ليا ميلاندري: الحب والعنف: العوامل الكيدية للحضارة

17-07-2020

ليا ميلاندري: الحب والعنف: العوامل الكيدية للحضارة

مراجعة: ماري مان ـ ترجمة : كلاديس مطر
ولدت ليا ميلاندري في بلدة فوسينيانو عام 1941 ، وهو نفس العام الذي أعلنت فيه إيطاليا الحرب على الولايات المتحدة ، وذلك قبل أربع سنوات من منح المرأة الإيطالية حقها الكامل في التصويت.
بعد ان انتقلت في نهاية المطاف الى مدينة ميلانو، تحولت ميلاندري الى نسوية ثورية كما ساهمت في تأسيس و إدارة مجلة (ليربا فوجيليو) النسوية وكذلك الجامعة الحرة للنساء.
ولكن قبل كل ذلك ، نشأت الكاتبة في منزل مكون من غرفتين يشغله ثمانية أشخاص ، مما يعني أنها كانت تساكن والديها، أي تنام بجوار سريرهما حيث كان يحدث كل شىء " في فقر عائلتي ، في العنف الذي كان لا مفر منه بين رجل و امرأة. لقد كنت شاهدة على الجنس والعنف الذي لم أكن أعرف أين يبدأ الأول وأين ينتهي الثاني".
تلك هي بدايات واحدة من أكثر الناشطات النسويات الايطاليات بروزا وكذلك هي القاعدة التي بنت عليها فصول كتابها (الحب والعنف: العوامل الكيدية للحضارة) الذي نشر أول ما نشر في ايطاليا عام 2011، والذي كان الأول بين كتبها الثلاثة عشر الذي ترجمه الى الانكليزية انطونيو كالكانو، والذي كان النافذة التي تطل على نظرية النسوية والتاريخ الايطالي..
قد تكون نشأة الكاتبة خلال فترة الاربعينات والخمسينات هي ما اعطت لهذا الكتاب شكله وكذلك معطياته التي غذتها سنوات الثورة في الستينات والسبعينات التي عاصرتها . لكن كتاب الحب والعنف هو أيضا كتاب ينتمي جدا الى حقبته من القرن الماضي . إن رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني والزعيم الحالي لحزب فورزا السياسي ورد ذكره في مقدمة الكتاب باعتباره شخصية كانت السبب وراء " سلسلة من الأحداث التي لم يكن من الممكن ان تتركنا غير مبالين تجاهها" . من بين العديد من المرتكبات الاخرى مثل الرشوة والاحتيال الضريبي وعلاقته بالمافيا، يُزعم أن برلسكوني قد قدم مناصب سياسية لنساء أراد إقامة علاقة جنسية معهن. لقد ارغمهن من خلال مناصب في السلطة قدمها لهن ؛ مقايضة أظهرت لميلاندري أن التحرر الذي تختبره النساءاليوم " ما هو سوى تحرر مشوه".
بكلمات اخرى ، إن الحرية التي فازت بها نسويات القرن العشرين قد تم تغليفها بهذا المفهوم المشوه حول المساواة وذلك لمجرد أن امرأة اليوم قد تشغل مناصب عامة ، والذي – هذا المفهوم- " يستخدم من أجل التعتيم على سلطة الرجال وقوامها على النساء."
إن مفهوم هذا التحرر المشوه وكيفية حصوله إنما هو الموضوع الأساسي لكتاب (الحب والعنف) حيث تتبعت ميلاندري اختلال توزان القوى بين الرجال والنساء وذلك في بدايات الحياة السياسية والعامة التي " كان من أسسها العملية هو استبعاد النساء". لقد عثرت الكاتبة على جذور هذا الاستبعاد في المنطق الذي يفصل بين الشحص المفكر وجسمه – الجسم الذي يصنعه جسم الأم والذي من أجل ذلك اعتبر ذو طبيعة أدنى – بحيث نتحدث وبشكل طبيعي عن اجسامنا باعتبارها اشياء نملكها بدلا من اعتبارها انها ما نحن؛ على سبيل المثال، جسمي يؤلمني، سيطر على جسمك من خلال هذا النظام الغذائي، انها تملك جسما جميلا . إن هذه الحجة أو الجدل هنا إنما يشبه العرض الذي قدمته جوديث بتلر عن المرأة باعتبارها جسد مقابل الرجل باعتباره عقل، لكن ميلاندري تذهب الى أبعد من ذلك مشيرة باصبع الاتهام الى الرجل والمراة معا في عملية الفصل هذه: "في عالمنا ذي المساواة المشوهة، جميعنا نتحدث عن أجسامنا و كأنها منفصلة عنا، وكأنها أشياء علينا العناية بها واعطاءها الشرعية، بينما في الواقع، تقول ميلاندري، " اننا أجسام، و نفكر باعتبارنا أجسام." إننا أيضا أجسام تضرب وتسحق وتكسر ؛ إننا أجسام تقبل وتحتضن وتتشابك. إن الحب والعنف لا ينفصلان عن الجسم ، تضيف ميلاندري، وكذلك لا ينفصلان عن بعضهما البعض. " إن العنف – كما تقول – إنما هو متضمن في الجنس بذاته".
إن هذه ليست حجة بحد ذاتها وإنما هي حجة غير مريحة لأي منا خصوصا اذا كان لديه علاقات حب، ولأي من بيننا ممن يحبون الحب من أجل الحب – اننا نستمع الى الأغاني حول هذا الموضوع، نقرأ كتبا تتحدث عن الحب باعتباره القوة الدافعة في حياة طالب التحرر. إننا حتى نخطط سفرنا من أجل هذا الموضوع: هناك ما يقرب من تسعون مليونا من نتائج البحث على غوغل عن " أماكن رومانسية في ايطاليا". في الحقيقة إننا كثر. إن الكاتبة ميلاندري التي تعرف هذا الامر جيد، تدعم نصها بكلمات لمفكرين و كتاب آخرين، ابتداءا من فرويد مرورا بوولف وانتهاءا ببورديو الذين تؤيد كلماتهم فكرة أن الحب هو " ألطف أشكال العنف وأكثرها خفاءا"، كما يقول بورديو. إن الكاتبة تعمد الى اسقاط كلمات هؤلاء المفكرين على واقع الثقافة الايطالية حيث الروابط الاسرية هي ذات أهمية قصوى لدرجة انه من الشائع بالنسبة للرجل الراشد أن يكمل حياته بالعيش مع والدته في نفس المنزل الى ان يتزوج. والأم عليها " أن تكون قربان تضحية من أجل ان تزدهر فردية الابن : وهكذا ترى ميلاندري في ذلك إمكانية للعنف – أغلبه ذاتي الى حد كبير- في هذا الحب بين الأم والأبن كما هو الحال في الحب بين الشركاء.
مع ذلك، إن العنف بين الشركاء هو بالتأكيد أغلب ما نسمعه حيث أن توأمة الحب و العنف هنا تأخذ شكلها الأكثر وضوحا في " العنف المنزلي" : الضرب والاغتصاب وقتل النساء (نمطيا)على يد شركائهم في الحياة. وفي الولايات المتحدة الامريكية تموت أكثر من عشرون امراة كل اسبوع على يد شركائهم العاطفيين الحاليين او السابقين، كما يصل عشرون الف اتصال كل يوم الى الخط الساخن - في طول البلاد وعرضها – في قسم الطوارىء الخاص بالعنف المنزلي . ليست هذه الامور أفضل حالا في ايطاليا ، بلد ميلاندري؛ فهناك أكثر من 3000 امرأة قتلت في ايطاليا بين عامي 2000 و 2017 وكان المعتدون في ثلاثة أرباع الحالات إما شركاء في الحياة المنزلية أو أحد افراد الأسرة . ومع ذلك، كما لاحظت ميلاندري، " فان العائلة لا تزال تُمجد باعتبارها الملجأ والأمان وضمانة الشفاء والراحة." إن اللجوء الى الاسرة هو مفهوم من الصعب جدا التخلي عنه حتى بالنسبة لأولئك من بيننا الذين اختبروا وعاشوا الخوف والعنف من قبل أفراد العائلة في الماضي. عندما تضج وسائل الاعلام بشخص مشهور أساء معاملة زوجته مثلا فأن اول تعليق على الخبر يكون : " ولكن لماذا لم تتركه ؟". الحقيقة، لأنه من الأسهل علينا أن نتصور أنه هو سبب المشكلة - اي هذا الشخص المفرد، هذا الوحش – بينما لا نعترف بتفشي العنف المنزلي بين الناس الذين يحبون بعضهم بعضا.
لقد كانت الكاتبة متزوجة لمرة واحدة في السابق لمدة ثلاثة أشهر وهي في سن الخامسة والعشرين – كان زواجا متفق عليه بين زوجها والعائلتين لكنها اعترضت على ذلك ووثقت اعتراضها بدقة بحيث اضطرت الكنيسة الكاثوليكية في النهاية الى الغاء هذا الزواج. بعد الطلاق، غادرت الكاتبة المنطقة التي ترعرعت فيها الى مدينة ميلانو الاكثر انفتاحا وعالمية واصبحت ناشطة ومنذ ذلك الوقت عاشت حياة عامة غزيرة الإنتاج حيث رأى والديها فيها انها تشبه حياة " طالبة أبدية" لانه كان ينقصها زوج وأطفال الى جانبها.
في كتابها الحب والعنف، عادت بذاكرتها الى السنوات المبكرة من الحرية والانغماس في الحياة النسوية، كما حللت بدقة حقيقة الحركة النسوية في ايطاليا في فترة السبعينات من خلال إرث هذه الحركة: " غالبا ما كان يساء فهم الحركة النسوية في سبعينيات القرن الماضي باعتبارها مجرد كفاح من أجل الحصول على حقوق معينة مقابل الطلاق والعلاقات الاسرية والملكية، لتوضح بأنه " لا أحد من بيننا يريد أن يختزل الاجهاض أو الطلاق ليصبح قطعة صغيرة من الإصلاح."
كان حلم النسوية الايطالية في سبعينيات القرن الماضي أكبر بكثير ومن دون حواف، بل وأكثر من مجرد مراجعة للقوانين القائمة. لقد أرادو، كما شرحت هذا الامر الكاتبة، " إعادة تعريف الاقتصاد والسياسة على قاعدة ما تم رفضه وحصره في حدود مملكة الفرد الخاصة المنتمية للطبيعة – اي الجسم والشخص.
إن هذا يعني ، بشكل أساسي، أن الاصلاح لا يهيمن فقط على بنية السلطة وإنما أيضا على الطرق التي نرى من خلالها العالم و نفهم الواقع حولنا. إنها مهمة كبرى مازالت الكاتبة ملتزمة بها ، دافعة بقراء كتابها العنف والحب الى عدم التوقف عند الاعتراف بالعنف المنزلي فقط وإنما الى البحث في طبقات أعمق لرؤية أن هذا التشابك بين الحب والعنف إنما هو " علاقة معبر عنها في الادعاءات بأن على المرء أن يدمر من أجل الحفاظ على الحب، وأن الانسان يقتل أحيانا بسبب الافراط في الحب ، وأن المجموعة التي ينتمي اليها الانسان، أمته، أو ثقافته إنما هي أعلى من الآخر بل حتى عدوا له.
كلاهما، المرأة والرجال، ساعدا في تغذية هذه الطريقة من الوجود بحيث اندمج الحب والعنف معا ليشكلا توليفة تعبر عن نفسها في كل شىء ابتداء من ضرب الزوج لزوجته لانها تتحدث مع رجل اخر وانتهاءا بردة فعل الرئيس ترامب على احد الذين حضروا احدى تجمعاته حيث سأله عن كيفيه ايقاف الهجرة الغير مشروعة الى الولايات المتحدة، فما كان من الرئيس الا أن أجاب : " اطلقوا النار عليهم".
ليس لدى ميلاندري حلا سهلا من أجل هذه المعضلة. والحق سيكون من المشكوك فيه لو كان لديها واحداً وذلك لأن ما تتحدث عنه هنا هي طرق من التفكير والوجود استمرت لآلاف السنين طالما أن ما تم خلقه وتكريسه – اي الفصل بين الجنسين وتبخيس قيمة الجسم – قد أصبح وكأنه أمر واقع. إن ما اقترحته بدلا من ذلك هو عودة الى أهداف الحركة النسوية في السبعينيات والى وجهة النظر التي ميزت هذه الأهداف: " المنظور الذي رأى البناء الاصلي لكل هذه الازدواجيات في العلاقات بين الجنسين." و الفكرة هنا انه فقط من خلال العثور على العقد الأقدم وحلها يمكننا أن نبدأ بفك هذه الفوضى المتشابكة التي نسجناها حولنا."
ماري مان: تعمل مرجعا في جمعية بركلين التاريخية – الولايات المتحدة.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...