قصة اعجبتني: قرض زراعي للسلطان

16-04-2017

قصة اعجبتني: قرض زراعي للسلطان

في أحد أيام تلك السنة , التي توسطت عقد السبعينيات من القرن الماضي , وفي المصرف الزراعي في مدينة "صلخد" كان قسم التسليف في المصرف المذكور, منهمكاً في تدقيق تلك المعاملة , والتأكد من احتوائها على البيانات المطلوبة , وكافة الضمانات , استعداداً لحضور صاحبها للتوقيع عليها , واستلام مبلغ القرض الممنوح له , إضافة لبقية المعاملات التي حل دًوْرُ أصحابها لاستلام مبالغ القروض الخاصة بهم .
تمت التحضيرات النهائية , بانتظار مدير المصرف الأستاذ "سليم"* , الذي كان عليه أن يتوج المعاملات بالتوقيع النهائي قبل التسليف ومن بينها معاملة خاصة وملفتة , بل ومثيرة ..! تعود لـ "مواطن ٍ" له وضع اعتباري مفترض , ومكانة خاصة ..
الموظفون في المصرف , تعاطوا مع تلك المعاملة , كأية معاملة أخرى , وحددوا دوراً لصاحبها للمثول والتوقيع , ومن ثم استلام مبلغ القرض .
وقد صدف , أن أحد المدرسين كان قد عُيِّنَ له ميعادٌ , لاستلام القرض الخاص به في ذلك اليوم أيضاً , و حضر بدوره ليتأكد من موعد الصرف .. تُليتْ عليه قائمة بأسماء الذين حل دورهم للاستلاف , بعد استكمال إجراءاتهم , ومن بينهم صاحب المعاملة المذكورة , حيث تُليَ اسم ذلك الرجل مع باقي الأسماء , وكان دوره السابع , أو الثامن في الترتيب ..
إنه المواطن .. سلطان ذوقان الأطرش .!!
صُدم المدرِّس المذكور عند تلاوة الإسم , أحس بدويِّ ما في داخله , كما القنبلة .. تبع ذلك سيلٌ من التساؤلات ازدحم في رأسه : معقول ؟؟.. شيخ الثوار .. قائد الثورة السورية الكبرى ..
من لم يترجل لعدة عقود عن حصانه .. ونام في العراء واصطحب المنافي مُلاحقاً ومطلوباً للإعدام من قبل المستعمر .. من ملأ اسمه كتب التاريخ .. يقترض من المصرف الزراعي ؟؟
عَبَرَ كل ذلك في مخيلته .. وحدَّث نفسه : كل شيء توقعْتُهُ , إلا أن أرى اسم هذا الرجل الأسطورة في لائحة المستلفين لقرض زراعي ..! ترى ــ قال في نفسه ــ لو كان الشاعر "القروي" رشيد سليم الخوري حياً , ورأى ما أرى الآن ما الذي كان يقوله من شعر ؟؟ ماذا يقول ؟ وهو القائل مخاطباً سلطان :
وأي ُّ دريئة تعصي حساماً ..... تعوَّد في يمينك أن يطيعا ؟؟
ألا أنزلْتَ إنجيلاً جـــــديداً .... يعلمنا إبـــــــاءً لا خنوعا !!
هل كان "القروي" يقوى على مشاهدة ما أراه اليوم بأم العين ؟ وتابع : لقد تقدمتُ بطلب للمصرف وأنا خَجِلٌ , بسبب حاجتي لمبلغ من المال , لعدم كفاية راتبي . الآن استطيع الحصول على القرض دون تردد أو انقباض , أو حرج ! فها هو سلطان الأطرش الذي ملأ التاريخ بأفعال هي أقرب إلى الأساطير , يقترض من المصرف كغيره من الفلاحين البسطاء ..وسرعان ما ازدادت دهشته , عندما سمع المدير يقول : سيِّروا المعاملات على عَجَلْ , إلا معاملة سلطان الأطرش , وافوني بها إلى مكتبي دون دعوة صاحبها .. تسلم المدرس المذكور مبلغ القرض , لكنه لم ينصرف , بل دفعه الفضول إلى البقاء لتقصي أمر هذه المعاملة ..
بعد نحو ساعة , أمر المدير بنقل سجلات التسليف , والصندوق , إلى سيارة المصرف , قائلاً للموظفين :
سننقل المصرف لمدة ساعة فقط إلى منزل صاحب هذه المعاملة ـــ وإشار إلى المعاملة الخاصة بسلطان الأطرش ــ لماذا ؟ قالها رئيس قسم التسليف بدهشة بادية !.. رد عليه المدير : سنسلمه مبلغ القرض في بيته .. وتابع وسط دهشة موظفيه :
إن من حمل قضية وطنه يوماً.. وافترش القفار والتحفَ السماء , لمدة تزيد عن ثلاثة عقود وخاض الملاحم الأسطورية ضد المستعمر .. ولم يساوم .. أو يتلقف المكاسب ..يستحق أن نحمل إليه "مصرفنا " لمدة ساعة فقط .. إن ذلك فخر للمصرف ..
انصرف المدرس بعد أن استحوذت عليه مفارقة صادمة .. وحدَّثَ نفسه :
المرحوم والدي , عاصر سلطان الأطرش أيام الثورة , وشاركه فيها مع الكثيرين , عاصره فارساً تَحْسِبُ له الدول حساباً في ذلك الزمان ..
وهاأنذا أعاصره !.. وأشاركه .. ــ ليس ثورة أو ملعب تضحيات ــ !
بل .. مديونية للمصرف الزراعي .. فحسب ..!! فيا للمفارقة ..
في " القريًّا" ... وفي مبنى " هيئة الأركان العامة " آنذاك .. ( مضافة سلطان الأطرش ) وفي المكان الذي التأم فيه يوماً معظم رجالات الثورة السورية الكبرى .. ولاذ َ بِهِ الكثيرون طلباً للأمان والحماية .. وتحت ذاك السقف عينه .. استقبل سلطان " هيئة المصرف " مرحِّباً ..
وبتلك اليد التي امتشقت السيف .. ووقعت على النداء الشهير ( إلى السلاح .. إلى السلاح .. أيها العرب السوريون .. يا أحفاد العرب الأمجاد ... ) وقَّع سلطان الأطرش على مديونية المصرف , وعلى التعهد بسداد الدين بانتظام .. تحت طائلة الحجز وموجبات قانون جباية الأموال العامة ..!
فأيهما الدائن وأيهما المدين يا ترى ؟؟

*ــ هذه الواقعة ليست حكاية من بنات الخيال , ولكنها حصلت فعلاً , وكان المرحوم
المحامي سليم الجرمقاني مديراً للمصرف الزراعي في صلخد , في ذلك التاريخ .

                                                                                              المحامي متروك صيموعة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...