العمر واحد والله واحد

15-07-2006

العمر واحد والله واحد

سعاد جروس : صوت المذيع في إذاعة القدس ينطلق مشحوناً بالماضي الثوري العربي, يسخن قعقعة منسية لمعارك مضى زمانها وارتاح بال العربان منها. ركاب الفان المحشورون بعضهم الى بعض مبللون بعرقهم, لم يهتزوا لجلبة المذيع فهي معتادة حتى السأم, وزاد هديره المفتعل المشهد تجهماً وكآبة, فلم ينتبه أحد لأخبار يتلوها بحماسة. كان كل شيء عادياً, فالأخبار هي ذاتها تقريباً منذ خمسين عاماً مع بعض التنويعات؛ الإسرائيليون يقتلون الأطفال في فلسطين, والمجتمع الدولي يتفرج, وأميركا تقول إن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها, وزعماء العرب يهجعون في منتجعاتهم البحرية والبرية والفضائية, يطلقون دبلوماسييهم في كل الاتجاهات لاستجداء تعاطف من هنا, ومساعدة من هناك. لا شيء مهماً قبل ظهر الأربعاء, سوى اجترار الخيبة في أجواء صيفية تُغرق الجميع في لزوجة تعرق مقزز.
بعد قليل, همس أحد الركاب في أذن جاره: كأن نشرات الاخبار العربية هي ذاتها تعاد منذ حرب 1967 ولغاية اليوم. جاره لم يسمعه, كان يصغي إلى المذيع, فأجاب بصوت مرتفع: انصت جيداً. وبشكل لا إرادي أصغى الجميع, أحدهم طلب رفع الصوت ليسمعوا خبراً انتشلهم من الملل والتجهم, ورسم على وجوههم فرحة صاعقة, ارتفع على أثره الدعاء والتكبير, فقد تمكنت المقاومة في لبنان من اسر جنديين إسرائيليين في هجوم نوعي, كسر هيبة إسرائيل وأسهم في تبديد وهم بدأه المقاومون الفلسطينيون بعملية إنزال على الجدار الالكتروني وأسر الجندي شليت. الذي ارتعدت لقضيته فرائص العالم المتحضر, وفجعت الإدارة الأميركية على وقوع الجندي بيد «الإرهابيين» الفلسطينيين, فاستحق العرب حق الفيتو في مجلس الأمن لمنع إدانة اجتياح غزة.
مهما كان الثمن باهظاً, فمن حق الشارع أن يفرح من هكذا انتصار يبدو ساحقاً في زمن تردي السياسات العربية. وبرأي الشارع أيضاً, لتكن المواجهة واسعة وشاملة ومدمرة, هل يصيبنا أكثر مما نحن فيه؟! والأمل كبير, ما أخذته أميركا من العراق ستأخذه إسرائيل من لبنان وغيرها.
قوة إسرائيل, كان أحد صناعها, ضعف وتخاذل السياسة العربية؛ قوة أصبحت الوثن الذي يتعبد في هيكله سماسرة السياسة وضعفاء النفوس ومروجو الاستسلام المهين. إسرائيل قوية لأن فساد الأنظمة العربية يحول دون أي مواجهة ودون اكتمال أي انتصار, وليس هناك ما هو اشد سوءاً وفساداً من التآمر على المقاومة في فلسطين ولبنان ومحاولات عزلها وتكبيلها. وليس ما هو أشد سوءاً من ذلك سوى جوقة قوالين تعتاش على فتات موائد الأنظمة, وتكرس ثقافة الخوف والهزيمة والاستسلام, باعتبار أن مواجهة أميركا وإسرائيل نوع من الانتحار والجنون, بل والعمل ليل نهار على وأد روح المقاومة في النفوس, بحجة الحرص على الاستقرار والأمن في منطقة لم تعرفهما منذ زرعت إسرائيل بين جنباتها.
صديق حذرني من هذا الكلام الحماسي, وذكّرني بالمذيع المصري الشهير أحمد سعيد والصحاف, وقال لا تتحمسي كثيراً كي لا تصابي بالإحباط, كما يحدث دائماً بعد كل معركة غير متكافئة. وعلى الرغم مما يحمله هذا الرأي من صوابية, إلا أنني ذكرته أيضاً بمشهد سقوط بغداد الذي لا ينسى, كيف جلسنا ننتحب وننعي ضياع العراق, وكيف كان القادمون مع الأميركان يؤكدون بأن المعركة انتهت وسينهض العراق من جديد في غضون أشهر قليلة لن تتجاوز الستة, لأن الأميركيين الأذكياء محبي السلام ومحاربي الإرهاب سيهدون للعراقيين وطناً خالياً من سم الدكتاتورية, لينعم بدسم الديمقراطية, فقد خططوا لكل شيء حتى أنهم عينوا جهاز دولة متكاملاً من البواب وحتى الوزير, وكل طرف سيأخذ حصة ترضيه؛ هذا ما راهن عليه المؤتمرون في لندن ومن ثم في صلاح الدين, حسب تصريحاتهم في التلفزيونات, فكانوا يسخرون من كل قائل بأن الحرب ليست لعبة كومبيوتر, والحسابات على الأرض ستكون مختلفة... إلخ من سجالات سبقت مشهد سقوط بغداد الذي سرعان ما تبين أنه تم إعداده في استديوات هوليوود بمعية شركات سينمائية كبرى, وتبين لاحقاً أن تلك اللحظة لم تكن نهاية للمعركة, بل بداية حرب ستطول. فبغداد لم تسقط ولم تستسلم لغاية اليوم. لكن هناك من سقط, فإعلامنا استسلم, سبقه زمرة من الحكام العرب, مشفوعة برزمة من النخب الثقافية, تواطأوا مع الهزيمة قبل بدء الحرب بشهور أو سنوات, وما هو أشد مضاضة من الاستسلام استمرار دعايات التخويف والترهيب من قوة أميركا, وكأن الأعظم لم يقع بعد, فالاعتداء على الأرض والعرض وسلب السيادة واغتصاب الرجال قبل النساء وعدم توفير جثامين الأطفال, والتنكيل بالموتى وتمريغ الشرف والكرامة والمقدسات بالوحول ليست أعظم ما ترتكبه أميركا بحق العرب والعراقيين, ليبقى التخويف والتحذير مما هو أعظم قائماً الى أجل غير مسمى, وكأن الوحشية الإسرائيلية في فلسطين واغتيال رمز ورئيس فلسطيني كياسر عرفات, وفرض حصار دولي على حكومة منتخبة, ليست حدثاً جللاً يستدعي بأضعف الأيمان الدفاع عن النفس وبعض الكرامة في وجه المغتصب القاتل.
المواجهة غير متكافئة, وقد لا تتفق الآراء حول عملية المقاومة اللبنانية الأخيرة, مع الخشية من توسيع دائرة المواجهات, لكن إلى متى يمكن لهذه الضغوط والاحتقانات الناجمة عنها إبقاء الشعوب تحت خط الأمان؟ ولماذا يجب أن يستكين العرب ويركعوا خافضي الرؤوس تحت تهديد العدو بتفجير الأوضاع بين لحظة وأخرى, وفق أجندة مصالحه الخاصة؟
لنصغ إلى صوت الشارع والبشر: إذا كان لا بد من المواجهة لتكن اليوم قبل الغد, وإذا كان لا بد من ثمن, فسوف يدفعه الجميع, وليكن لإسرائيل وأميركا نصيب فيه أيضاً ونصيب موجع, مهما كان حجمه صغيراً أو كبيراً, آن للعرب المنقوعين بعرق المذلة أن يتطهروا بدم الشهادة. لنحس بالفرح عندما تتغير نشرات الأخبار, ونسمع: المقاومة تضرب أهدفها بدقة, صواريخها تصيب مستوطنات زرعيت ونهاريا وروشبينا وحيفا و...
فلم يبق لدينا ما نخاف عليه, وأياً كان الموت استشهاداً أشرف من الموت خوفاً, لندخل المعركة العمر واحد والله واحد.

المصدر: الكفاح العربي
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...