رسالة الإسلام : لا خلاف في الدين الحق

03-08-2006

رسالة الإسلام : لا خلاف في الدين الحق

شرع الله الإسلام لرفع الخلاف الذي وقع بين الناس في العقائد ، لأن التدين فطري في النفس البشرية ، وموجد الوجود الذي يتوجه إليه الإنسان بالعبادة والإخبات، لا حد له ، ولا تستطيع أقوى العقول البشرية أن تصل إلى كهنة ، فكيف يعقل أن تختلف فيه ؟ وقد عبد الخالق على هذه الحالة أحقاباً طويلة ، فقد أثبت الأستاذ الكبير ( ماكس موللر ) الألماني في كتابه ( أصل الدين وارتقاؤه ) ، بالنصوص الدينية الهندية أن الإنسان أول ما عبد سجد للخالق وحده ، و أما هذه الأوثان والأنصاب فليست إلا بنات الخيال ، استدعتها محبة الإنسان للمس كل ما يشعر به في نفسه ، قال ماكس موللر : ( إن هذه الآلهة المجسمة ليست إلا تمثيلاً طرأ على الإنسان بعد تلك الحالة الفطرية . وبناء على هذا فقد ركع آباؤنا وسجدوا أمام الله الحق حتى قبل أن يجرؤوا على الإشارة إليه باسمه ) .

   ثم استرسل هذا المؤلف في البيان فقرر بأن أصل الأديان كلها واحد ، و ماكان سبب تخالفها إلا ما أحدثته النزعات الإنسانية ، ، والأهواء النفسانية ، من الميل للتحديد والتقييد والحصر ، وهذا هو ما نزل به القرآن المجيد حرفاً بحرف .قال الله تعالى  : * كان الناس أمة واحدة ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، و ما اختلف فيه إلا الذين أتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم ، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم * .

 أي أن الناس كانوا أمة واحدة، فاختلفوا، فأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين ليهدوهم إلى وجوه رفع الخلاف، لأن الحق لا يجوز الخلاف فيه.
وقد شدد الله تعالى في الزجر على الخلاف في الدين لأن تفرق الكلمة فيه يؤدي إلى شر ضروب الانقسام بين الجماعات ، ويلد أنكأ الضغائن بينها ، وقد عرف أن أغول الحروب غولاً ، وأهولها هولاً ، كانت في جميع أدوار التاريخ الحروب الدينية . وقد أصاب المسلمين
نصيب منها في القرن الأول من جراء تفرق الكلمة على الخلافة ، كان أثرها في وقف الفتوحات الإسلامية ملحوظاً ، على أنها كانت ذات طابع سياسي ، ولكنها سرعان ما تطورت إلى خلاف ديني للعلاقة الأكيدة بين السياسة والديانة في الإسلام ، ودخلت في تطورات شتى لم تنته إلا وللمسلمين ثلاث وسبعون فرقة ، ولولا أن الله حمى هذا الدين ، لما بلغ المسلمون ف النواحي العلمية والعملية ، وفي بناء صرح المدنية في القرون الستة التي تلت وجوده ، إلى مثل ما بلغه مما يذكره مؤرخو الأجانب مقروناُ بالإعجاب والدهشة من حكمة الديانة الإسلامية .

   وبعد أن أصاب الدولة الإسلامية الضعف ، وأذهبت طيباتها الفتن ، اقتسمت بلادها بعض هذه المذاهب ، فاستقل كل فريق في قطر وأخذ يعمل على شاكلته ، وبقي خيال من كلمة جامعة لخلافة بغداد تشاركها فيها خلافة في الأندلس ، وأخرى في مصر ، وغيرها في غيرها مما حدا بشاعر ذلك الزمان أن يقول :
                وتفرقوا شيعاً فكل مدينة          فيها أمير المؤمنين ومنبر
   ومن العجب العاجب أن يقع خلاف بين المسلمين ، لا لأن الله سبحانه وتعالى نهى عنه وشدد في النهي فحسب ، ولكن لأن أصول الإسلام جلية بينة لا تقبل التشكيكات ، وقواعده قاطعة مانعة لا مجال معها لتعدد الاحتمالات . وقد أفرغت في صورة لغوية بلغت من ضبط المعاني، وتحديد المفاهيم، حداً لا يصادف في كلام أبلغ البلغاء. فإن شوهد من الناس من يتوسع في استخراج معان مختلفة من ألفاظ معينة ، فإنه إنما يفعل ذلك على حساب نفسه لا على حساب الآيات التي بين يديه ، وقد وصف الله كلامه بالبينات في مواطن كثيرة ، تقريـــراً في الأذهان أنها لا تحتمل للبس وتدل على مقاصدها دون معاناة ولا كد وكرر هذا الوصف لكلامه نحو ستين مرة في كتابه الكريم كقوله تعالى : * فيه آيات بينات * و * بل هو آيات بينات * و * أنزلنا إليك آيات بينات * ... الخ ، تنبيهاً على أن الزم ما يلزم الكلام الإلهي فهمه على وجهه الصحيح ، لا على وجه يساور أهواء النفوس  وبنات الخيال ، وهو ما تتدافع إليه النفوس الساذجة تطلعاً لتنور بعض الأسرار العلوية من خلال الألفاظ ، وفضول العبارات ، وهو الأمر الذي أفسد جميع الأديان ، وأمكن رؤساء المذاهب من تضليل العقول ، وتسخير أصحابها لخدمة أهوائهم .     
  - لم يكتف الإسلام بما كرره من وجوب الوقوف مع مدلولات الألفاظ الحد المسموح به ، ولكنه سند ذلك بتحفظ آخر أدل  على ما يريده من كل ما سبق وذلك أنه لما أطلق القرآن الكريم على عيسى عليه السلام أنه روح منه في قوله تعالى : * كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه * قال النصارى  يكفينا ذلك توهماُ منهم أن إطلاق كلمة روح الله على عيسى تدل على بنوته له ، فأنزل الله في دفع هذا الضرب من التأويل قولاُ فصلاً لا عذر لمتقول على الدين بعده ، قال تعالى : * هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ، وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله . والراسخون في العلم يقولون آمنا به . كل من عند ربنا . وما يذكر إلا أولوا الألباب *.

   بهذه الآية ، أوصد الله آخر باب لتأويل  آيات القرآن الكريم وألفاظه وفقاً لما تتطلبه الأهـواء ، أو لتأييد بعض الآراء ، والمتأمل في كل هذه التحفظات ، يرى إلى أي مدى وصل تشديد الكتاب الكريم على أهله في لزوم الحرفية في الدين . وإن ديناً هذا شأنه كان يجب أن لا توجد فيه فرق يخالف بعضها بعضاً ، ولكن الطبيعة البشرية تتغلب على جميع الحوائل الأديبة والمادية ، وتظهر وجودها قوية متشددة ، ولكن لا يغبن عنك أنها في الإسلام لم تستطع أن تتغلب على الحقائق الرئيسية ، وهي ميزة لهذا الدين صان الله بها كيانه سليماً من آثار التقلبات إلى اليوم .

   ومن ناحية أخرى نرى أن جذوة الحماسة الدينية التي كانت تحفر هذه الفرق للتنا بذ ، وتربص الدوائر بعضها ببعض ، قد خفت اليوم وطأتها إلى درجة تكاد لا تحرك فيها ساكناً ، وهذه البقية المتخلفة تكفل إزالتها الثقافة العصرية التي عمت الخافقين ، وقربت العقول والقلوب بعضها لبعض ، وقد لا ينقضي جيلان أو ثلاثة حتى تزول الحدود الفاصلة بين هذه الفرق ، لاشتغال العقول بما هو أبعد منها أثراً في تكييف الشخصية ، وهو العلم ، العلم الذي يجب أن تتألب جميع العقول البشرية لدفع خطره عن العقول الشرقية . ولست في حاجة لأن أبين أن للعلم خطراً ، وهذا الخطر ماثل أمام أعيننا في جميع البلاد على السواء ، فلو وفقنا الله لصيانة الإسلام منه نكون قد أدينا للأخلاف خدمة سوف يذكرونها مقرونة بالثناء والدعاء.


أ‌. محمد فريد وجدي

من مختارات الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...