وهي كلها أشياء يسخّر بنّ قصص المجموعة وكل تحركات أناه/الآخر لتسخيفها وتصويرها في شكل كاريكاتوريّ.

> فبالنسبة الى بنّ، وعلى عكس ما كان زملاؤه التعبيريون يعتقدون، لم تعد القيم التي بنّى عليها الغرب الأوروبي أفكاره ومبادئه وبرامج تحركه، صالحة للأزمان الجديدة. لقد تبدل كل شيء وبات على بطله فيلف أن يدخل الى العوالم الجديدة، عوالم ما بعد كافكا ونيتشه وفرويد. وبالتالي عليه ألا يتعرّف إلا على قدرته الخاصة على التعبير. وهذا التعبير، كما ترينا كل واحدة من «القصص»، يشع بغموض ماكر وبذلك الجمال الصاخب والمدمر الذي سيكون آندريه بريتون واحداً من أوائل مكتشفيه. التعبير الذي يتبع خطى نيتشه في تعبيره القائل: على المرء أن يستخدم الكلمات كي يمزق كينونته الحميمة. أما ما يتبقى من ذلك فإنما هو أسلوب يرتكز الى الشكل أكثر من ارتكازه الى أي شيء آخر، «على اعتبار الشكل آخر ملاذ لنا يحمينا من التفكك الذي يفرضه علينا عصرنا المهترئ» وفق تعبير بنّ نفسه.

> وإذا كان من السهل على قارئ بنّ أن يكتشف كم أن هذا الأخير سخّر الكلمات واللغة بصورة عامة من أجل التصدي للإهتراء ولروح الزمن الخبيثة في مرحلة كان من الواضخ فيها أن العالم يسير نحو خرابه، فإن التفرّس في مجمل أعمال هذا الكاتب يوصلنا الى النتيجة نفسها... الى معركته المتواصلة.

> ولعل الرسمة التي وضعت لغلاف المجموعة الشعرية «لحم» لغوتفريد بنّ، تكفي في حد ذاتها للتعبير عن توجهات بنّ الشعرية وعن «الحياة المزدوجة» التي عاشها. وعبارة «الحياة المزدوجة» اختارها غوتفريد بنّ عنواناً لسيرته الذاتية التي وضعها في اخريات ايامه وملأها بالتهكم على حياته وعلى اختياراته وخيباته. اما الرسمة التي نعنيها فهي تمثل مجموعة من الأطباء والممرضين منكبين على تشريح جثة، أو على إجراء عملية جراحية لمريض. ليس في تلك الرسمة اية شاعرية بالطبع، لكن فيها الكثير من النزعة التعبيرية التي سادت الفنون والآداب الألمانية (والنمسوية بالتالي)، خلال الثلث الأخير من هذا القرن، كردّ يائس على ما أصاب ألمانيا وأوروبا عموماً.

> شعر غوتفريد بنّ كان تعبيرياً ساخراً ومأسوياً فيه موت ودماء، وفيه تهكم ويأس ورعب. والحال أن هذا المظهر الإنحطاطي الذي طغى على شعر الرجل، كان وراء منع النازيين له من النشر، وحين وصلوا الى السلطة اعتبروه من الكتاب والفنانين اليائسين الذين يريدون أن يجعلوا من يأسهم عدوى تصيب الشعب الألماني كله، غير أن النازيين لم يمنعوا كتب وأشعار غوتفريد بنّ فقط، بل منعوه هو كذلك من ممارسة الطب. وبنّ كان طبيباً ايضاً، وطبيب جلد وأمراض تناسلية بالتحديد. وفي إمكاننا بالطبع أن نلاحظ في شعره آثار هذا التخصص، الذي كان في ذلك الحين يضع الطبيب، صاحبه، على تماس مباشر مع حثالة المجتمع ومع الغانيات. من هنا لم يكن من قبيل الصدفة أن يعين غوتفريد بنّ، المجند كضابط طبيب في جيش الاحتلال الألماني في بروكسيل، طبيباً للمساجين وللغانيات فيها. وهذه السمة كذلك سنجدها ماثلة في شعره حتى آخر أيامه. أما السمة الأخرى التي تبرز من ذلك الشعر وتجعل غوتفريد بنّ مميزاً بين أقرانه من الشعراء الألمان، فهي السمة المتوسطية، حيث من المعروف أن الشاعر جال في العديد من موانئ البحر الأبيض المتوسط خلال عمله أوائل القرن طبيباً على السفن. وكل هذا جعله يقول في خاتمة حياته عبارة يرى كثير من مؤرخي سيرته انها تكاد تختصر تلك السيرة: «ليست الحياة سوى بنّاء جسور فوق النهر تنزلق بعيداً...».

> ولد غوتفريد بنّ العام 1886 في مانسفلد في ألمانيا، ابنّاً لراهب لوثري، وهو درس اللاهوت في جامعة ماربرغ، غير انه لم يكمل تلك الدراسة بل انتقل ليدرس الطب في كلية الطب العسكرية، حيث تخصص في أمراض الجلد والأمراض التناسلية، وعيّن طبيباً في السفن. وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى جُند كطبيب في الجيش الألماني كما أشرنا، وكان ذلك ما قاده الى بروكسيل والى عالم الحثالة والمشردين والغانيات والسجون، وترك آثاراً عميقة في نظرته الى الجنس البشري والى «بشاعة الشرط الانساني» وفق تعبيره. فاذا اضفنا الى ذلك موت زوجته الأولى شابة في العام 1914 ثم انتحار صديقة له بعد ذلك بفترة قصيرة، سيمكننا ان نفهم سر التشاؤم الذي سيطر على حياة بنّ وشعره، كما نفهم العناوين التي كان لا يفتأ يعطيها لمجموعاته مثل «مشرحة» و «لحم».

> إذاً، عندما وصل النازيون الى السلطة، منعوا بنّ من النشر، كما منعوه من ممارسة الطب. فماذا يفعل؟ بدلاً من الهرب وسلوك درب المنفى، وبدلاً من الاستسلام والصمت، وجد أن أفضل ما يفعله هو الانخراط في الجيش الألماني مجدداً، فعيّن ضابطاً، وخاض الحرب العالمية الثانية جندياً طبيباً، من دون أن يؤمن بالنازية، وكان يقول دائماً أن «الجندية إنما هي أكثر السبل ارستقراطية للهرب من الواقع المزري»... عندما انتهت الحرب العالمية الثانية وزال النظام الهتلري، عاد غوتفريد بنّ لكتابة الشعر ونشره، وعمّت شهرته هذه المرة في شكل استثنائي حين راحت الأجيال الجديدة تكتشفه وتقارنه بـ ت. اس. اليوت، الذي كتب عنه دراسات عدة معتبراً إياه واحداً من أكبر الشعراء الألمان الأحياء في حينه.

> وكانت مجموعة «قصائد احصائية» (1948) هي التي أعادت اليه اعتباره، في الوقت الذي عاد فيه لممارسة الطب... وظل ذلك دأبه في حياته المزدوجة كشاعر وطبيب، حتى رحل عن عالمنا في العام 1956 عن عمر يناهز السبعين سنة، وهو في قمة المجد، بعد أن نشر سيرته الذاتية في كتاب لقي رواجاً كبيراً في حينه وترجم الى العديد من اللغات.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...