لماذا فشل الكواكبي في تطوير نظريته عن الاستبداد؟

09-09-2006

لماذا فشل الكواكبي في تطوير نظريته عن الاستبداد؟

إن التفكير في الاستبداد ملازمٌ للتأمل في نمط إدارة الدولة، أي أن البحث في أسباب طرق السيطرة والعسف في استخدام السلطة يقود بالضرورة إلى بلورة نظرية عن الاستبداد كشكلٍ من أشكال السلطة التسلطية (الأتوتارية) أو الشمولية (التوتاليتارية).

إذا عدنا إلى جذور التفكير في الاستبداد كنظرية قائمة على استثمار موارد الدولة لمصالح خاصة تحتكر السلطة وتعيد إنتاج الدولة ذاتها كأحد تعبيرات السلطة أو مفرزاتها، لوجدنا أن ماكيافيلي كان أول من اعتبر أن السلطة السياسية قوة يتم امتلاكها لأجل إقامة الدولة، بل إنه قد فكّر في الدولة كقوة تقوم على الضرورة والتدخل في الواقع لأجل التحكم فيه، إذ ليست الدولة وسيلة لتحقيق السعادة أو الفضيلة أو الحكمة كما رأى أفلاطون وأرسطو، بل هي قوة فعّالة غايتها التسلط والإكراه. بيد أننا إذا عدنا إلى جيرار ميري الذي يعد من أبرز دارسي ماكيافيلي لوجدناه يؤكد أن أصالة ميكافيلي تكمن في كونه أعاد التفكير في السياسي إلى بنية العالم التاريخي، وهو بذلك هيّأ للحداثة السياسية الطريق لبناء الدولة التاريخية على أسس إنسانية، أي على توازن القانون والقوة. فلم تعد السياسة مجالاً يحكمه الإلهي، ولا هي تحقيق لتخطيط أو غائية تفرض ذاتها على حياة البشر من الخارج على حد تعبير منصف عبدالحق في بحثه الجيد عن جذور فكرة الاستبداد في العقل السياسي الحديث.

لكن المبدأ الذي حكم السياسة وفقاً لأمير ماكيافيلي كان قائماً على السيكيولوجيا الخاصة بالطبيعة البشرية، إذ على الأمير ألا يبني سلطته على الأخلاق ومبدأ الفضيلة، بل على فساد الطبيعة البشرية وتناقضاتها الداخلية، لذلك، ينصح ماكيافيلي الأمير بضرورة إقامة سياسته على القوة والترهيب أكثر من الرأفة واللين. فالحق الوحيد الذي تقوم عليه سلطة الأمير هو حق القوة، وسيادة الأمير تقوم على خوف الرعايا «فلا يتردد الناس في الإساءة إلى ذلك الذي يجعل نفسه محبوباً بقدر ترددهم في الإساءة إلى من يخافونه، إذ إن الحب يرتبط بسلسلة من الالتزام التي قد تتحطم بالنظر إلى أنانية الناس عندما يخدم تحطيمها مصالحهم، بينما يرتكز الخوف على الخشية من العقاب، وهي خشية قلما تمنى بالفشل»، وعلى ضوء ذلك، يمكن اعتبار كتاب عبدالرحمن الكواكبي «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» كمرآة معاكسة ونقيضة لما كتبه ماكيافيلي، ذلك أن الكواكبي كان همه لدى كتابة الكتاب تحذير الناس من أن «أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية».

لكن - الرحالة ك - وهو الرمز الذي أطلقه على نفسه عند نشره الكتاب أراد دراسة الآثار التي يخلفها الاستبداد على أحوال الناس ومعاشهم أكثر من رغبته في دراسة أصول نشوء الاستبداد أو حتى تطوير نظرية خاصة به لأن ذلك كما ذكرنا في البداية يتطلب تطوير رؤية خاصة سابقة عن الدولة وآليات تشكيلها، والكواكبي أراد قراءة تضاعيف الاستبداد على نمط الدولة العربية – الإسلامية الموجودة في زمانه.

إن الجو الفكري الخانق في سورية في تلك الفترة جعل الكواكبي وجميع رفاقه من أهل القلم الذين رغبوا في التعبير عن أفكارهم أكثر من رغبتهم في التملق للسلطان يهاجرون إلى مصر التي قدمت حرية أوسع للتعبير، وقد ظهرت القاهرة باعتبارها المركز الفكري للشرق العربي، ومرتعاً لولادة المثقفين الجدد، ذلك أنها قامت جزئياً بوظيفة الملاذ والمأوى للشخصيات السياسية والفكرية المخالفة في الرأي في الامبراطورية العثمانية. فعبدالحميد الزهراوي هرب عام 1902 إلى مصر، أما طاهر الجزائري فقد هاجر إليها عام 1907 واستقر كل من رشيد رضا والكواكبي فيها.

فالكاتب كان مطارداً ومنفياً، وتجربته في إصدار الصحف كالشهباء والاعتدال دليلٌ آخر على ذلك، مما جعل كتابه يمتزج بالكثير من التجربة الشخصية وانفعالات الموقف المباشر (وهو ما منعه) – على رغم رياديته - من العودة الى التفكير في أصل الاستبداد التاريخي أو القانوني على ما وجدنا عند هوبز مثلاً.

فالاستبداد بالنسبة إليه هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف، كما أن صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين. وأشكال هذه الحكومة المستبدة تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولّى الحكم بالغلبة أو الوراثة، وتشمل أيضاً الحاكم الفرد المنتخب متى كان غير مسؤول، وتشمل حكومة الجمع ولو منتخباً، لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد.

بيد أن أشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز سلطة دينية. ولنا أن نقول: كلّما قلّ وصفٌ من هذه الأوصاف خفّ الاستبداد.

فالكواكبي يعيد الاستبداد إلى محض تفرد بالقرار وبالأمر والنهي، إنه نمطٌ من مماهاة ماكيافيلي ولكن بطريقٍ معاكس، فإذا كان الأخير يوجه نصائحه إلى الحاكم أو الأمير ليضمن له سيطرته المطلقة، فإن الكواكبي يحاول توصيف الاستبداد على أساس السيطرة المطلقة نفسها.

إن السلطة السياسية تستوجب قوة السلطة لتضمن احترام البشر للقوانين، فالسيادة هي الأساس الذي يجعل هذه السلطة مطلقة ودائمة داخل الدولة، أو هي الأساس الذي تقوم عليه هذه السلطة والذي بموجبه تسمى «سلطة السيادة»، فبالنسبة الى جان بودان تُعتبر السيطرة المطلقة نمطاً من أنماط تضخم السيادة لدى السلطة، لكنها لا بد تنزع تدريجاً باتجاه إعادة دور المجتمع ضمن الدولة ذاتها، وعلى ذلك تكون السلطة المطلقة مرحلة تاريخية لا تلبث الدولة ذاتها أن تراجع نفسها لإعادة تحديد وتعريف دورها. هنا الأمر مختلف كلياً لدى الكواكبي الذي ينظر إلى الاستبداد كداءٍ لا بد من التخلص منه بأي ثمن ومهما كان الثمن، من دون أن يحاول النظر في العلاقة بين الإرث التاريخي للاستبداد وبين مأسسة هذا الاستبداد عبر تقعيد أطر بناء الدولة الحديثة. ذلك أن احتكار ممارسة السلطة عبر سيادة الدولة حوّل الوظائف السياسية للدولة إلى نمط من ممارسة سلطة الحكم التي اختُزلت في الحاكم الذي اعتبر صلاحياته المطلقة مرتبطة بالالتزام بفكرة السيادة.

في الواقع، فإن الإطار التاريخي لبناء الدولة في الفكر الغربي قيّد هذه السيادة وقصرها على ما يسمى سلطة القانون، فالحاكم لا يكون مطلق الصلاحية والسيادة إلا بمدى التزامه بفكرة القانون، وعلى رغم أن فكرة القانون تُعد أقدم من فكرة السيادة ذاتها، إلا أنها غابت تماماً عن تفكير الكواكبي لدى تفكيره في الاستبداد.

وبرأيي، فإن أكبر تحدٍ منع الكواكبي من تجاوز فكرة طبائع الاستبداد إلى آليات تدميرها في الثقافة العربية والإسلامية يعود إلى عدم قدرته على إنجاز القطيعة في المزاوجة بين فكرة القانون الوضعي والقانون الإلهي.

إذ يعرف الكواكبي الاستبداد على أنه «يد الله القوية الخفيّة يصفع بها رقاب الآبقين من جنة عبوديته إلى جهنم عبودية المستبدين الذين يشاركون الله في عظمته ويعاندونه جهاراً» كما أن الاستبداد هو «نار غضب الله في الدنيا» ومرة أخرى يزيد في تعريفه بأنه «أعظم بلاء، يتعجل الله به الانتقام من عباده الخاملين، ولا يرفعه عنهم حتى يتوبوا توبة الأنفة».

وعلى رغم أن الكواكبي يقر «أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، إذ هما أخوان؛ أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان، بينهما رابطة الحاجة إلى التعاون لتذليل الإنسان»، إلا أنه ما استطاع فك الارتباط في أن تحالف الاستبدادين إنما يعود إلى غلبة السياسي نفسه على هيمنة كل حقول الحياة بما فيها الديني نفسه على اعتبار أنه الأفعل والأكثر تأثيراً في المجتمعات العربية والمسلمة.

قد يقال ان الكثيرين ممن طوّروا فكرة القانون ذاتها بدءاً من جون لوك ومونتسكيو وجان جاك روسو قد حاولوا تأسيسها في محاكاةٍ لفكرة القانون الإلهي ذاتها، فمثلاً ربط جان بودان قوانين الدولة التي هي قوانين طبيعية في رأيه - بالقوانين الإلهية التي تشمل الفضائل والقيم والتي قد تعصم الحاكم من السقوط في شراك الطغيان السياسي، لكن كما هو واضح – فإن نظرية الإلهي داخل نظرية الدولة عند بودان تعد تدخلاً للاأخلاقي (لا الثيولوجي). فالأخلاق ظاهرة بشرية، وبودان يعد حريصاً على أن تكون هذه الأخلاق والفضائل جزءاً من الغايات التي تختارها الدولة بدل أن تكون قيماً تفرض على السياسي من خارج دائرته الخاصة، وهكذا أسس بودان فكرته في بناء الدولة أو لنقل بعبارة أدق هيكلة الاستبداد السياسي على فكرة القانون محاكياً إياها من فكرة القانون الإلهي المقدس في السلطة والسيادة، لكن، مع هوبز سيغيب قانون الله لتبقى قوانين الطبيعة وحدها، وسيحسم العقل السياسي الحديث بالتالي تردد بودان وهو يفكر في الدولة بين قوانين الله وقوانين الطبيعة. وسيتقدم خطوة باتجاه فكرة القانون وسيعود خطوات باتجاه مأسسة فكرة السيادة على أسس وضعية، أي أنه سينقل عباءة الاستبداد من الديني إلى السياسي بحجة بناء الدولة صاحبة الحق الوحيد في احتكار شرعية استخدام العنف.

لأجل ذلك، يبرر هوبز الإكراه كحق طبيعي لأن (المنتصر له حق إكراه المهزوم، كما أن للأقوى حق إخضاع الأضعف) ولذلك يضع هوبز كل الحقوق بيد الدولة وأولها بالتأكيد حق الإكراه مؤسساً إياه على قانون الطبيعة ذاته، تلك الطبيعة التي تسمح لكل فرد بأن يكره غيره بالخضوع له طالما أنه أقوى منه فيزيائياً.

إذاً على رغم التعرجات التاريخية التي مر بها التفكير في نظرية الاستبداد، فإن ذلك اعتمد وأسس على فكرتين محوريتين هما فكرتا الحق والقانون، وهما للأسف لا تغيبان عن تفكير الكواكبي في إزالة مخالب الاستبداد. دعونا ننتقل إلى الفصل الذي خصصه الكواكبي للحديث عن التخلص من الاستبداد، والذي ربما فيه نجد بعض أنوية التفكير في فكرتي الحق والقانون لديه.

إذ يقرر الكواكبي أن «شكل الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر، وهو المعترك الأكبر لأفكار الباحثين» ثم ينتقل إلى ما يعتبر جوهر فكرة بناء الدولة وهي العلاقة بين الحاكم والمحكومين، إذ يعرف الاستبداد على أنه هو «الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم» ثم يعدد المباحث المتعلقة بذلك، ويبدأ بتعدادها وشرحها على شكل أسئلة استفهامية واستنكارية من دون الوصول إلى نقطة أبعد من ذلك.

والمباحث التي يعددها تتمحور حول الأمة أو الشعب، وما هي الروابط التي تجمع بين مكونات هذه الأمة؟ هل هي روابط دين أو جنس أو لغة ووطن وحقوق مشتركة وجامعة سياسية اختيارية. ثم يعرف الحكومة متسائلاً هل هي سلطة امتلاك فرد لجمع، أم هي وكالة تقام بإرادة الأمة لأجل إدارة شؤونها المشتركة العمومية، ثم ما هي هذه الحقوق العمومية؟ وهل هي حقوق آحاد الملوك، أم - بالعكس - حقوق جمع الأمم؟ وما معنى التساوي في الحقوق ومنها الحقوق الشخصية. وما هي نوعية الحكومة ووظائفها؟ ثم يذكر عدداً من هذه الوظائف كحفظ الأمن العام وحفظ السلطة في القانون، وتأمين العدالة القضائية، وحفظ الدين والآداب، وتعيين الأعمال بقوانين. ثم يفرد مبحثاً للحديث عن تعريف القانون وقوته، وضرورة التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم.

قد يبدو ذلك مناقضاً في ظاهره لما أوردناه آنفاً من غياب فكرتي الحق والقانون عن رؤية الكواكبي في الاستبداد، لكن الأمر معاكس لذلك تماماً، إذ ان فكرتي الحق والقانون لدى الكواكبي بعديتان وليستا قبليتين بحسب تعبير كانط.

ذلك أنهما تاليتان لتأسيس الحكومة وليستا سابقتين عليهم. وهو جوهر التفكير الحقوقي والقانوني، فالحق جزءٌ من الطبيعة البشرية وجملة حقوقه في الحياة والمسكن والمشرب والمأكل هي جزءٌ من ذاته الإنسانية لا يحق لأحد حرمانه منها ولا حتى الإشعار بالتكرم لدى منحها. إنها جزء من وجود الإنسان. وعندها يكون تأسيس فكرة الحق بصفتها إعادة تعريف وتوسيع للحقوق حتى يتم ضمان كفالتها للجميع تأسيساً على حق المساواة ذاته، وهنا تتأسس فكرة القانون كصنو لفكرة الحق وكنظير لها.

بيد أن الكواكبي فكّر في الحكومة بصفتها إطاراً لا بد منه، لكن عليها أن تعي أن لمواطنيها حقوقاً عليهم الالتزام بها وتطبيقها، وهو ما يفقد فكرة الحق قوتها وألقها ويجعلها أشبه بشكل من أشكال السياسة الطبيعية التي تختلف في صلاحها أو عدم صلاحها، وهي مسألة تخضع لوجهات النظر.

وبذلك تكفّ عندها فكرة الحق ذاتها عن الإشعاع بصفتها الأصل وتصبح مجرد رأي للنقاش وهي ما استطاع الفكر الدستوري الغربي التخلص منه عبر بلورة مفهوم التعاقد الاجتماعي وإعادة بناء أسس الشرعية الدستورية.

بيد أنه وعلى رغم ذلك كله، لِمَ لم تستكمل محاولة تأسيس الكواكبي على محدوديتها لدى فكر النهضة في ما بعد، أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال تطول، ذلك أن الإجابة هنا تتعدى الفكري لتدخل في السياسي - الاجتماعي وهو ما لا بد من مراجعته حتى نستطيع اليوم نزع قلاع الاستبداد المتكاثرة في بلادنا العربية.

رضوان زيادة

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...