البطولة في متناول اليد

20-07-2006

البطولة في متناول اليد

الرّعب الذي يعيشه لبنان هذه الأيام لا مثيل له في جينيالوجيّات الرّعب أو مراتب أنسابه. رعب يأتي في اللحظة البالغة الحماسة والضعف في آن، لحظة تهّيأت البلاد فيها للملمة جراحها والشروع بإعادة تعميرٍ عبّأت لإتمامها بقية طاقةٍ طاب لنا أن نتصوّرها ضخمة وغير متناهية، وإرادة أنعشنا أن نراها كاملة غير منثلمة، بالرغم من كلّ ما تراكم في ذاكرة الجراح من ألم ناغر. هشّة هي هذه البلاد، هشاشة إعجازية لفرط ما يتخلّلها من إصرار على معاودة اجتياز العوائق في كلّ مرّة. من لا شيء يبدأ اللبنانيون إعادة ترميم كيانهم المهيض، حفنة من الزيتون وشيء من الجبن، كما تقول الأغنية المعروفة، يكفيان ليشعر اللبنانيّ ببحبوحة مستحقَّة ومنولة بفضل عراك لا يهدأ مع المحل. هي شعرية كيانية تمتدّ عريقاً في الزمان، وتبزّ التواريخ الكبرى بما يشكّل جوهر التاريخ نفسه، القدرة الهيّنة والفائقة المواظِبة، والتي تجد في مواظبتها حيلة كافية لتطويق اليباس.
منذ شهرين كنتُ في لبنان، وقبلها بعام كنتُ قد عدتُ إليه كالظامئ يروي عطشاً وجوديّاً قاهراً، أو كالمعتلّ ينشد شفاء من سقم مقيم. كنت زرتُه على عجل في مطلع الثمانينيّات، ثمّ حرمتني منه بعد ذلك سنوات الحرب وسنوات جوعي نفسه. أتذكّر من زيارتي الأولى تلك أنّني تعرّفت على حسن داود وسمير صايغ، وتعمّقت في معرفة عباس بيضون والياس خوري وكنت عرفتهما من قبل بباريس. ولطالما دهشتُ، أنا الريفيّ الذي غادر العراق قبل أن تبدأ ملحمة الدماء التي سيفرضها صدّام، كم ينطلق اللبنانيون من قدرة عجائبية على هندسة الحياة وتجميلها نهاراً نهاراً وليلة ليلة. كانت الحرب تفرض منطقها الضاري على جميع الأحياء، وكانوا نصحوني بعدم مغادرة حارة الفاكهاني الضيّقة والتي كانت مع ذلك تتّسع لأحلام الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين الذين جاؤوا محتمين بالمدينة من قهر سياسيّ كان قد راح يتواتر بإيقاع متسارع مريع. والتفتّ يومذاك إلى أنّ البطولة، بفضل نوع من الصحو مستميت وشائع لدى الجميع، كانت في متناول اليد، وإلى أنّني أنا نفسي سأنال شيئاً منها بقليل من الجهد. عدت في إحدى الأمسيات سيراً على القدمين من حارة كلية التربية في بيروت، حيث كنت ذهبت لزيارة صديق، إلى جوار شارع الحمراء، حيث كنت أقيم. كان الفجر يبعث خيوطه الفضية وكانت الشاحنات تلقي أمام أبواب دكاكين البقالين حمولتها من الفاكهة. أتذكّر أنّني أخذت من إحدى الشاحنات برتقالة وشرعتُ أعضّها من دون أن يخطر على بالي قطّ، ولا على بال أحد، أنّني مارستُ فعل سرقة في وضح النهار. عندما قابلت أصدقائي في <مقهى أمّ نبيل> بعد ساعات، قالوا لي إنّ الشرود وحده أو البطولة وحدها يسمحان لكائن باجتياز هذه المسافة في مثل تلك الظروف وحيداً وسائراً على القدمين. كانت بيروت تحرسني في الحقيقة، براءتي وبراءتها كانتا على وفاق، وما كان ليفجعني أكثر من اللزوم أن ألقى هناك موتي، حيثما بخلت عليّ باريس بموت مبكّر وجليل.
في زيارتيّ التاليتين، في الصيف المنصرم ثمّ قبل شهرين لحضور مؤتمر قصيدة النثر، فوجئت بشقاقات صغيرة وهي تتخلّل وحدة المثقفين الطليعيين اللبنانيين، أنا الذي كنت أراهم في مخيّلتي الحالمة جبهة موحّدة منهمكة على العمل في ورشة إبداعية هائلة السعة. لكن السرعة التي عاد فيها كلّ شيء إلى نصابه وسكتت الأصوات <المتحاربة> أعادت إليّ اليقين بأنّ لبنان يظلّ هو <المحترَفَ> الذي يأتي منه في كلّ مرّة جديدٌ ما، جديد أساسيّ.
إخوتي اللبنانيون هؤلاء أنفسهم يجابهون اليوم التدمير الآتي ليقرع أبوابهم من جديد. أنا موقن من أنّهم سيهزمونه هذه المرّة أيضاً، ويعودون، هذا إذا ما انقطعوا عنه للحظات، إلى دأبهم الذي صار لهم، كما أسلفتُ في القول، ديدنَ كيانٍ وشعريةَ وجود: هندسة النهار بأجمل ما يمكن، وبكلّ ما هو في متناول اليد، متناول تقع البطولة منه في الصميم ولا تشكّل القصيدة إلاّ واحدة، واحدة فحسب، من أجمل آياته.

كاظم جهاد
المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...