منشطات إلكترونية لشحن العنصرية

18-06-2006

منشطات إلكترونية لشحن العنصرية

المهاجرون. انهم الهاجس الذي يسيطر راهناً على ضفتي المحيط الاطلسي. ففي فرنسا، يثور نقاش سياسي – إجتماعي - ثقافي مُركّب عنهم. ويتخذ سياسي يوصف بانه «تاريخي»، هو نيقولا ساركوزي، من المشاعر الفوّارة حيال المهاجرين، ومن بضمنها العنصرية، مركباً للعبور إلى الرئاسة الفرنسية في الانتخابات المقبلة. وقد أثار قانونه عن «الهجرة الانتقائية» حنق المهاجرين وقلق مجموعات حقوق الانسان. وفي المقلب الآخر من المحيط الأطلسي، هزّ المهاجرون من اصل اسباني، الذين يأتي معظمهم من بلدان اميركا اللاتينية، ويُشار اليهم باسم «هيسبانكس» Hispanics، اميركا بتظاهرات أكّدت تصميمهم على انتزاع حقوقهم من جهة، كما أظهرت غضبهم من مظاهر العنصرية التي تُمارس ضدهم يومياً. ذلك موجز لأشياء تحدث في العالم الحقيقي.

لم يبق العالم الافتراضي بمنأى عن تلك الوقائع المهمة. وسرعان ما تلقفت الالعاب الالكترونية الكرة. وسارت أشواطاً بمسألة المهاجرين من العالم الثالث إلى البلدان النامية.

والحال ان ألعاب الكومبيوتر لم تعد مجرد خيال يلعب في العالم الافتراضي. وصارت نوعاً من اعلام يومي، يتصاعد أثره يومياً في دول العالم، خصوصاً في أوساط الشبيبة. كما دخلت العاب الفيديو ملاعب الاطفال الافتراضية كوسيلة للتسلية والترفيه عبر عرض برامج رقمية تضج بالاثارة والتشويق والمغامرات. ومع تنامي ثورة الانترنت، دخلت هذه الالعاب المنظومة الرقمية المعاصرة من بابها الواسع لتصبح واحدة من وسائل الاتصال الجماهيري، وبروباغندا اعلامية تخدم توجهات السياسية متنوّعة.

بمعنى أوضح، خرجت العاب الفيديو عن كونها وسيلة مفيدة لتسلية الاطفال وتنمية مداركهم العلمية والثقافية والتربوية والاخلاقية، مثل تأكيدها على التمييز بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة والقانون والفوضى وغيرها من القيم. وتسود فيها راهناً قيم السوق، خصوصاً انها في قبضة حفنة من الشركات العالمية الكبرى. ويجدر التذكير بأن الالعاب الالكترونية هي سوق استهلاكية واسعة، يقدرمردودها المالي راهناً بنحو 100 بليون دولار. ولا يتردد البعض في وصفها بأنها هو اقرب إلى “غزو استعماري جديد”. ولم تعد تأبه بأن تدفع الاطفال إلى احتراف لعبة الموت وما يرافقها من مظاهر العنف والكراهية والعنصرية والارهاب. وما يزيد تلك الالعاب خطورة ان مرجعياتها السياسية التي تحرك الاحداث والابطال وتوقع الضحايا تبقى مجهولة بالنسبة الى عالم الاطفال الخيالي.

إذاً، لم تبق الالعاب الالكترونية بعيدة من مسألة المهاجرين. وشهدت السنة الحالية موجة من الالعاب الرقمية التي تبدو، كما سيظهر لاحقاً، انها تستهدف شحن النفوس ضد هؤلاء المقتلعين من أوطانهم والمشردين تحت آفاق مجهولة.

ففي اميركا مثلا انتقلت قضية المهاجرين من اطارها الاحتجاجي السلمي الديموقراطي إلى ساحة اخرى افتراضية. وتحولت عبر العاب الفيديو على شاشة الانترنت إلى نسخة منقحة عن «لعبة الحرب» (وهذه من المصطلحات الاثيرة لدى الرئيس الاميركي جورج بوش) التي تخوضها واشنطن ضد الارهاب. انها لعبة اميركية بامتياز. ابطالها اميركيون، واسلحتها اميركية، والغاية حماية اميركا من اي تسلل عبر الحدود. ويتجسد اعداؤها هذه المرة في المكسيكيين، الذين لا يبدو ان علاقات الجيرة كانت كافية لانقاذه من عنصرية بعض صُنّاع الالعاب الافتراضية.

وقد حملت تلك اللعبة عنواناً لافتاً: «بوردر باترول» Border Patrol، وترجمتها «دروية حماية الحدود». تفتح اللعبة على علم المكسيك بألوانه الثلاثة الاخضر والأبيض والأحمر. وتبدأ بمجموعة من الاوامر والتعليمات: “اطلقوا النار على المكسيكيين الذين يدخلون الولايات المتحدة بصورة غير شرعية... اصطادوهم كما نصطاد الارانب... احصلوا على الحد الاقصى من النقاط حين تقتلون امرأة حاملاً مع طفلين صغيرين...».

بهذه النزعة الشوفينية العدوانية يجرى استنفار اللاعبين الذين سرعان ما يعلو صراخهم ويمتزج بأزيز الرصاص وانين الضحايا والصيحات الهستيرية الرافضة للهجرة. اما القائد المجهول فلا ينثني عن توجيه الاوامر الصارمة إلى جنوده «البواسل» «لا تدعوا أحداً يعبر الحدود، وبأي ثمن». وتنكشف ساحة المعركة، وهي عبارة عن صحراء شاسعة ينتشر فيها نبات الصبار البري، شيئاً فشيئاً ليظهر حراس الحدود المزودون بأسلحة وعربات مصفحة وبكامل جاهزيتهم العسكرية، لاطلاق النار وقتل اكبر عدد من المتسللين، باعتبارهم الاهداف المطلوبة. لا فرق ان كانوا رجالاً او نساء او اطفالاً.

اما بعض المجموعات الاخرى من المتسللين، فيصوب نحوهم احد الحراس الاميركيين ويقول: «هنا، امرأة ارنب، امرأة مكسيكية حامل وتجر طفلين صغيرين وهناك مكسيكي وطني مسلح حتى اسنانه، ومهرب مخدرات يحمل على ظهره سلاً مملوءاً بأورق الحشيشة الهندية «كنابس» cannabis. اما في الجهة الخلفية فيظهر 88 متسللاً آخرين».

ومن المهم ملاحظة ان هذا الرقم، اذا كُتب بالانكليزية، فانه يرمز عند المكسيكيين لعبارة «هايل هتلر» heil hitler وهي التحية النازية المعروفة! وتستعمل اللعبة أحياناً مصطلح «المُبللة ظهورهم بالماء wetbacks في الاشارة الى المكسيكيين الذين يعبرون سباحة نهر «ريو الكبير» الذي يفصل المكسيك عن ولاية تكساس. وعلى الحدود الافتراضية، ثبتت لوحة كبيرة كُتب عليها: «اهلاً وسهلاً انتم في الولايات المتحدة» وبعدها سهم يشير إلى «مكتب المساعدات الاجتماعية» الاميركي! وفجأة تظهر على الشاشة عبارة استهزاء وسخرية: «ها اذاً انت باكو. هل لديك البطاقة الخضراء؟». لنتذكر ان كلمة «باكو» تعني بالاسبانية اللص المتسلل والبطاقة الخضراء تعني حق الاقامة الشرعية في الولايات المتحدة.


دلالات مأسوية

تشير غبريالا لوميس رئيسة الجمعية المتحدة للاميركيين من اصل اسباني «هيسبانكس»، الى اعتقادها بان «الذين اخترعوا هذا النوع من العاب الفيديو، يتصورون في خيالهم العدواني ان الانسان المكسيكي ليس سوى شخص منحط ومهرب للمخدرات وخارج على القانون وان قتله ومن معه من النساء والاطفال امر مبرر طالما هو في خدمة الامن الاميركي». وتضيف “انها لعبة القتل الممنهج الذي يحول البشر إلى مجرد اشياء للعبث بها بمعنى ان القائمين عليها ينزعون عن الانسان آدميته... ويعتبر هذا العمل ذروة في الكراهية».

اما بيتر فورديري (استاذ الاتصالات وعلوم الفلسفة في جامعة لوس انجليس) فيرى «ان لعبة «دورية الحدود» يمكنها ان تشكّل الخطوة الاولى إلى العنصرية علماً ان هذه اللعبة وضعت على شبكة الانترنت في المواقع المخصصة للتمييز العنصري والتي تنعت المكسيكيين بأنهم «مرض وميكروبات سامة لا يتم الخلاص منهم الا بابادتهم افرادا وجماعات».

اما مسألة الجدار العازل على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك فهو إلى اليوم مثار سجالات ونقاشات حادة في اوساط الرأي العام الاميركي من جهة والكونغرس من جهة اخرى. ولم يتردد عدد من النواب الاميركيين في نعته بـ «جدارالعزل الاسرائيلي». ويرون انه لا يستطيع ان يحول دون تدفق المكسيكيين غير الشرعيين ممن يعبرون الحدود بمعدل نصف مليون سنوياً، والذين يشكلون اليوم نحو 12 مليون نسمة اضافة إلى ان مجمل الـ «هيسبانكس» يشكلون نحو 40 مليون شخص من سكان الولايات المتحدة و 8 في المئة من الجسم الانتخابي الاميركي.

ويرى البعض ان التظاهرات المليونية التي شهدها العديد من المدن الاميركية، خصوصاً تظاهرة الاول من ايار (مايو) الماضي قد اعادت إلى الاذهان حركة الحقوق المدنية في ستينات القرن الماضي، التي خاض فيها الافارقة الاميركيون معركة نيل حقوقهم. وان اصرار الرئيس بوش على تمرير «قانون اصلاح الهجرة» ادى إلى تدني شعبيته إلى درجة قياسية لم تصل اليها من قبل، بحسب آخر استطلاع للرأي اجرته جريدة «وول ستريت جورنال» المعروفة، والذي اظهر ان 68 في المئة من الاميركيين يؤيدون مطالب المهاجرين.

وهكذا فالرسالة الاميركية ذاتها تتكرر على الساحة الافتراضية، أي في العاب الفيديو، والحقيقية، أي في شوارع المدن، لتعبّر في النهاية عن توجه سياسي واحد. وكخلاصة، يمكن القول ان الكراهية والعنصرية شيئان متأصلان في عقول «المحافظين الجدد» المعادين لكل من لم يخرج من صلب العم سام، علماً ان الولايات المتحدة كثيراً ما وُصفت بانها «أُمة من المهاجرين»!

 

 

علي حويلي    

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...